من نوادر التراث العربي : عمدة الكتاب

الجُهُودُ الفِقْهِية في فرنْسَا ( المطبوع في مدينة تِطْوَان المَغْربية )
يناير 14, 2024
(1) لا تحزن : دراسة وصفية
يونيو 4, 2024
الجُهُودُ الفِقْهِية في فرنْسَا ( المطبوع في مدينة تِطْوَان المَغْربية )
يناير 14, 2024
(1) لا تحزن : دراسة وصفية
يونيو 4, 2024

قراءة في كتاب :
من نوادر التراث العربي : عمدة الكتاب
الدكتورة شائستة كمال الأعظمية 
راودتني فكرة تقديم كتاب نادر تم نشره لأول مرة من مصر ، وإعادة طبعه من دار المعارف ديوبند يحمل عنوان ” عمدة الكتاب ” للأديب اللغوي أبي القاسم يوسف بن عبد الله الزجاجي الجرجاني ( 352 – 415هـ ) . وهو شخصية لا يعرف عنها إلا القليل في تاريخ اللغة العربية ، بينما هو من نوابغها التي بها قد نضجت اللغة العربية وازدهرت وتطورت فنونها واعتزت . أما كتابه المذكور أعلاه فتم تأليفه ضمن كتب معاجم المعاني وفن الإنشاء والتعبير والدلالة جنباً بجنب ، على سبيل المثال لا على الحصر : فقهِ اللغة للثعالبي والمخصص لابن سيده وجواهر الألفاظ لقدامة بن جعفر والمستطرف لابن أحمد الخطيب الأبشيهى وغيرها .
جميع فنون اللغة العربية مرتبطة بعضها بالبعض على شكل أساسي ، وتساعد المُنشئ على الصواب في الأداء باللغة ، لكن لا يخلو فن الإنشاء والتعبير من الأهمية ، الذي يساعد المُنشئ على استكشاف المعاني ، وطريقة التعبير عنها ، بألفاظ ، وعبارات ، وفقاً لمقامات معينة . يمكن لنا تصنيف كتاب للزجاجي في فئة كتب فن الإنشاء والتعبير ، لأنه يزود الطالب بأساليب التعبير اللغوي مع عدة معان وكلمات لفكرة واحدة ، ويخلق مهارات لغوية لديه كي يُبدع كلامه باستخدام كلمات ، مناسبة لمحلها وسياقها ، من شأنها أن تكتسب هوى القارئ للاستمرار في القراءة . يكتب ابن عاشور تعريفاً بالإنشاء في فنون اللغة العربية بأنه ” إحداثُ معانٍ منسَّقَةٍ ومُفْرَغَةٍ في غَرَضٍ مطلوب ، فإذا أحسِنَ وصلُها وجمعُها جاء الإنشاء كاملاً ” في كتابه كتاب أصول الإنشاء والخطابة .
حينما نتكلم عن هدف كسب مهارات لغوية فنحتاج إلى تَعَلّم الإنشاءِ الذي يساعدنا على القدرة على توضيح الأفكار باستخدام كلمات مناسبة في أسلوب مناسب وتنسيق عناصر الفكرة مع الإضفاء إليها جمالاً لغوياً وقوة التأثير في قريحة القارئ وحمايته من إصابة أي ملل في مواصلة القراءة . لأجل ذلك ، في ظل غياب الوعي بالتمسك بأصالة اللغة العربية وجمالها والتمكنِ من إيجاد التأثير في الكلام عند جيلنا الناشئ ، إبّان تغلغل التأثيرات الخارجية عبر الإعلام والإنترنت وتسلية النفس على المواقع الاجتماعية ، دعت الحاجة إلى تقديم كتابٍ نادر من نوادر التراث العربي من وظيفته أن يساعد الطلاب على معرفة التعابير والمعاني والمرادفات أو الأضداد والكلمات للإعراب عن فكرة ما . ومن وظيفة فن الإنشاء والبلاغة ، إنه يساعد الكاتب على استقامة الوزن مع اتساق السجع والترصيع والتأنق البديعي مما يجعل الكلامَ المسوق يونق الناظرين ويروق القارئين ، فيصبح الكاتبُ ناظمَ الجوهر المرصع ومركب العقد الموشح . يسعدني هذا التقديم وأقصد به النفع والفائدة لطلاب اللغة العربية .
منذ تأليفه ، ظل الكتاب بشكل مخطوطة في خزانة المخطوطات بالرباط ، المغرب العربي ، ولم يُوفّ حقها من الطبع والنشر ، وعاق الدهرُ محققي الأمة العربية عن وصولهم إليها ، وانتظرت الأمة طوالَ قرون ، إلى أن جاء المحقق المصري الدكتور إبراهيم محمد حسن الجمل ليروم فائدتها ويؤمّل عائدتها ، لما لاح على فكرته ما احتوت عليه هذه المخطوطةُ التراثية النادرة وبانت له أهميتها ، شغّل باله بعملية التحقيق وجرّد في هذا العمل المبارك عنايته ، وأظهر كفايته بعملية التحقيق والتقديم ، ونُشرت بشكل مطبوع من دار النصر للطباعة الإسلامية بالقاهرة مع وسم التوكيد على صفحة عنوان الكتاب ” نص يُنشر لأول مرة ” . تم تصميم الكتاب بمتوسط الحجم مع 169 عدد الصفحات ، وأبواب ما يقارب أكثر من مأتين .
بما يتعلق بالخلفية ، فقد شرح الإمام الزجاجي نفسه قصة تأليف الكتاب . سبقه قدامة بن جعفر بتأليف ” جواهر الألفاظ ” في نفس الموضوع ، فجمع فيه كل رطب ويابس من الكلمات المستعملة والغريبة ، فوقفت عليه جهود الزجاجي وقرر تهذيب وتنقيح جواهر الألفاظ ليستخرج منه ما يسوغ الكاتب أن يستعمله في كتاباته ، وسماه بـ عمدة الكتاب . يسهل هذا الكتاب الكثير من الصعوبات اللغوية لدى الكاتب في التعبير عن المعاني ، ولاسيما ، عندما يحتاج إلى لفظ يستعمله مرادفاً للفظ آخر سبق له أن استعمله ولا يريد تكراره .
نرى الزجاجي يقول في ” باب في المدح ” على صفحة 31 .
أحسن مدحَه وأكثر حمده ووصف مجده وشكر فعله ونشر فضله ، أثنى عليه وأهدى المدح إليه ، ووشّحه حلل المجد والثناء وطوّقه قلائد الشكر والدعاء ، وجلله حبر المديح وأثنى عليه بقول فصيح ، قال فيه أحسن مقال ، ونسبه إلى أجمل فِعال ، لسانه مطية حمده وفطنة شكره ، وغيرها .
على سبيل المثال ، يمكن تدميج هذه المرادفات في قصة شاعر يتنقل بين الوزراء ويمتدحهم بالمبالغة للكسب ، فنقول : نزل شاعر عند الوزير الأول فأحسن مدحه وأكثر حمده ، فلما لاح على صفحات تجربته بخلُ الوزير ، غادره وبلغ إلى الوزير الثاني ، وعرف أنه يؤنقه المدح والنسيب فجعل شعره مطية لحمده ليوشّحه حلل المجد والثناء ويطوّقه قلائد الشكر والدعاء ، فأوفر الوزير عليه العطاء . انتهت القصة القصيرة الافتراضية على سبيل النموذج .
ونراه يقول في ” معنى شدة الشوق إلى الرؤية ” : ” أنا مشتاق إلى رؤيته ، نازع القلب إلى مشاهدة غرّته ، ظمآن إلى مناسمته ، متطلع إلى مؤانسته … إلى الآخر ” .
يمكن نظم جواهر الألفاظ الأنيقة هذه في حكاية شخص يحب شخصاً بشدة ولم يوافقه القدر على اللقاء ، بشكل قصة افتراضية نموذجاً ، ونقول : رجل في قرية من نواحي أعظم جرة أحب فتاة شديد الحب واشتاق إلى رؤيتها ونازع قلبه إلى مشاهدة غرّتها ، فأرسل إليها طلبه ، رفضت الطلب وامتنعت ، أصابه الحزن وقضى أياماً متبقيةً من حياته ظمآن إلى مناسمتها ومتطلعاً إلى مؤانستها .
ونراه يقول في ” باب في الحروب ” على صفحة 95 .
حاربه ، ضاربه ، واقعه ، وقارعه وماصعه ، وقد أوقد نار الحرب ، وأضرم شعارها ، وسعّر أوَارها ، وشبّ لَظَاها ، وأسنم ذُراها ، حرب لا تُصطلى نارُها ، ولا يُطفأ شِعارُها ، ولا يخبو شررها ويكف ضررها ، وغيرها إلى الآخر .
بمناسبة ذكرى الغزو الأمريكي على بغداد نريد أن نجرب هذه الألفاظ المجوهرة ونقول : في شهر آذار عام 2003م أوقدت الولايات المتحدة مع حلفائها نار الحرب على بغداد وأضرمت شعارَها ، ولم يخبُ شرر هذه الحرب الشنيعة ولم يكف ضررها إلا بعد الإطاحة بنظام صدام حسين وتدمير الدولة كل التدمير .
نهاية المطاف ، لا أشير إلى جميع الأمثلة في هذه المقالة ، هدفي يتمثل في استشعار هذا التراث العربي عند الطلاب والدارسين وإيجاد حرص الإنشاء لديهم . ازداد هذا المأثور اللغوي أهميةً في ظروف التقصير والتواني ، التي نحن نعيشها اليوم ، بينما ذلك ، جدّ أسلافُنا الكرام في هذا الأمر ، وتصدّوا لجمع جواهر اللغة العربية المنثورة في كتب لتنتفع بها الأمة العربية حتى تطلع الشمس من مغربها .