إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ
مارس 15, 2023صور وأوضاع :
من الفن إلى الدعوة
محمد فرمان الندوي
العلم والفن لهما تأثير كبير في كل عصر ومصر ، فالفن له علاقة بالجمال والقوة ، والعلم هو إبداء حقيقة من الحقائق فقط ، فالفن له ناحيتان : ناحية الألفاظ والكلمات ، وهو الأدب البليغ المؤثر ، وناحية الطرق التعبيرية من الصوت أو الرسم والتلوين وأعمال اليد والرجل ، والصناعات الأخرى ، وهو ما يُعرف بالفنون الجميلة ، فالألعاب الرياضية التي تستمر على الصعيد العالمي من الفنون الجميلة ، فلها آثار ونتائج منقطعة النظير على المجتمعات الإنسانية ، فالناس من الشرق إلى الغرب ، ومن الشمال إلى الجنوب مغرمون بالألعاب ، إما مشاهدةً أو سماعاً ، أو مساهمةً كفريق من الفرقاء اللاعبين ، ولا تزال أهمية اللعب معترفاً بها في حياة الأطفال ، لأنه يقوي الجسم ، وينشط البدن ، ويريح العقل والفكر ، ويعلِّم الطفل عدداً من المهارات الحركية ، وقد تطور هذا الفن ، فلا يستغني عنه الشباب والكهول ، وهو حاجتهم في إسعاد حياتهم وإنعاش شعوبهم .
بين الجد واللعب :
إن حياة الإنسان تدور بين الجد واللعب ، فالفكاهة والمزاح فطرة الإنسان ، يحتاج إليها الإنسان في مراحل متنوعة من حياته ، وليس هذا معاكساً للشريعة والتعاليم الإسلامية ، وقد استعمل الله تعالى لنفسه كلمة الضحك في القرآن الكريم ، فقال : ( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ ) ( النجم : 43 ) ، وقد ضحك النبي صلى الله عليه وسلم ومزح ، والصحابة الكرام رضي الله عنهم كانوا يضحكون ويمازحون ، وقد تسابق النبي صلى الله عليه وسلم مع أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها في الجري والهرولة ، مرةً سبق النبي صلى الله عليه وسلم ، ومرةً سبقت السيدة عائشة رضي الله عنها ، فقال صلى الله عليه وسلم : هذه بتلك ( سنن أبي داود : 2578 ) ، وقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيدة عائشة رضي الله عنه ، مرةً لرؤية حراب السودان ، وهم كانوا يترامون النبال ( صحيح البخاري : 949 ) ، وورد في كتب الشمائل النبوية أن أبا عمير قد مات له نغر يلعب به ، وكان حزيناً ، فتسلى معه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا أبا عمير ! ما فعل النغير ! ( صحيح البخاري : 6129 ) ، أما الرياضة البدنية فيشجع الإسلام هذا الجانب كثيراً بقوله : ( وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) ( الأنفال : 60 ) ، وكان الرمي في زمن النبوة قوة كبرى ، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ( صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ) ، هذا كله دليل أن التسلية والفكاهة لا يحظرها الإسلام ، لكن بشرط أن لا تخل بالثقافة الإسلامية ، ولا تكون عائقاً دون أداء الشعائر الدينية .
في هذا الزمان أصبحت الألعاب ثقافةً وظاهرةً ، بل تجارةً على أصح تعبير ، يوسع بها التجار نطاق تجاراتهم ، ويتسلى بها المكروبون والمهمومون ، وقد توسعت هذه الدائرة ، فنالت حيزاً كبيراً في سياسة البلدان ، فتحدث مناورات سياسية ومشاكل اجتماعية ، لا بين فريق وفريق ، بل بين دولتين وقطرين ، رغم أن هذه الألعاب رياضية في معنى الكلمة ، وتترك في جسم الإنسان من آثار إيجابية ، فالبون الشاسع بين اللاعبين وغير اللاعبين هو التقوية الجسدية ، وتنمية الفكر والخيال ، أضف إلى ذلك إذا كانت الألعاب عالميةً فتحصل من هذا العمل فوائد الأخوة العالمية ، والمساواة البشرية ، لا فرق بين أبيض وأسود ، وعربي وعجمي ، وشرقي وغربي ، كل في ساحة واحدة ، وفي مباريات واحدة ، فالألعاب فرصة غالية لتقديم النموذج المثالي والشخصية الصالحة ، وهي أولى وأهم من ألف ألف خطب ومقالة ، تُلقى من على المنصات العالمية ، والقنوات الفضائية .
لعبة المونديال (Mondial ) وما لها من نتائج :
كأس العالم لكرة القدم من أشهر المباريات العالمية وأقدمها زمناً ، ولا تزال تجري منذ زمن بعيد على الساحة العالمية ، وهي تقام بعد أربع سنوات ، لأول مرة انطلقت كأس العالم 2022م (FIFA ) من بطولة كأس العالم في العالم العربي والشرق الأوسط ، وقد استضافت دولة قطر هذه البطولة من 20/ نوفمبر 2022م إلى 18/ ديسمبر 2022م ، وتنافس فيها 32/ منتخباً ، وقد قامت دولة قطر بتجهيزات كبيرة وإعدادات هائلة ، حتى إنها أسكنت لها قريةً مستقلةً ، وأنفقت لها من الدولارات والريالات ما يستلفت أبطال المعركة الرياضية ، ويسترعي انتباههم ، لكن كل ذلك باحتفاظ مزاياها الإسلامية وشعائرها الدينية ، ولم تضن قليلاً بتقديم روح الإسلام أمام الجماهير والمشاهدين ، فإن دولة قطر أعلنت بكل صراحة أمام الاتحاد الأوروبي الدولي لكرة القدم : لن نتنازل عن ثقافتنا لمجرد لعبة المونديال ( كأس العالم ) ، وبحمد الله وتوفيقه حققت نجاحاً ملموساً في هذا المجال ، ففي كل ناحية من نواحي الملعب والفنادق آيات قرآنية وملصقات حديثية ، يمر المارون فيقع بصرهم عليها من دون إشعار ، فيقرؤنها وتنتقل معانيها إلى أذهانهم ، وإذا حان وقت الأذان فارتج الملعب بنداءات الله أكبر ، الله أكبر ، وتوقف اللعب ، وقد رأى هذا المنظر أبطال الكرة بأم أعينهم ، والعالم بأسره عبر التلفاز والقنوات الفضائية ، والأجهزة الإعلامية ، ولا شك أن الصلاة والأذان دليل على إيمان الرجل بقوله صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ( رواه الترمذي : 2617 ) ، ومعلوم أن هذا المشهد نرى في فترة قد ألغيت فيها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بعض البلدان ، ولا تزال الدكاكين والمتاجر مفتوحةً وقت الصلاة ، رغم أنها كانت مقفلةً من قبل بعد الأذان ، فهنيئا لدولة قطر على إقامة كأس العالم في أرضها مع التشبث بأصولها وثوابتها الإيمانية .
من الفن إلى الدعوة :
السلوك الحسن والتمثيل الصادق للإسلام أكثر تأثيراً في القلوب والنفوس ، وأكبر أداةً لإزالة سوء التفاهم والأغلوطات والمفاهيم الخاطئة عن الإسلام ، وقد انتشر الإسلام به في العالم كله من أقصاه إلى أقصاه ، وهو أحسن أسلوب للدعوة إلى الله تعالى ، فإن كل مسلم مسئول عن هذه الدعوة : بقوله وعمله وسلوكه وتعاملاته ، وقد مثَّل الدعاة المخلصون هذا الأسلوب في الزمن القديم ، قلما تخلو دولة من دول العالم إلا وقد وصلت إليها تعاليم الإسلام ، هذا الأسلوب قد جذب قلوب العرب الجاهليين إلى الإسلام كجذب المغناطيس القطع الحديدية إليه ، فإنهم رأوا من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخلاق والسيرة المثالية ما لا يمكن رفضه ، كذلك قبائل العرب وغير العرب لما رأوا من المسلمين تعاملهم الحسن انضموا إلى جماعاتهم واعتنقوا بالإسلام ، وكفانا فخراً أن التتر الوحوش الذين دمروا عاصمة الخلافة الإسلامية تدميراً ، ولم يخطر على بال أحد أنهم سينهزمون ويفشلون في هذه المعركة القتالية ، لكن لما رأى ولي عهدهم أحداً من الدعاة المخلصين ، وسمع منه ما سمع ، فكان أمر الله قدراً مقدرواً ، بحيث أسلمت هذه الثلة الكبيرة ، ودخلت في دين الله أفواجاً ، هذا نموذج ومثال لتقديم دعوة الإسلام أمام الآخرين ، فالإيمان إذا خالطت حلاوته بشاشة القلوب فلا يمكن أن يتخلى عنه أحد ، وقد شهد بذلك هرقل لدى لقائه مع أبي سفيان : وسألتك هل يرتد أحد منهم سخطاً على دينه بعد أن يدخل ، فأجبتَ : لا ، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب ( صحيح البخاري ، باب كيف كان بدء الوحي ) .
رب قول أنفذ من صول :
هذا الزمن زمن العلم والإعلام ، وقد شاع في هذا العصر سوء التفاهم عن الإسلام ، وتوجد في بعض الأذهان صور قبيحة للإسلام ، وقد أدى الإعلام ووسائله في ذلك دوراً سيئاً ، أما المستشرقون والملحدون الذين يبذلون جهودهم في تشوية سمعة الإسلام فحدِّث عن البحر ولا حرج ، فكلما سمع أحد اسم الإسلام أو رأى مسلماً قطب جبينه وتغير وجهه ، وليس هذا بدعاً من الأمر ، فقد وُجد منذ أول تاريخه الصراع بين الكفر والإيمان ، فأكبر سلاح لتغيير وجهة النظر هو استغلال الفرص العامة لتقديم دعوة الإسلام ، وشرح مفاهيمه ، وإعادة الثقة بالإسلام في الأجيال الناشئة ، بحيث لا يخطر على بال السامع أن صاحبه يدعوه إلى الإسلام ، وقد شرح أمامه الموضوع بكامله ، فاستعمال الفنون الجميلة لأمثال هذه الأعمال حاجة الساعة ، وكلما كان استعمالها أكثر كان أثرها أقوى وأحسن ، والواقع أن الزبد سيذهب جفاءً ، والباطل يكون زاهقاً ، والحق يعلو ، ولا يعلى عليه ، قال تعالى : ( هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً ) ( الفتح : 28 ) .