الفقه الحنفي ومنهجه في الاستنباط ( الحلقة الثالثة الأخيرة )
سبتمبر 15, 2020فقه النوازل : حاجته وأهميته
يناير 6, 2021
نماذج من مجالات الوقف في الحضارة الإسلامية
د . محمد منصور الهدوي *
الوقف هو من أهم الأدوات ، وأنجح الوسائل في صناعة إبداعات الحضارة الإٍسلامية عبر تاريخها التليد ، فقد أسهم بقسط وافر في بنائها وحقق إسهامات فعّالة ، وأشاع روح التعاون والتكافل والتّلاحم بين مختلف مكونات المجتمع ، فنتج عن كل ذلك إظهار لدعوة الإسلام السامية المبنية على الرحمة بالناس كافةً قولاً وفعلاً ، شعاراً وتطبيقاً ، فاستفاد المسلمون وأفادوا ، وعبر الوقف : تجسد مبدأ أن الدين الإسلاميّ رحمة للعالمين ، ضامن للخير والهداية ، مانع من الشر والأذى .
وللوقف عند الفقهاء تعريفات ، فهو عند خليل ” إعطاء منفعة شيئ مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً ” ، وأما ابن قدامة فعرّفه ” بأنه تحبيس الأصل ، وتسبيل الثمرة ” ، فالوقف إذاً صدقة جارية يدوم نفعها ، وديمومته شرط لابد منه لصحّته ، وهنا يريد الكاتب أن يسلط الأضواء على مجالات من الوقف ، الاقتصادية والاجتماعية . منها :
(1) خدمة الدين الإسلامي :
تنوعت مجالات الوقف وتعددت ، وانطلقت لخدمة الدين كالجهاد في سبيل الله ، روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ” كانت أموال بني النضير ممّا أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، كانت لرسول لله صلى الله عليه وسلم خالصاً ، ينفق على أهل بيته – قال ابن عبدة : ينفق على أهله قوت سنة ، فما بقي جعل في الكراع ، وعدة في سبيل الله عزّ وجل ” ، وكذا فعل خالد بن الوليد رضي الله عنه عندما قال : ” إن خيلي هذه التي حبست في الثغر ، وسلاحي هو على ما جعلته عليه عدّةً في سبيل الله وقوةً يغزي عليها ، ويعلف من مالي ” ، لذا قال صلى الله عليه وسلم : ” فإنكم تظلمون خالداً ، فقد احتبس أدراعه في سبيل الله ” .
وكذلك بناء المساجد والقيام بشؤونها ، وما يرتبط بها من كتاتيب تحولت مع الزمن إلى مدارس متخصصة للتربية والتعليم وما يتعلق بهما ، وتوفير الأدوات والوسائل المساندة والمشجعة على ذلك ، فتكلفت بمجانية التعليم ، ووفرت للطلبة كل ما يحتاجونه من أدوات الدراسة ، وأجرت عليهم منحاً ، ولأساتذتهم رواتب حتى يتفرّغوا للتعليم ، فكثرت هذه المدارس التي تخرج فيها عدد كبير من طلبة العلم في مجالات علمية مختلفة ، وانتشرت في شتى المدن والحواضر الإسلامية ، ففي دمشق مثلاً في أوائل القرن السابع الهجري ؛ تجاوزت الأربع مأة مدرسة وقفية ، وفي بيت المقدس : تجاوزت السبعين .
(2) المجال الاجتماعي :
أسهمت الأوقاف في تقديم الخدمات الاجتماعية العامة للفرد في مختلف جوانب الحياة ، فظهرت أوقاف لإيواء اليتامى ورعايتهم ، والنفقة على الأمهات الفقيرات ، وذوي الاحتياجات الخاصة كالمقعدين والعميان ، وكفالة الشيوخ والنفقة على من يخدمهم ويرعاهم ، وأوقاف لتزويج المعسرين وحبست دور خاصة لذلك ، وعلى المساجين للتخفيف عليهم والإحسان إليهم وإلى ذويهم ، وأوقاف لفكاك الأسرى ، ولأبناء السبيل الذين انقطع بهم الطريق يعطون ما يتزودون به للوصول إلى بلدانهم .
(3) المجال الصحي :
عرفت بلاد المسلمين العديد من المستشفيات التي لها أوقاف متنوعة كالأراضي والبساتين والحوانيت ، من ريعها تؤدي هذه المؤسسات دورها في تعميم الطب ومعالجة المرضى ، فتوفر لهم العلاج والغذاء والكسوة وجميع المتطلبات ، ومنها : المارستان المنصوري بالقاهرة الذي أنشأ سنة 682هـ لعلاج الملك والمملوك ، والكبير والصغير ، والحر والعبد ، وعرف بالدقة والتنظيم ، وذكر ابن بطوطة أنه يعجز الواصف عن محاسنه ، فهو مقسم إلى أقسام ، خصص لكل مريض فرش كامل ، وعين له الأطباء والصيادلة والخدم ، كما زود بمطبخ كبير ، وكان المريض إذا ما برئ وخرج أعطوه منحةً وكسوةً ، وقدرت الحالات التي يعالجها المستشفى في اليوم الواحد بعدة آلاف ، وألحقت به مدرسة للطب يجلس فيها رئيس الأطباء لإلقاء درس طب ينتفع به الطلبة ، كما كان القادرون من المسلمين يتسابقون في الوقف على المستشفيات من أموالهم وممتلكاتهم ، مما أدى إلى ازدهار مهنة الطب فبلغ عدد المستشفيات في بعض المدن أكثر من خمسين مستشفى في وقت واحد ، بينما لم يكن يوجد في أوروبا في حينها أي مستشفى يوازي أيّاً منها .
ومن أروع الأمثلة على توسع الأوقاف وعمق تأثيرها وسموّ إنسانيتها : ما ذكرته ” زيغريد هونكة ” في كتابها ” شمس العرب تسطع على الغرب ” ، وهي تتحدث عن المستشفيات في عهد هارون الرشيد ، فنقلت رسالة مريض إلى أبيه يقول فيها : ” أبتي الحبيب : تسألني إن كنت في بحاجة إلى نقود ، فأخبرك بأني عندما أخرج من المستشفى سيعطونني ثوباً جديداً وخمس قطع ذهبية حتى لا أضطر إلى العمل حال خروجي مباشرة . . . . . مع العلم أنه لما أخذوني بعد سقوطي . . . . فحصني الطبيب ، ثم أخذني الممرض فحممني وألبسني ثياباً نظيفةً ، هنالك يا أبي نمضي الوقت بالمطالعة المفيدة ، واليوم قال لي رئيس الأطباء : إن بإمكاني النهوض صباحاً والخروج من المستشفى معافى ، وإنني أكره ذلك ؛ لأن كل شيئ هنا جميل ، الأسرة وثيرة ، وأغطيتها كالحرير ، وفي كل غرفة تجد الماء جارياً على أشهى ما يكون ، وفي الليالي القارسة تدفأ الغرف . . . . . . . ” .
ميزة الوقف :
تعدد مجالاته :
وقد سبق الإشارة إليها والبرهنة عليها في الفقرة السابقة ، فالأوقاف شملت كل ضروريات الإنسان والتحسينات والكماليات ، قال ابن بطوطة في رحلته : ” تحفة النّظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار ” : مررت يوماً ببعض أزقة دمشق فرأيت مملوكاً صغيراً قد سقطت من يده صحفة من الفخّار الصيني يسمونها الصحن فتكسرت ، واجتمع الناس فقال له بعضهم : اجمع شقفها واحملها معك لصاحب الأوقاف ، فجمعها وذهب إليه فأراه إياها ، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن ، وهذا من أحسن الأعمال . . . . . فكان هذا الوقف جبراً للقلوب ، جزى الله خيراً من تسامت همته في الخير إلى مثل هذا ، ومن غريب الأوقاف وأجملها : قصر الفقراء الذي عمره في ربوع الشام دمشق : نور الدين محمود زنكي ، فإنه لما رأى ذلك المنتزه مقصوراً على الأغنياء ؛ عز عليه ألا يستمتع الفقراء مثلهم بالحياة ، فعمّر القصر ووقف عليه قريةً ( داريّا ) وهي أعظم ضياع الغوطة وأغناها ” .
ومن غريب الأوقاف : ما عرف بمؤنس المرضى ، وهو وقف الإيحاء إلى المريض بالشفاء ، ووظيفة من جملة وظائف المعالجة في المستشفيات ، وهي تكليف اثنين من الممرّضين يقفان قريباً من المريض بحيث يسمعهما ولا يراهما ، فيقول أحدهما لصاحبه : ماذا قال الطبيب عن هذا المريض ؟ فيرد عليه الآخر : إن الطبيب يقول إنه على خير ، فهو مرجو البرء ، ولا يوجد في علته ما يقلق أو يزعج ، وهذا مما يساعد المريض على النهوض من فراشه للأثر النفسي الذي تتركه تلك الكلمات التي سمعها !
وقد شملت الأوقاف الموتى وما يتعلق بتكفينهم وتجهيزهم وتوفير المكان المناسب في المقابر ، بل تجاوزت الإنسان لتعمّ الحيوان فتتكفل بطعامه وعلاجه ، وبخاصة الهرم والعاجز منها ، فهذا وقف لإطعام الطيور المهاجرة التي تأتي في موسم معيّن ، وهذا آخر لرعاية الخيول التي هرمت ، وثالث لتعديل الطرق ورصفها وحفر الآبار وسقي المسافرين .
اتساع دائرة المنتفعين بالوقف :
الوقف يتجاوز البعد العقدي والخلفية الإيمانية ، وبذلك تتسع دائرة المنتفعين به لتشمل به المعيار الإنساني الواسع ، فآيات الإحسان في القرآن الكريم ( وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) الإنسان : 8 ، وقال : ( فَكُّ رَقَبَةٍ . أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ . يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ . أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ) البلد : 13 – 16 ، هي الأساس الأول للوقف ؛ تتجاوز القيد العقدي والبعد الإيماني لتتسع معها دائرة الإحسان ، ولا يحدّها إلا قيد العداوة حدّ القتال ، قال تعالى : ( لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ ) الممتحنة : 8 ، ولقد أدرك الفقهاء هذا البعد الإنساني الشامل في الوقف ، فلم يشترطوا إسلام الموقوف عليه ، قال القرافي : ” ويصح على الذميّ ، وقاله الأئمة ” ، وقال الموّاق : يجوز الوقف على الذمي . . . . . . . وفي نوازل ابن الحاج : من حبس على مساكين اليهود والنصارى جاز ، وذلك لقوله تعالى : ( وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) الإنسان : 8 ، ولا يكون الأسير إلا مشركاً ” .
وأجاز ابن تيمية الوقف على الكافر المعين فقال : ” وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” غب كلّ ذات كبد رطبة أجر ” ، فإذا أوصى أو وقف على معين وكان كافراً أو فاسقاً ؛ لم يكن الكفر والفسق هو سبب الاستحقاق ولا شرطاً فيه ، بل هو يستحق ما أعطاه وإن كان مسلماً عدلاً ، فكانت المعصية عديمة التأثير ” .
وهذا شاهد على سمو القيم الإسلامية وسماحة المسلمين في التعامل مع المخالف ، وفي سيرة الخلفاء الراشدين صور عديدة في هذا الاتجاه ، منها ما رواه أبو يوسف في كتاب ” الخراج ” قال : مر ّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يقول : شيخ كبير ضرير البصر ، فضرب عضده من خلفه وقال : من أي أهل الكتاب أنت ؟ فقال : يهودي . قال : فما ألجأك إلى ما أرى ؟ قال : أسألك الجزية والحاجة والسّن ، قال : فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيئ من المنزل ، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال : انظر هذا وضرباءه ؛ فو الله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم ( إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ ) التوبة : 60 ، والفقراء هم المسلمون ، وهذا من المساكين من أهل الكتاب ، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه .
وهنا تظهر قيمة الوقف في تحقيق الدعوة إلى الله بأبعادها العميقة الشاملة ، وتأسيس ثقافة التعايش السلمي الإنساني بين مختلف الملل المسالمة ، فينصهر الجميع في بوتقة الإسلام القائم على العالمية والرحمة وحفظ كرامة الإنسان ، كما تظهر رحابة الثقافة الإٍسلامية وقدرتها على استيعاب الآخر – مالم يكن محارباً – تحت ظل الدولة الإسلامية باعتباره من رعاياها ، فيسهم بإيجابية في بناء حضارتها وتحقيق عزتها ونخوتها .
المصادر والمراجع :
- مواهب الجليل في شرح مختصر خليل ، الحطاب 6/18
- المغني ، ابن قدامة 6/3
- سنن أبو داود ، كتاب الخراج والإمارة والفيئ
- تاريخ دمشق ، ابن عساكر 16/271
- صحيح البخاري ، كتاب الزكاة
- رحلة ابن بطوطة
- ابن تيمية ، الفتاوى الكبرى ، 4/250
* باحث وأكاديمي – كيرلا .