شعر ألطاف حسين حالي في ضوء الكلمات القرآنية دراسة وصفية
فبراير 23, 2025مكتبة شبلي النعماني العامة لندوة العلماء تاريخها ، وذخايرها العلمية ( الحلقة الثالثة الأخيرة )
فبراير 23, 2025دراسات وأبحاث :
موقف النقد العربي القديم من ظاهرة التناص المعاصرة
( الحلقة الثانية الأخيرة )
الباحث عبد الرشيد الوافي *
د . عبد المجيد تي §
التضمين :
أما التضمين فليس إلا صورةً من صور الاقتباس ، وإن كان النقد العربي القديم فرق بينهما ، من حيث اتجاه كل منهما ، إذ يتجه الاقتباس إلى القرآن الكريم والحديث النبوي على حين يتجه التضمين إلى الشعر عموماً ، وعرف ابن رشيق التضمين بقوله : ” فأما التضمين : فهو قصدك إلى البيت من الشعر أو القسيم ، فتأتي به في آخر شعرك أو في وسطه كالمتمثل به ” [1] . وأوضح تعريف للتضمين وأشمله يجده الباحث لدى ابن أبي الإصبع المصري فهو عنده ” أن يضمن المتكلم كلامه كلمة من بيت أو من آية أو معنىً مجرداً من كلام أو مثلاً سائراً أو جملةً مفيدةً أو فقرةً من كلمةً ” [2] .
يلاحظ الباحث من خلال هذين التعريفين اللذين يفصل بينهما مائتا عام أن النقاد العرب القدامى لم يعودوا يفصلون بين الاقتباس والتضمين ، بل غدا هذان المصطلحان في معظم كتب النقد المتأخرة شيئاً واحداً . وهذا ما يعني دخول تلك المصطلحات المتقاربة في المعنى مرحلة جديدة من التطور النقدي .
وإذا كانت جوليا كرستيفا أشارت إلى أن كل نص يتشكل كفسيفساء من الاستشهادات والاقتباسات ، فإن النقد العربي القديم كان أكد هذه المقولة منذ زمن بعيد ، فتحدث ابن رشيق عن أشكال التضمين المتنوعة ، وفصل فيها القول ، ومن النماذج الواضحة للتضمين في الشعر العربي القديم التي أوردها ابن رشيق قول محمود بن الحسين كشاجم الكاتب :
يا خاضب الشيب والأيام تظهره هذا شباب لعمر الله مصنوع
أذكرتني قول ذي لـب وتــجــربة في مـــثــلـه لك تأديـــب وتقريع
إن الجديد إذا ما زيــد في خــلــق تبين الناس أن الثوب مــرقوع [3]
فالبيت الثالث من المقطوعة السابقة ليس من نظم الشاعر محمود ابن الحسين ، وإنما هو لأحد الشعراء ، وقد ضمنه الشاعر مقطوعته تلك .
ولم يخف النقد العربي القديم تحديد أنواع التضمين ، وإظهار طريقة استخدام الشعراء له ، فالتضمين الجيد عند ابن رشيق أن يصرف الشاعر المضمن وجه البيت المضمن عن معنى قائله إلى معناه الخاص به ، وذلك كقول نسبه قوم إلى ابن الرومي :
يا سائلي عن خالد ، عهدي به رطب العجان وكفه كالجلمد
كالأقحوان غداة غب ســمائـه جـــــفــــت أعالــيــه وأسفــله ندي [4]
اقتطع الشاعر بيت النابغة الذبياني الذي يصف فيه الثغر من سياقه ، ووضعه في سياق آخر مخالف لما كان عليه في سياقه الأول ، إذ نقله من الغزل إلى المديح ، يقول النابغة :
تجلو بــقــادمتي حمامة أيكة بــرداً أســفّ لـثاته بالإثمد
كالأقحوان غداة غب سمائه جفت أعاليه وأسفله ندي [5]
أشار ابن رشيق أيضاً إلى نوع آخر من التضمين ، وهو التضمين العكسي ، حيث يضع الشاعر المضمن عجز البيت المضمن مكان صدره ، وصدره مكان عجزه ، ومن ذلك قول العباس بن الوليد بن عبد الملك لمسلمة بن عبد الملك :
لقد أنكرتني إنــكار خوف يضم حشاك عن شتمي وذحلي
كقول المرء عمروفي القوافي لــقــيـس حـين خالف كل عذل
عذيرك من خلــيــلك من مراد أريـــد حـــيــاتــه ويـــريـــد قــتــلي [6]
فالبيت الثالث من المقطوعة السابقة هو لعمرو بن معديكرب الزبيدي ، وأصل البيت :
أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد [7]
ضمنه العباس بن الوليد مقطوعته تلك بعد أن عكسه ، فوضع عجزه مكان صدره ، وصدره مكان عجزه ، ويدخل ضمن مصطلح التضمين عند النقاد العرب القدامى مصطلح الإشارة أو الإحالة حيث يشير النص الحاضر إلى النص الغائب من دون أن يستحضره مباشرةً ، وذلك كقول أبي تمام :
لعمرو مع الرمضاء والنار تلــتظي أرق وأخفى منك في ساعة الكرب [8]
إذ يشير هذا البيت إلى البيت المشهور :
المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار [9]
ولعل بيت أبي تمام السابق أبعد غوراً من أن يكون مجرد إحالة أو إشارة ، كما أشار النقد العربي القديم إلى ذلك ، إذ أن أبا تمام اقتبس نصف مفردات البيت السابق ، وعزف على مكوناته ، معيداً صياغته من جديد ، وهو ما يدعى بالتناص الاقتباسي المحور .
وصفوة القول : إن مصطلحي التضمين والتناص يدلان على ظاهرة واحدة ، لكن لكل منهما بيئته وعصره الخاصين ، كما أن لكل منهما أهدافه وغاياته المختلفة .
السرقة :
أما السرقة فقد شغلت حيزاً واسعاً في النقد العربي القديم ، وحاول النقاد العرب القدامى من خلال حديثهم عنها ، الكشف عن المبتكر المبتدع ، سواء على صعيد اللفظ أو المعنى أو الصور ، ومصطلح السرقة عند النقاد العرب القدمى مصطلح واسع متباعد الأطراف ، إذ تندرج تحته كثير من المصطلحات .
ويمكن تقسيم تلك الأنواع المتعددة من السرقات إلى أربعة أنواع ، استناداً إلى التصنيف القديم :
السرقات التامة :
هي أخذ اللفظ والمعنى جميعاً ، وأطلق عليها النقد العربي القديم أسماء عدة ، منها : النسخ والانتحال والإغارة والغصب والاجتلاب ، وشاهدها قول طرفة بن العبد :
وقوفاً بها صحبي علي مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجلد [10]
فأخذه من قول امرئ القيس :
وقوفاً بها صحبي علي مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل [11]
والحق أن هذا النوع من السرقات يحقق أعلى مستوى من التناصية ، من ناحية وضوح عملية الانتحال أو السرقة ، إذ أن بيت امرئ القيس حاضر بشكل كامل في بيت طرفة ما عدا كلمة تجلد المحرفة ، ولعل هذا ما يوجد مطابقاً لما تحدثت عنه جوليا كرستيفا من الحضور الفعلي لنص ما في نص آخر ، كما يشكل هذا النوع من السرقات أيضاً المرتبة الثانية من التناصية عند جيرار جينيت بوصفها اقتباساً حرفياً غير منصص .
السرقات المعنوية :
هي أخذ المعنى من دون اللفظ ، ولها أسماء كثيرة منهما الإلمام والاختلاس وذلك كقول أبي نواس :
ملك تصور في القلوب مثاله فكأنه لم يخل منه مكان [12]
اختلسه من قول كثيّر :
أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل [13]
وربما كان النقد العربي القديم مغالياً في عد هذا النوع من سرقة ، إذ ليس هنالك من حضور معنوي واضح وقوي لبيت كثيّر في بيت أبي نواس ، حتى يمكن أن يتهم أبو نواس بالسرقة المعنوية ، وإنما هناك إلماحة بعيدة تشير إلى علاقة بين النصين ، ولعل هذا النوع من السرقات يندرج في إطار ما يسمى بالتناص الامتصاصي حيث يمتص الشاعر معنى النص الغائب ويتشربه ، ويعيد صياغته من جديد ، من دون أن يكون هناك من حضور لفظي واضح للنص الغائب في النص الحاضر .
السرقات اللفظية :
هي أخذ بعض اللفظ أو كله ، ولها أنواع كثيرة ، منها الاهتدام والالتقاط والتلفيق ، وذلك كقول النجاشي :
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمت فيها يد الحدثان [14]
أخذ كثيّر صدر هذا البيت ، وقسما من عجزه ، فقال :
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلّت [15]
والمحلل لهذا النوع من السرقات ، يجد أنها ليست لفظيةً فقط ، وإنما هي معنوية أيضاً ، فمعنى البيتين واحد ، ولذا لا يمكن تصنيفها ضمن السرقات اللفظية فحسب ، وهذا النوع من العلاقات التناصية التي تقوم على حضور لفظي محرف ، يوجد لدى جيرار جينيت ، تحت اسم ( الاتساعية النصية ) التي توحد بين نصين : أحدهما منحسر ، وهو النص الغائب ، وثانيهما متسع وهو النص الحاضر ، ويفضل الباحث إدراج هذا النوع من السرقات ضمن ما يسمى بالتناص الاقتباسي المحور حيث يرد النص الغائب في النص الحاضر بشكل محرف ، فيه تغيير إما بحذف أو إضافة .
السرقات التي تقوم على الموازنة أو العكس :
الموازنة ، وذلك كقول كثيّر :
تقول مرضنا فما عدتنا وكيف يعود مريض مريضاً [16]
وازن في عجز البيت قول نابغة بني تغلب :
بخلنا لبخلك قد تعلمين وكيف يعيب بخيل بخيلاً [17]
العكس ، وذلك كقول الشاعر :
سود الوجوه لئيمة أحسابهم فطس الأنوف من الطراز الآخر [18]
عكس فيه قول حسان بن ثابت :
بيض الوجوه كريمة أحسابهم شم الأنوف من الطراز الأول
وتماثل ( الموازنة ) ما أطلق عليه جيرار جينيت ( المحاكاة ) حيث يستوحي المبدع أسلوب غيره ، فيقيم عليه نصه من دون أن يستخدم عباراته نفسها ، أما النوع الثاني ( العكس ) فيماثل ما أطلق عيه تودوروف ( المحاكاة الساخرة ) حيث يستوحي المبدع أسلوب غيره ليقيم عليه معنىً مغايراً ومناقضاً للمعنى السابق . ويرى الباحث أنه من الأجدر تصنيف هذا النوع من السرقات ضمن ما يسمى بـ ( التناص الأسلوبي ) بغض النظر عن هدف المبدع من محاكاة الأسلوب السابق سواء أكان للحط منه أم للرفع من شأنه .
المعارضة والمناقضة :
أما المعارضة والمناقضة فتنتميان إلى التناصية ، بوصف الأولى محاكاةً ، والثانية محاكاةً ساخرةً ، والمعارضة هي أن ينظم شاعر قصيدةً أو مقطوعةً يحتذي فيها نصاً لشاعر آخر ، ينسج على منواله ، ولا بد من التقاء النصين ( المحتذي والمحتذى ) في الوزن والروي والقافية واتحادهما في الموضوع أو في جزء منه ، وللمعارضة والمناقضة تاريخ عريق في الشعر العربي قديمه وحديثه ، امتلأت دواوين الشعراء القدامى والمحدثين بالقصائد المعارضة والمناقضة ، وحظيت بردة الإمام البوصيري رحمه الله في مدح النبي صلى اله عليه وسلم بمعارضات كثيرة ، ومن أشهرها معارضة أحمد شوقي المسماة بنهج البردة ، وأما المناقضة الشعرية فمن أشهرها قصيدة جرير التي يناقض فيها لامية الأخطل ، والتي مطلعها :
ودّع أمامة حان منك رحيل إن الوداع من الحبيب قليل [19]
إن المعارضة والمناقضة تحققان مفهوم التناص من خلال الإطار والشكل الخارجي ومن خلال البناء الهيكلي لهما ، وذلك إما بالاعتماد على الجانب الإيقاعي منه كالوزن الشعري أو بالاعتماد على الجانب الصوتي كالقافية والروي وإما بتكرار بعض ألفاظه وجرسها الموسيقي ، وعلى هذا فإن هذين المصطلحين المعارضة والمناقضة يمكن أن يدرجا في النقد المعاصر ضمن ما يسمى بالتناص الأسلوبي .
خاتمة البحث :
التناص مصطلح نقدي جديد ، وسبق إلى إيجاد هذ المصطلح الجديد النقد الغربي المعاصر ، ولكن النقد العربي القديم ألمح إليه بمصطلحاته المختلفة ، فبعد الدراسة الشافية وصل هذا البحث النقدي إلى النتائج الآتية .
- أما النقد الغربي المعاصر فقد سبق النقد العربي إلى استحداث مصطلح التناص .
- أشار النقد العربي القديم إلى عدة مصطلحات نقدية وبلاغية هي في حقيقتها أشكال متنوعة من أشكال التناص .
- من أشكال التناص الواردة في كتب النقد والبلاغة العربية القديمة الاقتباس والتضمين والسرقة والمعارضة والمناقضة .
- إن كلاً من هذه المصطلحات بمفهوماتها العربية القديمة تقابل بشكل واضح مصطلحات التناص في النقد المعاصر ، لكن كل مصطلح يعبر عن واقع عصره ، كما أنها تختلف في الوظائف والغايات التي يساق كل منها لأجلها .
- ينطبق جميع مصطلحات النقد المعاصر من تناص التآلف وتناص التخالف والحوارية بين النصوص والتناص التحويري أو التحويلي أو التحويل البسيط المباشر على الاقتباس في النقد العربي القديم ، كما ينطبق مصطلح التناص الاقتباسي المحورعلى التضمين في النقد العربي القديم .
- يدلّ مصطلحا التضمين والتناص على ظاهرة واحدة ، لكن لكل منهما بيئته وعصره الخاص ، كما أن لكل منهما أهدافه وغاياته المختلفة .
- تنتسب مصطلحات التناص الامتصاصي والاتساعة النصية والمحاكاة والمحاكاة الساخرة والتناص الأسلوبي إلى السرقة في النقد العربي القديم .
- ينتمي مصطلح التناص الأسلوبي إلى المعارضة والمناقضة في النقد العربي القديم .
* باحث دكتوراه ، قسم اللغة العربية وآدابها ، كلية فاروق ، جامعة كاليكوت ، كيرالا ، الهند .
[1] القيرواني ، أبو علي الحسن بن رشيق ، العمدة في صناعة الشعر ونقده ، مركز تحقيقات كامبيوتر علوم إسلامي ، ص 719 .
[2] المرجع السابق .
[3] القيرواني ، أبو علي الحسن بن رشيق ، العمدة في صناعة الشعر ونقده ، مركز تحقيقات كامبيوتر علوم إسلامي ، ص 719 .
[4] المرجع السابق ، ص 721 .
[5] المرجع السابق ، ص 721 .
[6] المرجع السابق ، ص 723 .
[7] المرجع السابق ، ص 724 .
[8] التفتازاني ، سعد الدين ، مختصر المعاني ، دار الفكر ، ص 312 .
[9] المرجع السابق ، ص 312 .
[10] الجندي ، محمد سليم ، امرؤ القيس ، مؤسسة هنداوي ، المملكة المتحدة ، 2018م ، ص 175 .
[11] المرجع السابق .
[12] ابن قتيبة ، الشعر والشعراء ، دار المعارف ، القاهرة ، 824/2 .
[13] حسن ، عباس ، دار المعارف ، مصر ، 474/2 .
[14] القيرواني ، أبو علي الحسن بن رشيق ، العمدة في صناعة الشعر ، ص 1082 .
[15] شراب ، محمد محمد حسن ، شرح الشواهد الشعرية في أمهات الكتب النحوية ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ط 1 ، 2007م ، 1/217 .
[16] مطلوب ، أحمد ، معجم المصطلحات البلاغية وتطورها ، الدار العربية للموسوعات ، بيروت ، ط 1 ، 2006م ، 3/322 .
[17] المرجع السابق .
[18] أسامة بن منقذ ، البديع في نقد الشعر ، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر ، ص 191 .
[19] جرير ، ديوان جرير ، دار بيروت للطباعة والنشر ، بيروت ، عام 1986م ، ص 378 .