هنيئاً لأرباب النعيم نعيمهم
أغسطس 31, 2025الافتتاحية : بسم الله الرحمن الرحيم
هل يتضامن العالم الإسلامي أو يتفرج صامتاً ؟
الأزمة التي يعيشها العالم الإسلامي منذ أمد بعيد ولا يزال ، هي أزمة الفرقة والانشقاق ، وأزمة تشتت الشمل ، وانحلال عقدة الوحدة والانسجام ، وبالتالي أزمة الاضطراب في الأفكار والاتجاهات ، والتضارب في الآراء والنظرات ، مما أدى إلى فقدان الثقة فيما بين الأفراد والجماعات ، وأحدث فوضى في كل مجال من مجالات الحياة ، وأذهب ريحهم وشوكتهم ، وشوَّه تاريخهم وسمعتهم ، وزاد إلى صفحاتهم البيضاء صفحةً سوداء أضعفت فيهم روح البطولة والإيمان ، وحرمتهم منصب القيادة والزعامة ، وأفقدت فيهم القصد والاتزان ، فتألبت عليهم الأمم والشعوب التي كانت بالمرصاد ، وسلبت منهم كل ما أرادت من جوهرة العز والقوة ، وقضت على البقية الباقية من متاع الحب والحنان ، وجرَّدتهم من كل ما كانوا يملكونه من ذاتية وخصيصة ، وعرتهم من كل ما كانوا يتمتعون به من تآلف وتوادد ، وتركتهم شعباً ضعيفاً وأمةً لا شأن لها .
كان ذلك أسمى أمنية راودت هذه الشعوب ، فلم تزل تعمل ليل نهار في تحقيقها ، وتستخدم كل حيلة فيما يعود على المسلمين بشتات في شملهم ، ونقص في معنويتهم ، ويتركهم لحماً على وضم ، وذلك لأنها توصلت بعد اختبار وتجربة طويلة إلى أن عزها معقود بذل المسلمين ، وأن انتصارها يرتبط باندحارهم ، فلابد من خلق أسباب تتكفل تجريدهم عن خصائصهم الأولى والأساسية التي تحول دون تحقق مطامعهم ونواياهم الشريرة الخبيثة ، وذلك بتفريق كلمتهم الموحدة ونقض وحدتهم الجامعة بأي طريق ممكن ، فإنه إذا تم ذلك تم كل شيئ بعده .
وركزت دول هذه الشعوب وحكوماتها – وما أكثرها وأقواها – في هدم هذا الأساس في مجتمعات المسلمين وفي نفوسهم ، وتحبيب الانعزالية والخروج عن الطاعة والتمرد على روح التآلف والتجمع إلى أفرادهم ، وقد وجدت هذه الحيلة سبيلاً إلى بيوت المسلمين وأسرهم ، ونواديهم ومجتمعاتهم ، ثم إلى دولهم وحكوماتهم ، حتى تفرقت أفكارهم وآراؤهم ، وتباينت وجهات أنظارهم وتضاربت أعمالهم وجهودهم ، ولم تعد لديهم تلك الجامعة الإسلامية الكبرى التى ربطتهم بخيط واحد ، وجمعتهم على كلمة واحدة ، وأقامتهم في صف واحد ، إنما كانوا أسراً موزعةً ، وجماعات متفرقةً ، وأحزاباً مختلفةً .
وظل المسلمون يعيشون في شتات وتمزق ، ويتأرجحون بين جانب وآخر ، لا قيمة لهم في مصاف الأمم ، وكل قيمتهم أنهم يشغلون قطعةً كبيرةً من الأرض ، ويشكلون أغلبيةً ساحقةً في معظم الأقطار ، ويملكون معادن كبيرةً من خيرات الطبيعة ، وآبار البترول ، وحقول الطاقات الرئيسية ، إذن كان لا بد من إضعافهم وكسر قوتهم ، وإخضاعهم لشواغل نفسية وغرائز بهيمية ، ونزوات شيطانية تمزق وحدتهم ، قبل كل شيئ ، وتقطع صلتهم عن مصدر قوتهم بعده .
أنتج هذا الشتات تفرقاً في الأفكار والاتجاهات ، ووجهات الأنظار ، فهنا كتل ، وجماعات ، وهناك أحزاب ودويلات ، وهذا شرقي وذاك غربي ، وهذه شمالية وتلك جنوبية ، وتحقق ما حلم به الاستعمار من تناحر وتخاصم ، بين بلد وبلد ، وأمة وأمة ، وعاد التاريخ على أعقابه ، وتجددت الجاهلية بأسماء لماعة وألقاب خلابة ولافتات جذابة ، وغزت هذه الشعوب والأمم الجالسة بالمرصاد عقر بيوت المسلمين ودخلت مخادعهم ، وأذاقتهم عذاب الهون ، وساقتهم بعصا الحكم وصادرت كل ما كانوا يملكونه من بقايا الفضائل والآداب الإسلامية ، واستولت على عقولهم وخيراتهم كلتيهما ، وفعلت من الأفاعيل ما لا يخفى على الخبير الواعي .
ولم يكن وجود هذه الأزمات والمشكلات الكثيرة الطريفة التي يعاني منها الأقطار الإسلامية والعالم الإسلامي إلا ثمرة هذا التفرق والتمزق ، ولم يكن وجود إسرائيل في قلب العالم العربي ومشكلة فلسطين وذهاب بيت المقدس من أيدي المسلمين إلا نتيجة لهذه المنازعات والمخالفات التي شغلتهم وذهبت بريحهم وقوتهم ، الأمر الذي أقض مضاجع العالم الإسلامي كله ، وتركه على خرط القتاد منذ أمد غير قصير ، وقد أدى العالم الإسلامي العربي ضريبة الذل والعار بخسران المعركة ضد اليهود ، والحرمان من حقوقه ومقدساته في القدس وفلسطين وسيناء ومرتفعات الجولان عام 1967م .
لقد ذاق العالم الإسلامي وأرض غزة ، أرض العزة والصمود منذ سنتين مرارة هذا التشتت والتفرق من جديد ، فلا تزال تهراق فيها دماء المسلمين الأبرياء من الأطفال والنساء والمرضى والمعاقين ، وتستمر سلسلة من القتل والتشريد وهدم البيوت والمنازل من دون هوادة ولا رحمة ، فلا تطلع شمس في يوم من الأيام على أرض غزة ، إلا وتأتي بعشرات من المشاهد البشعة والمجازر الوقحة ، ويرى العالم الإسلامي كله ذلك ويسمع ، حتى الأمم المتحدة ، ولجنة حقوق الإنسان التي أنشئت لإنشاء بيئات من الأمن والأمان في العالم كله عاجزةً عن إيقاف هذه المجزرة .
وقد أحاطت أرضَ غزة وفلسطين دول العالم العربي إحاطة السوار بالمعصم ، وهي دول شقيقة وبلدان مجاورة لفلسطين ، لكنها مكتوفة الأيدي والأرجل ، ومغلولة الأعناق ، لا تستطيع أن تقدم مساعدات ماليةً ، ولا يمكنها أن توفر أدوات لازمة للحياة ، فضلاً عن إمساك الظالم عن قتل الأرواح والأنفس ، وهدم البيوت والمنازل ، وقد صدرت إدانات وبيانات شجب واستنكار على هذه العملية القبيحة من المنظمات العربية الذائعة الصيت في العالم كله ، واجتمع رؤساء الدول العربية تنديداً لهذه المجازر ، لكن كانت اجتماعاتهم حبراً على ورق ، أو نفخةً في رماد ، ولا شك أن هذه الاجتماعات كانت نداء ضمائرهم وقلوبهم ، لكن الأوضاع الراهنة كانت تتطلب أكثر بكثير من هذا ، ومما زاد الأمر تفاقماً أن الرئيس الأمريكي زار هذه المناطق الخليجية ، وأقام في الدول الثلاث أياماً وليالي ، حتى قامت هذه الدول باستقباله الفريد وترحابه المنقطع النظير ، وقدمت له أطناناً من الدولارات والريالات ، وقناطير مقنطرة من الذهب والفضة ، لكنها لم تتمكن من إيقاف هذه الحرب الجارية بين حماس وإسرائيل .
وقد ظهرت إيران خلال هذه الفترة كمؤيدة وحليفة لهذه الأراضي الفلسطينية ، وكانت تستنكر من قبل ببياناتها ، وتكشف الظلم والغطرسة لإسرائيل ، واعتداءاتها على سكان فلسطين علناً وجهاراً ، وقد اعترفت بذلك قيادة حماس ، وشكرتها مرات عديدةً ، هذا في جانب ، وفي جانب آخر جرت حرب بين إسرائيل وإيران ، فبدأت إسرائيل الغارة على إيران بالنسبة إلى تمويلها وتأييدها لحركة حماس ، فرداً على هذه الغارة قذفت إيران الصواريخ المدمرة على إسرائيل ، اتجهت مباشرةً إليها ، ولم تمسك طريقها نحو إسرائيل ، واستمرت إلى 12/ يوماً ، وقد خاضت أمريكا في هذه الحرب مباشرةً ، وادعت بتدمير المواد النووية في إيران ، التي كانت إيران تدخرها لصناعة القنابل النووية ، ثم وقفت الحرب ، لكن وقفت الحرب بدون التركيز على النقطة الرئيسية التي كانت مبعث إشعال فتيل الحرب ، وهو إيقاف الحرب وتوفير وسائل المعيشة في غزة ، فإذا علقت هذه النقطة في إيقاف الحرب لكان الأمر في الشرق الأوسط ، وأرض غزة بالذات بالعكس ، لكن سارعت إيران إلى وقف الحرب ، فخابت أحلام الأبطال في غزة ، ولم تتحقق أمانيهم على أرض الواقع ، هذا إن دل على شيئ فإنما يدل على نوايا إيران المختلفة التي تضمرها نحو طوفان الأقصى ، كما يشير إليه المحللون السياسيون ، نحن لا نؤول أبداً التضحيات التي قدمت إيران لمساندة أبطال غزة ، ومواصلة مسيرة الجهاد على أرض فلسطين ، وهو باب مشرق ، وقد اعترفت بذلك القيادات ذات المستوى الرفيع لحركة حماس في غزة ، لكن إيقاف الحرب من دون مبرر سابق ، وبدون شرط أساسي واستغلال هذه الحرب لمصالحها ، ينشئ في نفوس كثير من الناس الشكوك والشبهات ، ويضع القضية على طاولة النقاش .
رغم هذه التساؤلات والشبهات تتطلب الأوضاع المعاصرة من كل دولة من دول العالم الإسلامي أن تكون متضامنةً ومتحدةً بعضها ببعض ، لأن التضامن الإسلامي هو الحاجة الأكيدة التي تضمن العز والسعادة للأمة الإسلامية ، وتزيد ثقلها في ميزان العالم ، فإن المسلمين كلما تهاونوا في امتثال هذا الأمر الإلهي ، وتكاسلوا في ربط مصيرهم بحبل الله فأجأهم من شواذ الأحوال والأمور ، ما حط من مكانتهم ، وتسفل بهم إلى درك الذل والهوان ، وقد تبؤوا منصب القيادة ، وأدركوا حقيقتهم بالانضواء تحت لواء الوحدة والانسجام ، وامتثال ما أمرهم الله به من الاعتصام في قوله تعالى : ( وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) .
ألا إن يد الله مع الجماعة ، فكونوا جماعةً موحدةً في العقيدة والنظام ، ووجهات الأنظار والأفكار ، والاتجاهات والآراء ، فبالوحدة ستنالون ما أنتم إليه بحاجة ، وبالوحدة الحقيقية الراسخة في الأعماق ، القائمة على النصح والإخلاص يتحقق إنقاذ الأراضي المقدسة من براثن اليهود ، وصدق الله العظيم : ( وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا ) .
والله يقول الحق ، وهو يهدي السبيل .
سعيد الأعظمي الندوي
6/1/1447هـ
3/7/2025م