في رياض الشعر :
أكتوبر 17, 2022الطوفان والسفينة ( موجات المقاومة )
ديسمبر 11, 2023دراسة في الشعر :
أ . د . حسن الأمراني *
كنت تلميذاً لـما وقع لي بيتان لأبي تمام ، قرأتهما في عدد من أعداد مجلة عربية ، وهما :
نــقّــلْ فــؤادك حيث شئت من الهــــوى ما الحبّ إلا للحبـــــــيب الأول
كم منـزل في الأرض يعشــقه الفتـــى وحنيــنه أبدا لأول منـــــــــــــزل [1]
وقد أعجبني البيتان ، ولم أكن أفهم منهما غير ما يفهمه العامة ، أو من كانت بضاعته في الأدب مزجاةً ، فمعنى البيتين ، على هذا ، متصل بالتعلق العاطفي الذي يكشف عنه البيت الأول ، ثم التدليل عليها بالبيت الثاني الذي يصور تعلق الإنسان ببيت الطفولة الأولى . وطرح القضية ثم التدليل عليها هو من أساليب أبي تمام ، كما تبينت ذلك من بعد .
وظل هذان البيتان لا يتجاوزان عندي هذا المعنى ، رغم أنه عرف عن أبي تمام التغلغل في المعاني والغوص عليها ، والتعلق بالغامض منها ، حتى إنه قيل عن شعره : إن كان هذا شعراً فكلام العرب الباطل . وقال له بعضهم : لم تقول ما لا يفهم ؟ فأجابه : ولم لا تفهم ما يقال ؟ ورصد بعض النقاد في شعره ما سمّيَ : ( وفرة الاحتمالات ) . فأين هي وفرة الاحتمالات في هذين البيتين المفردين ؟ وأين هو الغوص على المعاني ؟ وأين الغموض فيهما ؟ وإن لم يكن فيهما شيئ من ذلك ، فما موقعهما من مدرسته ؟
كل ذلك لم يخطر لي على بال من قبل ، ولم أضع البيتين موضع تساؤل ، وسلمت بما يسلم به كثير من الناس .
ثم كانت لحظة من لحظات السّحَر ، قدح فيها البيتان في روحي معنىً بعيداً ، ما سمعت أحداً ألمع إليه من قبل أو أشار . فهل كان ذلك هو الوارد ، بلغة القشيري ومدرسته ؟
يخلّص أبو تمام شعره من الحشو ، ويعجبه أن يكون ميسم شعره هو ما ردده كثيراً في أشعاره ، مثل قوله عنها :
تقول من تقرع أسمــاعه كم ترك الأول للآخر
وقوله :
فلَتلقينّــــك حيث كنتَ قصــــــائدٌ فيها لأهْـــل الــمكرمــــــــات مآربُ
فكأنما هي في السمـاع جــنـــادلٌ وكأنما هي في العيـون كواكبُ [2]
ويروى : ( هي في القلوب كواكب ) ، وهي أجود .
وغرائبٌ تأتيـك إلا أنّها لصنيعـك الحسَـنِ الجميـل أقاربُ
وهكذا هو شعر أبي تمام في مجمله : ولوع بالغريب ، وتنقيب عن نفائس القول وتنقير ، وشغف بإثارة الدهشة .
فإذا عرفنا كلّ ذلك لم نقنع من البيتين اللذين هما موضع التأمل بالمعنى القريب .
والاستعانة بالتفسير الإشاري مرغب فيها هنا . وعلى كل حال فإن ما وقع لي هو قريب من الكشف الذي يباغت المريد السائر في طريق الحق تعالى .
ولكن التفسير الإشاري لا بد فيه من أن يتوكأ على بيّنة ، إذ المراد البيان ، وما يُتوكأ عليه في بيت أبي تمام هو لفظة ” الأرض ” في قوله : ” كم منزل في الأرض يألفه الفتى ” .
لو بقي التعبير على إطلاقه لما غادر الرأي المألوف ، أمّا وقد جعل الشاعر المنزل ( في الأرض ) ، فمن حقنا أن نتساءل : وهل يكون المنزل إلا في الأرض ؟ وهل جاء الشاعر بهذه الكلمة عبثاً ؟ وماذا عليه لو حذفها ، إن كان لا يقصد غير هذه الأرض التي نحن نمشي عليها ؟
قال تعالى ، في سورة الإسراء ، 104 : ( وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ ) .
وهو التعبير الإلهيّ المعجز الذي حيّر بعض المفسرين ، فضربوا على غير هدى ، حيث جاءت لفظة ( الأرض ) غير منسوبة إلى بقعة بعينها ، فنسب كلّ مفسر الأرض إلى جهة بعينها دونما بيّنة . فقال بعضهم : إنها الشام ( مكي بن أبي طالب ، وابن جزي ) ، وجعلها بعضهم أرض مصر ( يحيى بن سلام ، والشوكاني ، والآلوسي ، وأبو زهرة ) ، أو مصر والشام ( الطبرسي ، والقرطبي ، والخازن ) ، وجعلها القاسمي أرض كنعان . وجعلها المراغي الأرض المقدسة .
وأورد بعضهم القولين معاً ، دون ترجيح ، كما فعل الماتريدي . وقال السمرقندي : إنها الأردن وفلسطين ومصر . وسكت بعضهم ، ولم يعين مكاناً بعينه ( الفخر الرازي ) ، بينما قال ( جواد مغنية ) : إن الله خير بني إسرائيل أن يقيموا أين شاءوا . وكذلك قال ( الطباطبائي ) .
وما نرى أحداً جاء على قوله ببينة من كتاب أو حديث ، أو اجتهاد مبني على الأصول .
على أنّ للإمام الشعراوي قولاً في هذه الآية يقرّبنا مما نبغ .
وقف رحمه الله عند قوله عز وجل : ( وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ ) ، فقال : ” فهل هناك سكن إلا الأرض ؟ إن أحداً لا يقول : اسكن كذا إلا إذا حدَّد مكاناً من الأرض ، لأن السكن بالقطع سيكون في الأرض فكيف يأتي القول : ” اسْكُنُوا الأَرْضَ ” ؟ والشائع أن يقال : اسكن المكان الفلاني من المدن ، مثل : المنصورة أو أريحا ، أو القدس ، وقوله الحق : ” اسْكُنُوا الأَرْضَ ” هو لفتة قرآنية ، ومادام الحق لم يحدد من الأرض مسكوناً خاصاً ، فكأنه قال : ذوبوا في الأرض فليس لكم وطن ، وانساحوا في الأرض فليس لكم وطن ، أي لا توطنوا لكم أبداً ، وستسيحون في الأرض مقطعين ) . انتهى .
وعلى هذا ، فكلمة ” الأرض ” في بيت أبي تمام تحدّد أن منازل كثيرة يألفها الفتى في الأرض ، أي في الحياة الدنيا . وأما حنينه فهو أبداً لأول منزل .
فما أول منزلٍ سكنه الإنسان ؟ إنه الجنة ، قبل أن يعاقب بالهبوط إلى الأرض ، بدليل قوله تعالى ، في سورة البقرة ، 35 : ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) .
إن الجنة هي موطن السكن ، والسكينة ، والاستقرار ، أما الأرض فهي موطن الانتقال حتى وإن ألفناها ، وتعلقنا بها ، كما تألف الروح الجسد ، فإن حان وقت فراقهما ، والتفّت الساق بالساق ، صعب على الروح مفارقة الجسد ، ومعالجة السكرات .
وهكذا يكون الحنين لأول منزل ، في البيتين ، يعني الحنين إلى الجنة . ولا يقتضي هذا أن يكون كلُّ إنسان مدركاً لهذه الحقيقة ، بل لا بد من أن يكون له نصيب من الشوق العظيم ، الشوق الوارد في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم : ” اللهم إني أسألك الشوق إلى لقائك ، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ” . إنه الحنين الذي أدركَ أهلَ الحال ، أو أدركه أهلُ الحال ، من الصوفية ، وممن كان له قلب من الشعراء ومن الفلاسفة . وهو الحنين الذي أفصح عنه ابن سينا في عينيته الشهيرة التي يقول فيها :
هـــبــــطت إلـــيـــك من الـــــمـــــحلّ الأرفع ورقـــــــاءُ ذات تـــــــعــــــزّز وتــمــــنّــع
مــــــحــــــجـــــــوبـــة عـن كلّ مقلة عارف وهـــــي التي سفرت ولــــم تـتبرقــع
وصــــــلـــــت عــــلـــــى كــــرهِ إليك وربما كرهت فراقك وهي ذات تفجــع
أنـــــفــــــت وما أنــــست فـــــلــــما واصلت ألفت مجـــاورة الخراب الــــبــلقــع
وأظـــــنّـــــها نسيــــــتْ عـــــهـــوداً بالحمى ومنـــــــازلا بـــــفــراقـها لم تقنـــــــع
حتى إذا اتــــصـــــلــــت بـــــهــــاء هـبوطها في ميم مركزها بــذات الأجــرع
عـــــلـــــقـــــت بــــها ثاء الثقيل فأصبحت بين الـــمعالم والطلول الــــخـضّـع
تبكي إذا ذكرت جـــــواراً بــــالــحمى بمدامع تـــــــهــــــمي ولـــمّــا تقطــع
وتظل ســــــاجـــــعـــةً على الـــدِّمَـــنِ التي درست بــــتكرار الرياح الأربـــــع
إذ عـــــاقـــها الشرك الكثيف وصدّها قفص عن الأوج الفسيح الــمُربِـع
حـــتــــى إذا قــرب المسير من الــــحــــمى ودنا الرحيل إِلى الفضاء الأوسـع
وغَـــــــدتْ مـــــفـــــارقــــــة لــــكلّ مخلّف عنها حلــــــيــف الترب غير مشـيّع
سجعت وقد كشف الغطاء فأبْصَرتْ ما ليس يــــدرك بالــعيون الـهـجّع
وغـــــــدت تـــــغـــــرد فــــــوق ذروة شـاهق والعلم يرفع كل من لم يـــرفــــع
فــــــلأي شـــــيـــــئ أُهــــبـطت من شاهق سام إِلى قعر الحضيض الأوضع
إن كـــــان أرسلـــــهــــا الإله لــــحـكمة طويت عن الفذ اللـــــبــيب الأروع
فـــهــــبــــوطـها إن كان ضربة لازب بل تكون سامعة لـــــــمــــا لم تسمع
وتـــــــــعـــــــــــود عــــــــالــــــمة بكل خفية في العالـــــمـــين فخرقها لم يرقع
وهــــــي الـــــتــــي قــطـع الزمان طريقها حتى لقد غربت بـــعــــيـــن المطلع
وكــــــأنـــــــــهــــــا بـــــــرق تألق بالحمى ثم انطوى فـــــكـأنّه لم يلــــمــــع
أنــــــعـــــم بــــــرد جواب مـــا أنا فاحص عنه فنار الـــــعـــــلـم ذات تشعشع
إنه لا شيء يُبرز حقيقةَ ( أول منزل ) مثل قصيدة ابن سينا هذه التي عارضها كثير من الشعراء ، من عهده حتى عهدنا هذا ، وممن عارضوها أحمد شوقي ، الذي عارضها بقصيدته التي مطلعها :
ضُمّي قِناعَكِ يا سُعادُ أَو اِرفَعي هَذي الـــمَحــــاسنُ ما خُلِقنَ لِبُرقُعِ
وفيها يشير إلى ابن سينا ، ومنه يعرض إلى الأنبياء عليهم السلام ، فيقول :
ذَهَبَ اِبنُ سينا لَم يَفُز بِـــكِ ساعَةً وَتَوَلَّتِ الــحُكَماءُ لَـــم تَـــــتَــــمَـــــتَّعِ
هَذا مَـــــــقـــــــامٌ كُــــــلُّ عِــــزٍّ دونَهُ شَمسُ النَـــــهـــــارِ بِــمِــثلِهِ لَم تَطمَعِ
فَــــــمُـــــحَمَّدٌ لَكِ وَالمَسيحُ تَرَجَّـــــلا وَتَــــــرَجَّــــلَــت شَمسُ النَهارِ لِيوشَعِ
ما بـــــالُ أَحمــــَدَ عَــــيَّ عَـنكِ بَيانُهُ بَل ما لِـــــعــــيـــسى لَــم يَقُل أَو يَدَّعِ
وَلِــسانُ موسى اِنحَلَّ إِلا عُـــــقــــدَةً مِن جــــانِــــبَـــيكَ عِلاجُها لَم يَنجَعِ
لَـــــمّـــــا حَلَلـــــتِ بِـــــآدَمٍ حَــلَّ الحِبا وَمَشى عَلى المَلأ السُجودِ الرُكَّعِ
وَأَرى النُـــبُــــوَّةَ في ذَراكِ تَـكَرَّمَت في يوسُفٍ وَتَــــكَـلَّمَت في المُرضَعِ
وَسَقَــــت قُريشَ عَلى لِسانِ مُحَمَّدٍ بِالبابِلِيِّ مِنَ الــــبَــــــــيـــــانِ المــُمــتِعِ
وَمَشَت بِموسى في الظَلامِ مُشَرَّداً وَحَدَتــــهُ في قُلَلِ الجِبالِ اللُــــمَّـــــعِ
حَـتّى إِذا طُوِيَت وَرِثـــتِ خِــــلالَـــها رُفِعَ الـــــــرَحــــــيــقُ وَسِرُّهُ لَم يُرفَعِ
قَسـَــمَت مَنازِلَكِ الحُظوظُ فَمَنزِلاً أُترَعنَ مِنكِ وَمَـــــــنـــــزِلاً لَــم تُترَعِ
وتفنى كلّ المنـــازل ، ويبقى أول منزل ، هو المنزل الذي تهفو إليه القلوب ، ويشتاق إليه الصالحون .
( ربّ هب لي حكما وألحقني بالصالحين ) .
وهيجت شوقي هذه المعارضات فقلت :
أول منزل
هل في الجمال كحسنك المتضوِّع ؟ فالــــشـــــمـــــسُ طالــــــعـــةٌ وإن لم تطلُع
ويرى الــمصــوّرَ في جــمالك من رأى حـــــتــــــى لـــــقــد خشع الذي لم يخشع
كَـــشَفَ الحجـابُ محاسناً مخبوءةٌ فتقنّعي ما شــــئت أن تـــــتــــــقـــــــنّــــعــي
فالــــدّرُّ مكنـــــــوناً يَعُِّز ، فـــإنْ بَدَا
نفسي بك اشتاقتْ إلى السكـن الذي تركته ، مثل حمامة لم تســــــجـع
أأســـيرة نفـــــســــــــي تــريد خــــلاصها ؟ بل أحكمي قيدي إذا لم تــخضــعِ
وتـــــطلـــــعــــــت نـــــفســــي لأول مـــنـــــزل ويــــلٌ لـــــــــمــــــــن نــــجــــواه لم تتطلع
* رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية ، المغرب .
[1] البيتان اشتهرت نسبتهما لأبي تمام ، إلا أنهما غير موجودين بديوانه ، في الشروح المعتمدة ، ومنها شرح الخطيب التبريزي ، وشرح الأعلم الشنتمري . ( انظر شرح التبريزي ، بتحقيق محمد عبده عزام ، الصادر عن دار المعارف بالقاهرة ، وشرح الأعلم ، دراسة وتحقيق الأستاذ إبراهيم نادن ، وقد قدم له وراجعه الدكتور محمد بن شريفة ، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، 1425 هـ – 2004م .
[2] ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي ، دار المعارف ، 174 .