موئل الإنسانية وأمة المستقبل

البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سورتي فاطر ويسۤ )
سبتمبر 14, 2020
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سورتي الصافات وص )
أكتوبر 20, 2020
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سورتي فاطر ويسۤ )
سبتمبر 14, 2020
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سورتي الصافات وص )
أكتوبر 20, 2020

 

موئل الإنسانية وأمة المستقبل

بقلم : سماحة الشيخ الإمام السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى

برغم كل ما أصيب به المسلمون من علة وضعف فإنهم هم الأمة الوحيدة على وجه الأرض ، التي تعد خصيم الأمم الغربية وغريمتها ومنافستها في قيادة الأمم ، ومزاحمتها في وضع العالم ، والتي يزعم عليها دينها أن تراقب سير العالم وتحاسب الأمم على أخلاقها وأعمالها   ونزعاتها ، وأن تقودها إلى الفضيلة والتقوى وإلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ، وتحول بينها وبين جهنم بما استطاعت من القوة ، والتي يحرم عليها دينها ويأبى وضعها وفطرتها أن تتحول أمة جاهلية .

هذه هي الأمة التي يمكن أن تعود في حين من الأحيان خطراً على النظام الجاهلي الذي بسطته أوربا في الشرق والغرب وأن تحط مساعيها .

وقد وصف هذا الخطر شاعر الإسلام الحكيم ” محمد إقبال ” في قصيدته البديعة : ( برلمان إبليس ) ذكر فيها أن الشياطين وزملاء إبليس وأعوانه اجتمعوا في مجلس شورى ، وتباحثوا في سير العالم وأخطار الغد وفتنه ، وما يتوجسون من خيفة على نظامهم الإبليسي ومهمتهم   الشيطانية ، فتذاكروا في فتن وأخطار قد أحدقت بهم وهددت نظامهم ، وجللوا خطبها وتناذروا شرها ، فذكر أحدهم الجمهورية وحسب لها حساباً كبيراً ، فقال الثاني : لا يهولنك أمرها فإنها ليست إلا غطاء للملوكية ، ونحن الذين كسونا الملوكية اللباس الجمهوري ، إذ رأينا الإنسان بدأ يتنبه ويفيق ويشعر بكرامته ، وخفنا ثورةً على نظامنا قد لا تحمد عاقبتها ، فألهيناه بلعبة الجمهورية ، وليس الشأن في الأمير والملك ، إن الملوكية لا تنحصر في وجود شخص ترتكز فيه الملوكية ، وفرد يستبد بالسلطان ، إنما الملوكية أن يعيش الإنسان عيالاً على غيره مستشرفاً إلى متاع غيره ، سواء في ذلك الشعب والفرد ، أما رأيت نظام الغرب الجمهوري ، وجهه مشرق وضاح وباطنه أظلم من باطن جنكيز    خان ؟

فقال الآخر : لا بأس إذا بقيت روح الملوكية ، ولكن ماذا يقول النائب المحترم في هذه الفتنة الدهماء التي أثارها هذا اليهودي الذي يدعى كارل ماركس ، ذلك الباقعة الذي ليس نبياً ، ولكنه يحمل عند أتباعه كتاباً مقدساً ، هل عندك نبأ أنه أقام العالم وأقعده ، وأثار العبيد على السادة حتى تزعزعت مباني الإمارة والسيادة ؟

فقال الآخر مخاطباً رئيس المجلس : يا صاحب الفخامة ! إن سحرة أوربا وإن كانوا مريديك المخلصين ، ولكني لم أعد أثق بفراستهم ، ها هو السامري اليهودي الذي هو نسخة من مزدك ( الزعيم الفارسي الاشتراكي ) قد كاد يأتي على العالم بقواعده فاستنسر البغاث ، وأصبح الصعاليك يزاحمون الملوك بالمناكب ويدفعونهم بالراح ( أعلام أرض جعلت بطائح ) إنا قد استهنا بخطب هذه الحركة الاشتراكية ، وها هي قد استفحلت وتفاقم شرها ، وها هي الأرض ترجف بهول فتنة الغد ، يا سيدي ! إن العالم الذي كنت تحكمه سينقض عليك ، وينقلب نظام العالم ظهراً لبطن .

فتكلم رئيس المجلس ( إبليس ) وقال : إني أملك زمام العالم وأنصرف به كيف أشاء ، وسيرى العالم عجباً إذا حرشت بين الأمم الأوربية فتهارشت تهارش الكلاب ، وافترس بعضها بعضاً فعل الذئاب ، وإذا همست في آذان القادة السياسيين وأساقف الكنائس الروحانيين فقدوا رشدهم وجن جنونهم .

أما ما ذكرتم عن الاشتراكية فكونوا على ثقة أن الخرق الذي أحدثته الفطرة بين الإنسان والإنسان لا يرفؤه المنطق المزدكي ( الفلسفة الاشتراكية ) ، لا يخوفني هؤلاء الاشتراكيون الطرداء والصعاليك السفهاء .

إن كنت خائفاً فإني أخاف أمةً لا تزال شرارة الحياة والطموح كامنةً في رمادها ، ولا يزال فيها رجال تتجافى جنوبهم عن المضاجع وتسيل دموعهم على خدودهم سحراً ، لا يخفى على الخبير المتفرس أن الإسلام هو فتنة الغد وداهية المستقبل ، ليست الاشتراكية .

أنا لا أجهل أن هذه الأمة قد اتخذت القرآن مهجوراً ، وأنها فتنت بالمال وشغفت بجمعه وادخاره كغيرها من الأمم ، أنا خبير أن ليل الشرق داج مكفهر ، وأن علماء الإسلام وشيوخه ليست عندهم تلك اليد البيضاء التي تشرق لها الظلمات ويضيئ لها العالم ، ولكني أخاف أن قوارع هذا العصر وهزته ستقض مضجعها وتوقظ هذه الأمة وتوجهها إلى شريعة       ( محمد صلى الله عليه وسلم ) ، إني أحذركم وأنذركم من دين محمد صلى الله عليه وسلم حامي الذمار حارس الذمم والأعراض ، دين الكرامة والشرف  دين الأمانة والعفاف ، دين المروءة والبطولة ، دين الكفاح والجهاد ، يُلغي كل نوع من أنواع الرق ، ويمحو كل أثر من آثار استعباد الإنسان ، لا يفرق بين مالك ومملوك ، ولا يؤثر سلطاناً على صعلوك ، يزكي المال من كل دنس ورجس ويجعله نقياً صافياً ، ويجعل أصحاب الثروة والملاك مستخلفين في أموالهم [1] أمناء لله وكلاء على   المال ، وأي ثورة أعظم وأي انقلاب أشد خطراً مما أحدثه هذا الدين في عالم الفكر والعمل ، يوم صرخ أن الأرض لله لا للملوك والسلاطين .

فابذلوا جهدكم أن يظل هذا الدين متوارياً عن أعين الناس ، وليهنئكم أن المسلم بنفسه هو ضعيف الثقة بربه ، قليل الإيمان بدينه ، فخير لنا أن يبقى مشتغلاً بمسائل علم الكلام والإلهيات وتأويل كتاب الله والآيات ، اضربوا على آذان المسلم فإنه يستطيع أن يكسر طلاسم العالم ويبطل سحرنا بأذانه وتكبيره ، واجتهدوا أن يطول ليله ويبطئ سحره ، اشغلوه يا إخواني عن الجد والعمل حتى يخسر الرهان في    العالم ، خير لنا أن يبقى المسلم عبداً لغيره ، ويهجر هذا العالم ويعتزله ويتنازل عنه لغيره زهداً فيه ، واستخفافاً لخطره ، يا ويلتنا ويا شقوتنا ! لو انتبهت هذه الأمة التي يعزم عليها دينها أن تراقب العالم وتعسه .

رسالة العالم الإسلامي :

لا ينهض العالم الإسلامي إلا برسالته التي وكلها إليه مؤسسه صلى الله عليه وسلم والإيمان بها والاستماتة في سبيلها ، وهي رسالة قوية واضحة مشرقة ، لم يعرف العالم رسالة أعدل منها ولا أفضل ولا أيمن للبشرية منها .

وهي نفس الرسالة التي حملها المسلمون في فتوحهم الأولى ، والتي لخصها أحد رسلهم في مجلس يزدجرد ملك إيران بقوله : ” الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ” ، رسالة لا تحتاج إلى تغيير كلمة وزيادة حرف ، فهي منطبقة تمام الانطباق على القرن العشرين وما بعده انطباقها على القرن السادس المسيحي ، كأن الزمان قد استدار كهيئته يوم خرج المسلمون من جزيرتهم لإنقاذ العالم من براثن الوثنية والجاهلية .

فرسالة العالم الإسلامي هي الدعوة إلى الله ورسوله والإيمان باليوم الآخر ، وجائزته الخروج من الظلمات إلى النور ، ومن عبادة الناس إلى عبادة الله وحده ، والخروج من ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، وقد ظهر فضل هذه الرسالة وسهل فهمها في هذا العصر أكثر من كل عصر ، فقد افتضحت الجاهلية وبدت سوآتها للناس ، واشتد تذمر الناس منها ، فهذا طور انتقال العالم من قيادة الجاهلية إلى قيادة الإسلام ، لو نهض العالم الإسلامي ، واحتضن هذه الرسالة بكل إخلاص وحماسة وعزيمة ، ودان بها كالرسالة الوحيدة التي تستطيع أن تنقذ العالم من الانهيار والانحلال .

[1] وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ .