مناهج ابن جرير الطبري في الاستدلال بالشواهد الشعرية

ابن الفارض في ضوء ديوانه
فبراير 7, 2023
شعيرة الصوم لدى الديانات المختلفة :
مارس 15, 2023
ابن الفارض في ضوء ديوانه
فبراير 7, 2023
شعيرة الصوم لدى الديانات المختلفة :
مارس 15, 2023

دراسات وأبحاث :

مناهج ابن جرير الطبري في الاستدلال بالشواهد الشعرية

بقلم الأخ جنيد سي

و الدكتورسابق أم كي و  الأستاذ عبد القادر أحمد عبد الله الحمزي *

الملخص :

إن هذه المقالة تتناول الشواهد الشعرية الواردة في تفسير الطبري وتبحث حول منهجية الطبري في استدلالاته بالشواهد الشعرية . تقسم المقالة إلى ثلاثة محاور ، بداية بحياة الطبري كمحور أول ، ثم كتابه في التفسير ( جامع البيان في تأويل آي القرآن ) والأوضاع التي دفعت الإمام إلى كتابته والمشكلات التي واجهته أثناء الكتابة ، كمحور ثان . أما المحور الثالث فيتناول منهجيته في الاستدلال بالشواهد الشعرية مع التركيز على مصادر الإمام في استدلالاته بالشواهد الشعرية ، وكيفية استخدامه الشعر في تفسيره لبيان معاني القرآن . وأهمية هذا الاستخدام في تفسير القرآن .

اعتمدت هذه المقالة المنهج الاستقرائي والتحليلي للوصول إلى تحديد مناهج ابن جرير الطبري في استخدامه للشواهد الشعرية في تفسير القرآن الكريم .

مقدمة :

تختلف المناهج المتبعة في الدراسات العربية القديمة باختلاف مجالاتها ، كما أن الدراسات والبحوث في شتى أنواع العلوم تعتمد على تحديد المنهجية التي يسير عليها الباحث حديثاً وقديماً ، ولقد تطورت هذه المناهج مع تطور العلوم والحياة في شتى نواحيها ، وقد كان للمنهج الذي تقوم عليه الدراسة أهمية تمنح قيمة ذاك العمل من عدمها .

وقد يتبع الأكاديميون المحدثون منهجيات العلماء القدامى ، خاصةً مناهج العلماء البارزين في مجال الفكر والفلسفة ، وإذا لاحظنا الكتب القديمة نرى منهجية مؤلفيها بارزةً للعيان ، ومن أبرز هؤلاء العلماء الكبار المفسر الذي لقب بأبي المفسرين الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، وقد كتب الطبري كثيراً حتى ملأ الدنيا بعلمه وشغل الناس بتعلم علمه ، وقد كبر على الناس قراءة كتبه بسبب كثرة مؤلفاته وعظمتها وعدد صفحات كتبه المنشورة .

تحدد هذه الدراسة منهجية الطبري في استدلالاته الشعرية لتفسير القرآن الكريم من خلال دراسة هذه الشواهد الشعرية التي استخدمها في كتابه ( جامع البيان في تأويل آي القرآن ) ، حيث تقوم هذه الدراسة باكتشاف طرق الطبري ومنهجيته في الاستدلال بالشواهد الشعرية في تفسيره ، وترى أن الطبري يستدل في بعض الأحيان بالقرآن نفسه وفي بعض الأحيان يستدل بالأحاديث النبوية أو أقوال الصحابة أو أقوال التابعين أو أمثلة العرب أو بالأشعار التي عرفت بديوان العرب .

المحور الأول : نبذة عن حياه الإمام الطبري :

ولد الإمام الطبري في آمل ، عاصمة إقليم طبرستان ، البلد الذي يقع في شمال إيران وجنوب بحر قزوين ، كانت ولادتة عام 224هـ إبان العصر العباسي الذهبي الذي امتدت فيه رقعة الإسلام الذي رافقه تطور في شتى جوانب الحياة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً .

استقى الطبري تعليمه في هذه الحقبة الذهبية وقد شد والده على عضده وكان مرشداً له ، فقد حرضه على التعليم ، فنهل الطبري من شتى مناهل العلوم في كل المجالات حتى أمكن للإمام الطبري أن يحفظ القرآن في عمر السابعة ، وكان الطبري إمام قومه في الصلوات مذ تجاوز الثامنة من عمره ، أما في التاسعة فقد توجه إلى دراسة كتب الأحاديث النبوية ، وعلم رجال الأحاديث ورواته .

يقول الدكتور محمد الزحيلي [1] : ” ظهرت على الإمام الطبري في طفولته سمات النبوغ الفكري وبدا عليه مخايل التفتح الحاد والذكاء الخارق والعقل المتقد والملكات الممتازة وأدرك والده ذلك فعمل على تنميتها وحرض على الإفادة والاستفادة منه ، فوجه إلى العلماء ومعاهد الدراسة وساعده على استغلال كل هذه الطاقات دون أن يشغله بشيئ من شؤون الحياة ومطالبتها ، خصص له للانفاق على العلم والتعلم ، وسرعان ما حقق الطبري أحلام والده وزاد له في آماله وطموحه ” [2] .

ولو نظرنا إلى حياته الدراسية فهي تمتد منذ أن نطق باللغة في طفولته إلى أن توفي ، لأن الطبري طلب العلم من المهد إلى اللحد حقاً ، بدأ تعليمه في بيته ثم في قريته آمل ، بعد تلك التربية الابتدائية تجول في المدن المجاورة لطبرستان ، واستمر بحثه عن العلم الذي أخذه من خلال انتقالاته وأسفاره في البلاد كبلاد الري المجاورة التي أخذ من علمائها الحديث والتاريخ واللغة والتفسير . أما في عام 241هـ فقد رحل الإمام طالباً العلم إلى العراق التي كانت مقر الدولة العباسية في ذلك الزمان ، لملاقاة علمائها الأجلاء والكبار كأحمد بن حنبل الذي وافته المنية قبل لقائه به ، فأقام في بغداد مدة يتعلم من علمائها ، ثم سعى بين البصرة والكوفة سامعاً الأحاديث ودارساً الفقه من مختلف المذاهب ، ثم رجع إلى بغداد مرةً أخرى ليكمل تحصيله العلمي الذي بدأه من قبل . وقد لزم الشام قليلاً لكي لا يفوِّت من علمائهم شيئاً ، فمكث في دمشق التي كانت منارةً للعلم حيث كانت عاصمةً للدولة الأموية ، ثم تجول في بيروت ومدن أخرى تناول فيها علوم القرآن والسنة . ثم وجد وقتاً لزيارة مصر وبعد ذلك عاد إلى بلده . وما كان سفره منقطعاً في طلب العلم حتى استقر في بغداد إلى أن توفي في يوم 26 شوال 310هـ في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله .

يبين هذا الجهد الكبير من الإمام الطبري شوقه في جمع العلوم ، والذي أعطى ثروتها للآخرين ، ويبدو أنه نسي أو تناسى أن يتزوج ، لعله قد عزم على أن يعطي للعلم وقتاً كثيراً بترك الزواج .

المحور الثاني : جامع البيان في تأويل آي القرآن :

يعد تفسير الطبري من أقدم التفاسير ، وأول تفسير يبدأ من فاتحة الكتاب وينتهي بسورة الناس ( أي من أول القرآن إلى آخره ، حسب ترتيب المصحف الشريف ) ، وبما أنه أُلِّف في القرن الثالث الهجري فإنه يعد من أهم الكتب في تفسير القرآن الكريم ، ولهذا التفسير قبول عظيم عند أهل السنة والجماعة ، فهو نتاج جهد عظيم ، قد أمضى الإمام الطبري ثلاث سنوات للتفكير في اختيار منهج هذا الكتاب فيروى عن الطبري أنه لما أراد أن يؤلف تفسيره قال لأصحابه : ” أتنشطون لتفسير القرآن ؟ ” ، قالوا كم يكون قدره ؟ قال : ” ثلاثون ألف ورقة ” ، فقالوا : هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة . وحدث في تاريخ الطبري أيضاً مثلما حدث في تفسير الطبري أنه اختصره إلى ثلاثة آلاف ورقة رغم أنه قدره في إرادته ثلاثون ألف ورقة . وقال بعدما قرر أن يختصر ” إنَّا لله . . . ماتت الهمم ” [3] .

يقسم التفسير إلى سبعة مجلدات ( وهذه النسخة نشرت في  1994م ) ، كما يأتي :

المجلد الأول : من  بداية سورة الفاتحة إلى الآية 222 من سورة البقرة .

المجلد الثاني : من الآية 223 سورة البقرة إلى نهاية سورة النساء .

المجلد الثالث : من بداية سورة المائدة إلى نهاية سورة الأعراف .

المجلد الرابع : من بداية سورة الأنفال إلى نهاية سورة النحل .

المجلد الخامس : من بداية سورة الأعراف إلى نهاية سورة النمل .

المجلد السادس : من بداية سورة القصص إلى نهاية سورة الجاثية .

المجلد السابع : من بداية سورة الأحقاف إلى نهاية سورة الناس [4] .

المحور الثالث : منهج الإمام الطبري في الاستدلال :

المنهج في اللغة هو الطريق الواضح الجلي [5] ، وهو خُطَّة منظّمة لعدَّة عمليّات ذهنيَّة أو حسيَّة بُغية الوصول إلى كشف حقيقة أو البرهنة عليها [6] . إذا طالعنا كتب الطبري نرى أنها مبنية على منهجية عظيمة تعكس شخصيته ، وقد أولى الباحثون والدارسون كتب الطبري أهمية بالغة في دراستها بدايةً من كيفية جمع معلوماته وبياناته ، وكيفية جمعه بين الأقوال المتعارضة المختلفة ، ولا سيما تركيزهم على كيفية قيامه باستنتاج المباحث . فالمحور الثالث يرشدنا إلى بعض المناقشات حولها .

إن لابن جرير الطبري مناهج حديثة في عصره ، فقد ابتدع  المنهج الذي يتبعه الأكاديميون من الغرب حديثاً ، بينما كان منهجه في القرن الثالث الهجري ، مما يعني أنه سبق عصره بقرون ، فقد كان نابغةً عبقرياً ، حيث شرع الإمام الطبري بعد نيته تأليف التفسير بتحديد الموضوع الرئيسي ، فمثلاً قد يكون موضوع الإمام إما آيةً وإما حديثاً وإما رأياً ، فيبدأ بجمع المعلومات الكافية للموضوع بالاستقراء والاستقصاء ، وهذا ما يعرف في البحوث الحديثة بجمع المعلومات . ثم ينظر فيه ويقوم بدراستها من الكليات إلى الجزئيات . وبعد ذلك يحلل النصوص بالمقارنة حتى يمكن له استخراج النتيجة من البحث [7] .

الاستدلال :

ومن أعظم منهجياته الاستدلال ، فلم يكن الطبري يقول شيئاً إلا بدليل دامغ يدعم رأيه ، حتى في تفسيره كان يبين الآيات بإتيان بعض الأدلة ، أو يستدل للترجيح بين المعنيين أو لتنكير المعنى الخاطئ .

أما الاستدلال في اللغة فهو : طلب الدليل على شيئ ، والدليل عند العرب هو المرشد والموصل إلى المطلوب [8] . وقد استعمل العرب كلمة الاحتجاج والاستشهاد بمعنى الاستدلال ، فالاحتجاج هو إقامة الحجة على الرأي والاستشهاد هو ذكر الشاهد ، ولكن الاستشهاد أخص لانها أدلة نقلية ، كما أن الطبري استعمل الاعتلال والانتزاع في نحو معنى الاستدلال [9] .

المفسرون يستعملون الأدلة ويبينون منهجهم في مقدمات تفاسيرهم . ليس لأحد حرية أن يفسر القرآن كما يشاء . لأن  القرآن نفسه يورد بعض البراهين لمن يدعي ولم يستطع أن يأتي بالدليل أنه سيكون ذلك ظناً ، وهناك إمكانية على كونها علماً غير ثابت . ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) [10] .

تفسير القرآن بمجرد رأيه حرام في نظر العلماء كما أن الدليل الباطل يكون حراماً في تفسير القرآن ، الإتيان بالأدلة مع إخفاء أدلة أخرى أيضاً نوع من المحرم في مجال التفسير .  وقال النووي : ” ثم المفسرون برأيهم من غير دليل صحيح ، أقسام . . . منهم من يفسر ألفاظه العربية من غير وقوف على معانيها عند أهلها ، وهي مما لا يؤخذ بالسماع من أهل العربية وأهل التفسير ، ولا يكفي في ذلك معرفة العربية وحدها ، بل لا بد معها من معرفة ما قاله أهل التفسير فيها ؛ فقد يكونون مجتمعين على ترك الظاهر ، أو على إرادة الخصوص ، أو الإضمار ، أو غير ذلك مما هو خلاف الظاهر ” [11] . يوضح النووي أن مجرد العلم باللغة غير مكتف للتفسير لأن التفسير يحتاج إلى معايير مختلفة ومتخصصة له ، فلا بد للمفسر أن يفتش آراء المفسرين الكبار أو المفسرين الذين عاشوا قبله ،  أو أن يطالع فيما جاءت من قبل أهل العلم في هذا الموضوع . هناك أدلة أخرى من أقوال العلماء الكبار مثل الماوردي على أن من يفسر القرآن موافقاً لرأيه ولم يأت بأي شاهد على ادعائه ولو كان شرحه صواباً قد أخطأ في الاستدلال . يقول الماوردي ( ت : 450هـ ) ” معناه : أن من حمل القرآن على رأيه ، ولم يعمل على شواهد ألفاظه فأصاب الحق ، فقد أخطأ الدليل [12] .  قياماً على هذه الأسس أتقن الطبري في الاستدلال ، ولم يستدل في أي موضوع من المواضيع إلا لحاجة . وقد استعمل أنواعاً من الطرق للاستدلال ، وسنأتي عن تفاصيله فيما يلي .

مصادر الاستدلال :

يتنوع الاستدلال في التفاسير حسب السياق ، يستعمل المفسرون الأدلة  إما لبيان التراكيب وإما لبيان المعاني ، ومن أهمها مصادر أدلة المعاني . الألفاظ تنقسم إلى المفردة والمركبة ، كل جملة تصنع من الكلمات ، فتحليل الكلمات أو المفردات أولى من تحليل المركبات  والجمل لأن المركبات لا يمكن تحليلها إلا إذا حللت المفردات المتكونة منها التراكيب . فلتحليل هذه الألفاظ لا بد من المصادر القيمة ، فهنا تنقسم المصادر الواردة في تفسير الطبري إلى بعض أقسام مثل الاستدلال بلغة العرب ( مثل العادات المتبعة في مشهور كلامهم  وخطابهم وأشعارهم ) والاستدلال بالسنة والاستدلال بالاعتقاد والسيرة والتاريخ والأخبار ، وسنبحث في هذه المقالة عن لغة العرب فقط .

أقسام الاستدلال من لغة العرب :

يستعمل الإمام الطبري أقوال العرب والأشعار المشهورة الشائعة لدى العرب للاستدلال ، خاصةً الأشعار التي نظمت في لغة قريش والأشعار التي تم تنظيمها من الشعراء الجاهليين والإسلاميين . وكذلك يستعمل الأسانيد المختلفة أيضاً . بما أن القرآن نزل في لغة الإنسان وهو يخاطب الإنسان ، واختيرت اللغة العربية كلغة القرآن بما أن لها مكانة مرموقة لدى اللغات بسيماتها اللغوية ، امتازت  هذه اللغة بأشعارها ، والعرب حفظوا لغتهم بأشعارهم ، لنا أمثلة عديدة من النبي والصحابة لتحريضهم على الشعر العربي ، ويؤكد ذلك ما روي عن عبد الله بن عمر قال :       ” وفد العلاء بن الحصين على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ” أتقرأ من القرآن شيئاً ؟ ” فقرأ ” عبس ” ثم قال هل تروي من الشعر شيئاً ؟ ” فأنشده :

حي ذوي الأضـــغــان تسبــي قلوبهم  تـــحيــتك الحسنى وقد يرقع الــنعل

فإن دحسوابالكره فاعف تكرما  وإن خنسوا عنك الحديث فلا تسل

فإن الذي يــــؤذيــــك مـــنـــه ســماعه  وإن الذي قـــالــــوا وراءك لــــــم يــقل

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” إن من الشعر حكماً وإن من البيان سحراً ” [13] .

ولنا مثل آخر لتقوية الشعر من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ” عليكم بديوانكم لا تضلوا ، قالوا وما ديواننا ؟ قال : شعر الجاهلية ، فإن فيه تفسير كتابكم ” [14] .

الإمام الطبري لم يبتدع الاستدلال من قبله ولكنه تمسك مسلك الصحابة ، يوجد أمثلة كثيرة لاستدلال الصحابة وأهل السلف لألفاظ القرآن ، ولنا مثال من قبل ابن عباس رضي الله عنه عندما سئل عن        ” فومها ” من سورة البقرة أجاب  أنها الحنطة . وتمسك بيت أحيحة بن الجلاح :

قد كنت أغنى الناس شخصاً واحداً ورد المدينة عن زراعة فوم

ثم يبين ابن جرير أن تسمية الحنطة والخبز جميعاً فوما من اللغة القديمة . هكذا كان ابن جرير الطبري يناقش الألفاظ من أصلها ثم يتناول إلى تصريفاتها واشتقاقاتها ، وبعد ذلك يستعرض الأدلة المحتاجة إليها من الأشعار وأقوال العرب .

استعمل الطبري أكثر من ألفي بيت في تفسيره مستدلاً على أنها تبين معاني القرآن ، وقد استعملها في بعض الأحوال لتصحيح المعاني كما أنه استعمل ذلك في بعض الأحوال لإبطال المعنى ، يعرّف نايف الزهلاني الاستدلال أنه من لغة العرب يعرف  بإقامة لغة العرب دليلاً لتصحيح المعاني وقبولها أو إبطالها وردها أو الإبانة بدليل اللغة عن صحة المعاني و بطلانها [15] .

يستعمل الشواهد الشعرية في بعض الأحوال لإثبات المعنى ، يستشهد الإمام الطبري بشعر رؤبة بن العجاج ليستدل معنى ” عاث ” من الآية القرآنية ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) [16] . يقول عاث يعيث عيثاً وعيوثاً وعيثاناً كل ذلك بمعنى واحد :

وعاث فينا مستحل عائث  مصدق أو تاجر مقاعث

ويعني بقوله عاث فينا : أفسد فينا

النوع الثاني من الاستدلال هو للترجيح أو الجمع بين القولين :

قد يكون لكلمة واحدة معنيان أو أكثر ، فيعود الطبري إلى كلام العرب ، أي خاصة الشعر العربي ولنا مثل من سورة البقرة . الآية رقم 228 ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قرء ) [17] ، تجري في معنى القرء مناقشات عديدة ، ولكن لا يوجد حديث واضح يوضح معنى القرء . فاختلف العلماء في معناها ، فيورد الطبري أقوال الصحابة والتابعين الذين  يقولون أنها وقت الطهر كما أنه يأتي بآثارهم اللذي يتبين فيها آراءهم بما يدل على أنها وقت الحيض ، بعدما أورد الإمام جميع الأقوال الواردة من السلف حول الموضوع يأتي بأبيات ليبين وليجمع بين الاقوال المتعارضة . يبين بالشعر أن أصل القرء هو الوقت لمجيئ الشيئ المعتاد لمجيئه لوقت معلوم ولإدبار الشيئ المعتاد إدباره لوقت معلوم . ولذلك قالت العرب :        ” أقرأت حاجة فلان عندي بمعنى دنا قضاؤها وجاء وقت قضائها ويورد قول الشاعر :

إذا ما الثريا وفد أقرأت     أحس السماكان منها أفول

وقيل : أقرأت الريح . إذا هبت لوقتها كما قال الهذلي :

شنئتُ العقر عقر بي شليل  إذا هبت لقارئها الرياح

وسمى آخرون من العرب وقت مجيئ الطهر قرءاً ، إذ كان وقت مجيئه وقتاً لإدبار الدم دم الحيض ، وإقبال الطهر المعتاد مجيئه لوقت معلوم ، فقال في ذلك الأعشى ميمون بن قيس :

وفي كل عام أنت جاشم غزوة   تشد لأقصاها عزيم عزائــكا

مورثة مالا وفي الذكر رفـــعـــة   لما ضاع فيها من قروء نسائكا

وبإتيان هذه الأبيات كشاهد لبيان معنى القرء يفسر الطبري على أن معناه هو إقبال الشيئ المعتاد عليه و إدباره .

الخاتمة :

ركز الباحث في هذه الدراسة على مناهج الاستدلال التي ورد في تفسير الطبري ، وبين فيه وجيزةً عن حياة ابن جرير الطبري وعن تفسيره جامع البيان في تأويل آي القرآن . وفهم الباحث من الدراسة أن الاستدلال شيئ ضروري في التفسير ، يستعمل الإمام الطبري الكلمات مثل الاستدلال والاحتجاج والاستشهاد والاعتلال والانتزاع لإيراد الأدلة والحجج والبراهين ، أورد الطبري استدلاله للإثبات والتصحيح وفي بعض الأحوال للترجيح بين المعينين الصحيحين كما استعمله في بعض الأحوال لإبطال معنى المضاد لألفاظ القرآن . وقد استعمل الطبري أكثر من ألفي بيت للاستدلال بما أن فيها الشعراء الجاهليون والمخضرمون والإسلاميون . وكثيراً ما استدل في شواهده الشعرية أشعار امرئ القيس . ومن الجدير بالذكر أن منهجيته في التفسير والاستدلال منهجية معظمة ، وقابل للتعامل بها حتى في الدراسات المعاصرة .

والله ولي التوفيق ، فإنه نعم المولى ونعم النصير .


* جامعة صنعاء ، اليمن .

[1] أستاذ وفقيه ، يحمل شهادة الدكتوراه في الفقه المقارن بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف الأولى ( 1971م ) من كلية الشريعة والقانون في جامعة الأزهر . وكان عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة الشارقة ( 2000 – 2006م ) . ألف الكثير من الكتب في الفقه وأصول الفقه والتاريخ الإسلامي وتاريخ الأديان وغيرها من المواضيع .

[2] الزحيلي ، محمد الطبري ، ص 38 .

[3] ياقوت الحموي ، معجم الأدباء .

[4] الإمام الطبري ، تفسير الطبري – جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، مؤسسة الرسالة ، 1994م .

[5] ابن المنظور ، لسان العرب .

[6] Team, Almaany. ” تعريف ومعنى منهج في معجم المعاني الجامع – معجم عربي عربي . “Almaany.com, www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/.

[7] الحنطور ، محمود محمد ومحمد الجواهري ، نبيل . قراءة في مقدمة تفسير الإمام الطبري . التفسير والمفسرون ، مجموعة موفع مداد . تاريخ النشر : 23/08/2018م ، تاريخ التحميل 12/03/2018م ( قطعة صوطية ) http://midad.com/lesson/287886/ قراءة – في – مقدمة – تفسير – الإمام – الطبري .

[8] جمهرة اللغة ، 1/114 ، لسان العرب ، 7/262 .

[9] جامع البيان ، 1/422 .

[10] سورة يونس : 94 .

[11] الزهلاني ، لينايف بن سعيد ين جمعان الاستدلال في التفسير . مركز التفسير للدراسات القرآنية ، ص 71 .

[12] الماوردي ، النكت والعيون ، المجلد الأول ، ص 35 .

[13] القرواني ، ابن رشيق . العمدة في محاسن الشعر وآدابه . الكتب الإكتروني ،  ص 153

https://www.noor-book.com/en/ebook-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D8%AF%D9%87-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%AD%D8%A7%D8%B3%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D8%AF%D8%A7%D8%A8%D9%87–pdf#

29-04-2021

[14] الزمخشري ، الكشاف عن خقاءق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، دارالمعرفة ، بيروت 2/330 .

[15] الزهلاني ، نايف بن سعيد ، الاستدلال في التفسير دراسة في منهج ابن جرير الطبري في الاستدلال على المعاني في التفسير . مركز التفسير للدراسات القرآنية ، ص 379 .

[16] سورة البقرة : 60 .

[17] سورة البقرة : 228 .