مناسك الحج : أسرار ومنافع

بين موضوعية التعليم والمتعة التجارية
أبريل 28, 2025
بين موضوعية التعليم والمتعة التجارية
أبريل 28, 2025

الافتتاحية :                بسم الله الرحمن الرحيم

مناسك الحج : أسرار ومنافع

الإنسان مفطور على الحب والهيام ، ومجبول على العشق والوئام ، فقد أودع الله في طبيعته مواهب وقدرات ، واتجاهات ونزعات ، تدعوه إلى الأنس والألفة والمحبة والشفقة ، وقد اشتقت كلمة الإنسان بالأنس ، نظراً إلى هذا المعنى الأثير المتغلغل في أحشاء القلوب ، فهذا العنصر لا يخلو منه نوع بشري ، ولا يتجرد عنه إنسان يعيش على وجه الأرض ، فالمخلوقات الجامدة التي تتمثل أمامنا ، والتي تتوارى عنا تفقد هذه الصلاحية الصانعة للعجائب ، فقد أبت إباءً كلياً حينما عرض الله تعالى الأمانة والتكليف الشرعي الذي حمله الإنسان ، لأنه كان يحمل عقلاً وقلباً ، وإيماناً وعاطفةً ، وطاعةً وخشوعاً ، وحباً وحناناً ، وأما المؤمنون الصادقون فإنهم يملكون رصيداً كبيراً من هذا الحب نحو الله تعالى وعباده وجميع مخلوقاته ، وقد شهد بذلك القرآن الكريم في سورة البقرة :  ( وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ ) [ البقرة : 165 ] .

فالدعائم الأربعة للإسلام التي يؤديها المرء المسلم إيماناً بأنها فرائض محكمة من الله تعالى ، وإذا تخلى عنها الإنسان أو نبذها وراءه ظهرياً خرج من ربقة الإسلام ، وصار ممقوتاً وبغيضاً عند الله عز وجل ، شُرعت لإرواء هذه الغلة الإنسانية ، وإطفاء هذا العطش المادي الذي يشعر به الإنسان في حياته ، فالصلوات الخمس رمز وشعار لتقديم ضريبة الحب والفداء لله عز وجل ، ومناجاة وابتهال إلى الله في السراء والضراء ، والمنشط والمكره ، فالصلاة عند المسلم الحقيقي معقل وملجأ ، كلما حزبه أمر أو نزلت عليه بلية أسرع إلى الصلاة ، وناجى ربه مناجاةً خفيةً ، حتى يكشف الله عنه الغمة ، وكذلك شأن الصيام ، فإنه ما زال ولا يزال بلسماً للجروح ، ودواءً للنفوس ، وغذاءً ربانياً للروح ، وترياقاً لأمراض القلوب يذكِّر الصائم دائماً بمعية الله تعالى ونصره وتأييده ، وحراسته كل حين وآن ، فإن الصائم يجوع ويعطش ، ويبتعد عن الوقاع منذ طلوع الصبح إلى غروب الشمس إيماناً واحتساباً ، ولا يرجو من أحد جزاءً ولا شكوراً ، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ، فيتقبل الله تعالى منه صيامه ، ويمنحه جزاءً من عنده قائلاً : إلا الصوم ، فإنه لي ، وأنا أجزي به ، وأما الزكاة فإن إخراجها مثال للتضحية المالية ، لأن إنفاق الأموال في سبيل الله عز وجل دليل على حب الله تعالى ، وتقديم كل غال ورخيص في سبيله ، فمن كان بخيلاً بماله كان أبخل بنفسه وروحه في سبيل الله تعالى ، فقد توعد الله في سورة التوبة الذين يؤثرون الثمانية على الثلاثة بعذاب من عنده ، قال تعالى : ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ ) [ التوبة : 24 ] .

فالحج بعباداته وأعماله وواجباته حب وهيام ، وعاطفة وإيمان ، وهو رحلة عاشق هيمان إلى جناب البارئ الرحمان ، يتجلى من كل مظهر من مظاهره الفداء والتضحية والاستماتة والتفاني في سبيل الله عز وجل ، فالحاج الشعث التفل حينما يخرج إلى بيت الله الحرام لابساً لباس الإحرام ، فإنه يتظاهر بهذا الحب بشارته وردائه ، وحينما يلبي تلبيةً ربانيةً فكأنه يعلن عن عجزه وضعفه أمام الله قائلاً : أنا المكدي ، وأنا السائل ، وأنا المستغيث المستجير ، ويرد رداً إيجابياً بعمله وتعامله وسلوكه على نداء سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي نادى قبل آلاف من السنين في واد غير ذرع ، لكن نداءه وصل إلى كل بقعة من بقاع العالم ، وقد صوَّر هذا المعنى تصويراً دقيقاً الإمام الندوي رحمه الله بعنوان : الحاج طوع إشارة ورهين أمر : ” والحج بمناسكه وأركانه وأعماله كله تمرين وتمثيل للإطاعة المطلقة ، وامتثال للأمر المجرد ، وسعي وراء الأمر ، وتلبية وإجابة للطلب ، فالحج يتقلب بين مكة ومنى ، وعرفات والمزدلفة ، ثم منى ومكة : يقيم ويرحل ويمكث وينتقل ، ويخيم ويقلع ، إنما هو طوع إشارة ورهين أمر ، ليست له إرادة ، وليس له اختيار ، ولا حرية . . .  هكذا حياة إبراهيم ، وحياة الأنبياء ، وحياة العشاق المؤمنين والمحبين ، والمتيمين ، نزول ، وارتحال ، ومكث وانتقال ، وعقد وحلٌّ ، ونقض وإبرام ، ووصل وهجر ، ولا خضوع لعادة ، ولا إجابة لشهوة ، ولا اندفاع للهوى ” ( الأركان الأربعة : 247 ) .

ونظرة واحدة على مناسك الحج وما يؤديه الحاج من أعمال وواجبات تعطينا صورةً صادقةً كاملةً لحياة المؤمن الصادق المخلص ، وما تحويه في جنبها من دوافع التفاني والاستماتة في سبيل الله ، فالمسلم الحاج من أول أمره منذ إحرامه في قتال مع النفس ، وفي مغامرة مستمرة لا تهدأ ولا تقف لحظةً واحدةً ، إلى أن ينتهي من أداء هذه الفريضة ، فما السعي والطواف ، والوقوف والإفاضة والرمي والنحر ولبس الإحرام والشعث والغبر ليس كل ذلك إلا رمزاً للامتثال والانقياد التام أمام إرادة الله ، وأن الإنسان خلق ضيعف لا يملك من أمره شيئاً ، وأن الجميع سواء أمام أمر الله ، سواء كان شريفاً أو وضيعاً ، ملكاً أم رعيةً ، غنياً أم فقيراً ، فكلهم في لباس واحد وزي واحد ، واقفون في صف واحد يؤدون عملاً واحداً ، ويقيمون في مكان واحد هائمين مبتهلين ، متضرعين إلى الله ، طالبين رحمته وغفرانه ، حريصين على قبول عملهم المتواضع .

ولكل شعيرة من الشعائر الإسلامية حِكم عظيمة ، ومصالح خاصة ، وقد حفلت العبادات الشرعية بالأسرار الدقيقة ، والمنافع البديعة ، ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والزكاة تطهر القلوب وتزكيها من النقائص والكُدرات ، وتُحررها من رق الشهوات والملذات ، والصيام يخفف الكثافة الحيوانية ، لكن فريضة الحج تمتلئ بالمشاهد والمنافع الجسيمة التي لا يمكن التعبير عنها في لفظة أو كلمة ، بل هي مجموع البركات والخيرات التي تتجلى من كل عمل من أعمال حج بيت الله الحرام ، فإن السفر إلى بيت الله الحرام سواءً كان للحج أو العمرة يجشم مشقات كثيرة ، كذلك الوصول إلى الله يحتاج إلى الكدح والمجاهدة ، فالإنسان الذي يتحمل المحن الشداد ينال رضا الله تعالى ، وإن ارتداء الإحرام علامة للتواضع وكسر النفس كما أنه يذكِّر الإنسان بلباس الكفن الذي يلبسه في نهاية رحلته من الدنيا ، وشرب ماء زمزم يحمل فوائد كثيرة ، منها ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم : ماء زمزم لما شُرب له ، والسعي بين الصفا والمروة يوجه الحاج إلى الاستمرارية في الحياة ، دون الركود والجمود ، والوقوف في عرفة ، والاشتغال بالتضرع والابتهال طول النهار وهو خارج حدود الحرم ، دليل على أن العاشق المسكين يلتزم بباب الأمير ، ويبكي بكاء الحزين ، ويرجو رحمة الله تعالى ، فكأن ساحة عرفة هو الباب الأول ، وساحة المزدلفة هي الباب الثاني لهذا الفقير للالتجاء إليه ، وجُعل تقديم الأضاحي في منى علامة لقبول الأعمال عند الله تعالى ، وكما كان رمي الجمرات في الأيام الثلاثة صراعاً عنيفاً مع الشيطان الذي هو عدو الإنسان ، وأما حكمة قصر الرأس وحلقه في الحج فهي أن الحاج يقصر أو يحلق شعر الرأس اليوم ، فإذا كانت الحاجة إلى حلق الأعناق والرؤوس في سبيل الله تعالى ، فإن الحاج لا يتردد ولا يتلكأ ولا يتخلف عنه ، ونظراً إلى هذه المصالح الشرعية قال النبي صلى الله عليه وسلم : تابعوا بين الحج والعمرة ، فإنهما ينفيان الفقر ، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة ( جامع الترمذي : 810 ) .

وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت ، وإليه أنيب ، وصلى الله تعالى على خير خلقه محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

سعيد الأعظمي الندوي

21/10/1446هـ

20/4/2025م