تجليات القضية الفلسطينية في شعر أحمد مطر
يناير 28, 2025التمويل الإسلامي : آفاق وتطلعات
يناير 28, 2025دراسات وأبحاث :
موقف النقد العربي القديم من ظاهرة التناص المعاصرة
( الحلقة الأولى )
الباحث عبد الرشيد الوافي *
د . عبد المجيد تي §
مقدمة :
من المعروف أن عملية الإبداع أياً كان نوعها لا بد أن تعتمد على عمل سابق ، وقدر الاعتماد يختلف من مبدع إلى آخر ، ويضع النقاد العرب شروطاً يجب على الشاعر تحقيقها لإتمام عملية الإبداع الشعري ، تتجمل هذه الشروط في عدد من الأدوات التي لا بد للشاعر من أن يتسلح بها ، أكثرها أهميةً ومكانةً استيعاب الشاعر نتاجات السابقين وتجاربهم عن طريق حفظ الكثير من الأشعار واختزانها في الذاكرة ، ثم نسيانها لتبدأ بعد ذلك عملية الاسترجاع ، حيث تظهر عملية إبداعية جديدة ، تعتمد على العمليات الإبداعية السابقة في نحو من الأنحاء .
فمن لا يعتمد على نتاجات غيره ، ولا يحفظ الكثير منها ليس بشاعر كما يقول ابن خلدون : ” واجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ ، ثم بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم وبالإكثار منه تستخدم ملكته وترسخ ، وربما يقال : إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة ” [1] .
ومن الحقيقة التي لا تنكر أن الشعر العربي من العصر الجاهلي إلى الوقت الحاضر مشبع بالنصوص المتفاعلة مع نصوص سابقة ، سواء على مستوى الشكل والمضمون ، وكأن الشاعر العربي يعاني من صعوبة ومشقة إذا نظم من دون أن ينظر إلى أصل قديم ، يؤكد امرؤ القيس أنه لا يناجي الطلل باكياً إلا بإيحاء من ابن خذام ، يقول امرؤ القيس :
عوجا على الطلل المحيل لأننا نبكي الديار كما بكى ابن خذام [2]
كما فعل امرؤ القيس ، اعترف زهير بن أبي سلمى بحقيقة اعتماد الشعراء على سابقيهم حين قال :
ما أرانا نقول إلا معاراً أو معاداً من لفظنا مكروراً [3]
وإلى جانب كل هذا ، عرف الإمام علي كرم الله وجهه هذه الحقيقة ، وفهمها حين قال : ” لولا أن الكلام يعاد لنفد ” [4] .
دفعت ظاهرة تفاعل النصوص هذه كثيراً من النقاد العرب القدامى إلى دراستها ومحاولة وضع الضوابط والحدود لها ، لكنهم لم يطلقوا عليها اسم التناص ، فتحدثوا عن أفضل بيت وأسبق بيت وأحسن بيت ، كما عمدوا في نهاية الأمر إلى التفريق بين عدة مصطلحات تخص هذه الظاهرة ، تتحدث هذه الدراسة عن أهم تلك المصطلحات ، وهي : الاقتباس ، التضمين ، السرقة ، المعارضة ، المناقضة أو النقيضة .
الاقتباس :
أما الاقتباس في النقد العربي القديم فنوع من المحسنات اللفظية ، الهدف منه إضفاء نوع من القدسية على النصوص المقتبسة وإظهار براعة الشاعر ومقدرته ، ورد في كتاب البلاغة الواضحة : ” الاقتباس تضمين النثر أو الشعر شيئاً من القرآن الكريم أو الحديث الشريف من غير دلالة على أنه منهما ، ويجوز أن يغير في الأثر المقتبس قليلاً ” [5] .
والحقيقة أن الاقتباس قديماً لم يكن يهدف دوماً إلى إضفاء القدسية ، أو إظهار براعة الشاعر ومقدرته فحسب ، فقد كانت له بالإضافة إلى ذلك أغراض أخرى ، وكانت البدايات الأولى للاقتباس صادرةً عن عفوية وبساطة ، وبعيدةً عن التكلف والصنعة ، وكانت وسيلةً تعبيريةً للتأثير في المتلقي ، ولكن في عصور متأخرة أصبح الاقتباس حليةً تزيينيةً بالغ الشعراء في إثقال أشعارهم بها .
إن دواوين الشعر العربي القديم غاصة بالمقطوعات الشعرية التي تحفل بالكثير من المقتبسات من القرآن الكريم أو الحديث الشريف حتى إن بعضها اعتمد اعتماداً كلياً على آيات من القرآن الكريم ، وهذا ما يجده الباحث في مقطوعة ابن النبيه التي يمدح فيها الفاضل بن علي :
قمت ليل الـــــصــــدود إلا قــليلاً ثــم رتـــلــت ذكـركم ترتيلاً
ووصـــلــــت الـــسهـاد قبّح وصلاً وهجرت الرقاد هجراً جميلاً
مسمع كل عن كلام عـذولي حين ألقى عليه قولاً ثــــقـــيلاً
وفؤاد قد كان بـــيـــن ضـلوعي أخذته الأحباب أخـــذاً وبــيلاً
قل لـــراقـــي الـجفون إن لجفني في بحار الدموع سبحاً طويلاً
ماس عجبا كأنه ما أرى غص نا طليحا ولا كـــثـــيـباً مهيلاً
وحمى عن محبه كــــأس ثــغـر حين أمسى مزاجها زنـــجبيلاً
بان عني فـــصـحت في أثر العي س ارحموني وأمهلوهم قـليلاً
أنا عبد لــــلـــــفاضـــل بن عــلــي قد تـــبــتـلت للثنا تــــبــــتــــيــــلاً
لا تــــسمــــه وعــــداً بـــغــير نوال إنه كــان وعـــــده مــــفـــعـــولاً [6]
ومن الجلي أن الشاعر هنا اقتبس كثيراً من الألفاظ والجمل القرآنية ، مضمناً إياها مقطوعته ، وتنوعت طريقة اقتباسه لها ، فهو تارةً ينقل بعض الجمل القرآنية نقلاً حرفياً ، وذلك كقوله : إنه كان وعده مفعولاً ، فهذه الجملة مأخوذة بحرفيتها من القرآن الكريم ، قال تعالى : ( كَانَ وَعْدُه مَفعُولاً ) [7] . وتارةً يقتبس بعض الجمل القرآنية بعد أن يحور فيها تحويراً بسيطاً ، وذلك كقوله : أمسى مزاجها زنجبيلاً ، وهذا مقتبس من الآية الشريفة : ( وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً ) [8] ، وتارةً يقتبس بعض التراكيب المجتزئة أو الألفاظ فقط مثل سبحاً طويلاً ، وأخذاً وبيلاً ، وهجراً جميلاً ، وهي كلها ألفاظ مقتبسة من القرآن الكريم .
كما اعتمد بعض الشعراء على أجزاء وتراكيب من الحديث النبوي الشريف ، وضمنوها مقطوعاتهم ، يقول أبو جعفر الأندلسي :
لا تُعاد الناس في أوطانهم قلما يرعى غريب الوطن
وإذا ما شئت عيشا بـينهم خالـق الناس بخلق حسن [9]
اقتبس الشاعر جملةً تامةً ، من حديث نبوي شريف ، حيث روي عن أبي ذر جندب بن جنادة ، وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن [10] . ويلاحظ الباحث هنا أن الشاعر لم يعمد إلى أي تحوير أو تغيير في صيغة النص المقتبس ، بل أبقاه على حاله .
فطن النقد العربي القديم إلى ما سمي في النقد المعاصر بتناص التآلف وتناص التخالف أو ما تحدث عنه تودوروف من الحوارية بين النصوص التي تقوم على الحذف أو الإضافة ، وكان للنقاد والبلاغيين العرب القدامى دورهم الرائد في فهم تلك العلاقات التناصية القائمة على التآلف أو التخالف إذ عمدوا إلى تقسيم الاقتباس إلى نوعين :
نوع لا يخرج به المقتبس عن معناه .
نوع يخرج به المقتبس عن معناه .
كما تنبه النقد العربي القديم أيضاً على ما يسمى في النقد المعاصر بالتناص التحويري أو التحويلي أو ما يسميه جيرار جينيت بالتحويل البسيط المباشر ، وذلك حين قال النقاد العرب القدامى بجواز تغيير لفظ المقتبس بزيادة أو نقصان ، أو بتقديم أو تأخير أو غير ذلك .
ينتهي الباحث من هذا كله إلى القول : إن الاقتباس بمفهومه العربي القديم يقابل بشكل واضح مصطلح التناص في النقد المعاصر ، لكن كل مصطلح يعبر عن واقع عصره ، كما أن هذين المصطلحين يختلفان في الوظائف والغايات التي يساق كل منهما لأجلها .
( للبحث صلة )
* باحث دكتوراه ، قسم اللغة العربية وآدابها ، كلية فاروق ، جامعة كاليكوت ، كيرالا ، الهند .
[1] ابن خلدون ، عبدالرحمن ، مقدمة ابن خلدون ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، لبنان ، 2001م ، ص 790 .
[2] امرؤ القيس ، ديوان امرئ القيس ، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار المعارف ، القاهرة ، ط 4 ، ص 114 .
[3] هدارة ، محمد مصطفى ، مشكلة السرقات في النقد العربي ، مكتبة الأنجلو المصرية ، مصر ، عام 1957م ، ص 193 .
[4] العسكري ، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل ، كتاب الصناعتين ؛ الكتابة والشعر ، تحقيق : على محمد البجاوي ، محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار إحياء الكتب العربية ، ط 1 ، 1952م ، ص 196 .
[5] الجارم ، علي ، مصطفى أمين ، البلاغة الواضحة ، دار المعارف ، ص 270 .
[6] ابن النبيه ، كمال الدين أبو الحسن علي بن محمد ، ديوان ابن النبيه المصري ، دار الفكر ، ط 1 ، 1969م ، ص 397 – 400 .
[7] سورة المزمل : 18 .
[8] سورة الإنسان : 17 .
[9] الميداني ، عبد الرحمن حسن حبنكة ، البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها ، دار القلم ، دمشق ، الدار الشامية ، بيروت ، ط 1 ، 1996م ، ص 537/2 .
[10] النووي ، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي ، متن الأربعين النووية ، دار الغوثاني للدراسات القرآنية ، سورية ، ط 1 ، 2010م ، ص 64 .