من وحي الزمان والمكان

الإخلاص وأثره في الحياة الإنسانية
أبريل 28, 2025
رسل الله في خاتم كتبه السماوية ( الحلقة الثالثة )
يوليو 9, 2025
الإخلاص وأثره في الحياة الإنسانية
أبريل 28, 2025
رسل الله في خاتم كتبه السماوية ( الحلقة الثالثة )
يوليو 9, 2025

التوجيه الإسلامي :

من وحي الزمان والمكان

فقيد الدعوة الإسلامية الأستاذ السيد محمد الحسني رحمه الله

المكان : بيت الله الحرام ومسجد النبي عليه وعلى آله وأصحابه الصلاة والسلام !

والزمان : زمن التشريق ، والتهليل والتحميد والتكبير ( وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ البقرة : 185 ] .

قد يصل هذا العدد إلى أيدي القراء ، وهم في أجواء الحج زماناً ومكاناً ، وفي أنوار الحج روحاً ومعنىً ، أو في أصداء الحج مشعراً ومقاماً ، فليكن حديث اليوم حديث المجالس والمحافل ، والنوادي والمجامع والمساجد والجوامع ، وليكن ذلك الشغل الحلو الجميل ، الشغل الشاغل للمسلمين أجمعين ، لأنه حديث الحبيب والقريب ، حديث الحب والوفاء ، والصدق والولاء ، حديث يشحن القلوب الفارغة ببطارية الإيمان ، ويشعل المجامر الخامدة الباردة بشعلة الحب والحنان ، ويذكي مشاعل النور للمتخبطين في ظلام المذاهب والشعارات ، والعصبيات والجاهليات ، بل القمامات والقذرات ، مهما حسنت أسماؤها وراقت ألقابها ، وطابت مظاهرها وأشكالها .

فهذي الليالي كلها أخوات

( وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِك وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ) [ البقرة : 221 ] .

ولئن رضي الجاحدون ، والمنكرون ، أو المفتخرون بلقمات لفظتها موائد الغرب ، فإن الله لا يرضى لعباده الكفر ، إنه لا يرضى بأن يرى حملة دينه ، والأمناء على رسالته يتطفلون على فتات الطعام ويقفون كالأيتام على مأدبة اللئام !

ويتكرر الحج كل عام ليجدِّد ما طرأ على المسلم من بلى ، ويصلح ما أصابه من زيغ ، أو ما اعتراه من خلل ، أو ما لحقه من نقصان ، أو ما لصقه من عار ، أو ما جف من منابع الإيمان واليقين في معاقل الإسلام ، وأوطان المسلمين .

إنه يقف بنا كل عام أمام بيت الله العتيق ، وفي عتبات الحرم وفسحات المشاعر ، لنتذكر ما ينساه العبد المذنب ، القاصر ، العاثر ، المكدود ، في زحمة الحوادث والأشغال ، وخضم المحيط الهادر من أضواء الحياة وضوضائها ، وضجيج الحياة وعويلها ، ولمعان المادة وبريقها ، لتنكشف الغشاوة عن بصره ، ولتتبين معالمه ومقاصده ومراميه البعيدة في ذلك الجو المكفهر ، الملبد بالغيوم ، فيعرفها حق المعرفة ، ويفهمها كل الفهم ، ويثق بها كل الثقة ، ثم يعود منها – وقد قضى مناسكه وأوفى نذوره – بإيمان جديد قوي غالب ، لا يعرف الهزيمة والانكسار ، ويواجه الحقائق المرة والتحديات السافرة ليقضي عليها ويرد كيدها إلى نحرها ، لا ليحني لها هامتها صغراً أو استصغاراً لنفسه ، أو يأساً من روح الله ونصره ( إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوح اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) [ يوسف : 87 ] .

فلا يخضع رأسه ولا يستصغر نفسه ، ولا يتواضع ، ولا يتضاءل ولا يتلاشى إلا أمام الله العلي العظيم الذى له ملك السماوات والأرض ، أما إذا وقف أمام إنسان مثله ( مهما بلغ هذا الإنسان ذروة القوة والجاه والسلطان ) لم ير عليه فضلاً وكرامةً إلا بالتقوى .

إن الحج لا يحارب تلك الرذائل التي تلاصقت بالنفس البشرية رذيلةً رذيلةً ، ولا يجهد نفسه في القضاء على علاتها منفصلةً ، بل يقضي عليها – إذا صحت نية المؤمن وسلمت طويته – جملةً واحدةً ، إنه يكتسح سائر الأحراش والنباتات السامة في النفس البشرية كسيل جارف قوي لا يمنعه شيئ ، ثم يجعلها صالحةً للغرس ، والري ، والنمو ، والازدهار .

إن الإنسان الذي يخمد ، ويتوانى ، ويتقاعس عن العمل لأجل بيئته الفاسدة وشرورها ، أو ينحرف عن طريقه السوي بشعارات ضالة تأخذ بلبه ، أو يتبع هواه لترفه وتنعمه يجد في هذا المكان ما يجدد نشاطه ويقوي همته ، ويصحح مسيرته ، ويقضي على طغيانه وغفلته ، فيذكر أن عباد الله ليسوا بالمتنعمين ، بل إنهم من المجاهدين الصابرين ، الصامدين ، والحج بما فيه من وقوف وقيام ، وغرام وهيام ، وتنقلات متتابعة ، ورحلات مضنية وتمثيل لنوادر التضحية والبطولة والفداء ، واستجابة لهاتف الغيب ، وتلبية لرب البيت ، وخضوع للأمر ، لا يدع له فرصةً للراحة والاستجمام ، والقيام في غير مقام ، شأن المحب المتيم الذي كابد الهجر والفراق ، وبرح به الشوق ، وكاد الحب يأخذ بلبه ويتركه يهيم على وجهه ، دواؤه أن يلمح حبيبه ولو من بعيد ، ويسمع حديثه ولو من وراء حجاب ، ويسمح له بالاطراح على عتبته والابتهال على بابه ، والنياحة على نفسه والتلويح بلوعة قلبه وكبده ولو لساعات وأيام من جملة العام .

إن المسلم اليوم لم يفقد العلم ، ولم يفقد المال ، ولم يفقد القيادة ولم يفقد النظام – رغم أهمية كل من هذه النواحي – بمثل ما فقد القلب الولوع الحنون ، القلب المشرق العامر بالإيمان ، القلب النابض الحي ، القلب الذي يتحرق على خسارة الروح والضمير أكثر مما يتحرق على خسارة التصدير والتوريد .

هذا القلب لا يدع المسلم ينام قرير العين ، ناعم البال ، وهو بين ذل مشاع ، وشرف مستباح ، إنه لا يدع يمشي ضاحكاً مختالاً ، وقد صار موضع السخرية والنكتة والشماتة في محيط العالم كله ، فهو مهما نسي أو تناسى جهل أو تجاهل ، أصبح اليوم بلا وزن ، ولا صوت ، ولا ثقل على سياسة منطقته الخاصة فضلاً عن السياسة العالمية ، لا حول له ولا طول في مجرى الأحداث في بلده فضلاً عن بلاد غيره ، تخطط سياسته في البيت الأبيض أو الكرملين ، وتصمم معارفه وتربيته وثقافته في جامعات لندن وباريس كما تصمم الأزياء ، فهو يستورد الثقافات والأفكار والاتجاهات كما يستورد الأقمشة والصابون والعطور ، ويستعمل آدابها كما يستعمل آلاتها وأدواتها من غير أن يفهم الفرق الهائل بينهما ، حتى إن شرور الحضارة المعاصرة وحيرتها ، وضياعها ، وقلقها ، وإفلاسها وعارها لا يمنعه عن سيره الحثيث وركضه المجنون نحو ملذاتها الخيالية ، ومنافعها الوهمية ( كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحسَبُه الظَّمآنُ مَاءً ) [ النور : 39 ] .

إن هذه المناسك التي يؤديها المؤمن مؤمن في الحج ، والوقفات التي يقفها في حرمه وفي مشاعره ليست أشكالاً وطقوساً مجردةً من كل روح ، خاليةً عن كل معنى ، إنها بطبيعتها تبعث المؤمن بعثاً جديداً، وتمنحه قسطاً جديداً من الحياة ، وتنقذه من أوزار المجتمع المادي الضيق المرسوم الذي عاش فيه زمناً طويلاً ، فألفه ولم يرض عنه بديلاً ، كالحشرات التي تألف الآجام والأحراش والأوحال والجداول والأنهار ، فلا تريد أن تخرج من عالمها الصغير المألوف ، فإذا بالحج يحطم سائر هذه الأغلال والأثقال ، ويهدم سائر الحدود والسدود والقيود ، وإذا هو يقف به – من غير درس طويل وتربية طويلة – في عالم جديد يختلف عن عالمه القديم الشاحب الكئيب كل الاختلاف كما يختلف عالم الجنين الصغير عن هذا العالم المادي الكبير .

إن البيت العتيق هو – في الواقع – محور المسلم الذي تدور حوله رحى الحياة ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنَاً ) [ البقرة : 125 ] فلهم أن يسيحوا في الأرض ، ويبتغوا من فضل الله ، ولهم أن يشتغلوا بما طاب لهم من أشغال ووظائف وأعمال ، وخدمات ونشاطات ، وجهود في الحدود التي رسمها الإسلام ، ولكن عليهم أن يلجأوا أخيراً وفي نهاية الشوط إلى هذا البيت ، كالطفل الصغير الشريد الذي يرتمي إلى أحضان أمه وكنف أبيه أو كالعبد الآبق على عتبة سيده ضارعاً إلى رب البيت ، نائحاً على تمرده وعصيانه ، وجحوده وكفرانه ، وغفلته ونسيانه .

إن التحديات السافرة التي يواجهها المسلمون في هذه الأيام تتطلب أن يجدِّدوا صلتهم بالبيت ، لا على صورة تقاليد جامدة ، وأشكال فارغة ومظاهر جوفاء بل على صورة مصدر حياة ، ومنبع قوة ، ومعين لا ينضب من تجديد الصلة بالله والرجوع إليه في السراء والضراء ، والشدة والرخاء .

إن جميع النشاطات التي نزاولها ، والجهود التي نبذلها ، والمؤسسات التي نقيمها ، والبنايات التي نشيدها ، والجمعيات التي نؤسسها ، والمخططات التي نصممها ، خطيرة وهامة ، ونافعة ومباركة ، لا ينكر فضلها ، ولا يستهان بقيمتها ما دامت متصلةً ببيت الله الحرام ، ما دامت ترى فيه بقاء حياتها ، وإيمانها ونجاتها ، وما دامت تقوم أساليبها ومناهجها على هديه ونوره وما دامت تعظم شعائر الله ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) [ الحج : 32 ] .

أما إذا غرتنا مظاهر الحياة الخلابة التي تولدت من استعمال الآلة والأداة ، أما إذا بهر أبصارنا تقلب الذين كفروا في البلاد ، وبدأنا نطمع فيما آتاهم الله من زخارف ومباهج وملذات ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون .

أما إذا استصغرنا شأن البيت العتيق – لا سمح الله – وازدريناه ، وفضلنا عليه ما أحدثناه من طوابق وشقق وفنادق فاخرة ، مجهزة ، مزودة بأحدث التسهيلات ، ووسائل الترف والنعيم ، أما إذا احتقرنا رسالة الحج مقابل نظريات باطلة ، وأفكار سامة ، وآداب فاسقة ، وحياة ماجنة جاءت إلينا من الغرب ، أما إذا أصبحنا نحاكي موضاتهم وتقاليدهم وآدابهم ، وسخافاتهم ، ونتساقط عليها كما يتساقط الجائع والمحروم على المائدة ، فمعنى هذا أن صلتنا بهذا البيت العتيق قد ضعفت ، وأننا بحاجة قبل كل شيئ إلى أن نجددها ، ونغذيها ، ونحدب عليها ، ونحرسها من كل سوء ، ونتخذ لذلك ما يلزم من تدابير حكيمة ، وإجراءات حازمة ومعالجة دقيقة للقضايا ، ومراعاة لائقة بالطبائع والحاجات والأذواق والمعارف .

فذلك وحده هو الطريق الآمن والمضمون إلى المستقبل الزاهر السعيد الذي أصبح حلماً لدى الشباب المسلم منذ زمن بعيد ، فهل يتحقق هذا الحلم وهل تكون حجتنا هذا العام افتتاح عهد جديد ، ونواة انقلاب في التفكير والميول والرغبات والأشواق ؟ وهل نحن مستعدون لتصحيح مسيرتنا من الفوضى إلى الانسجام ، ومن التخبط في الظلام إلى نور الإيمان وعدل الإسلام ؟