مراحل الشعر العربي حسب تدوين علم العروض

تجربتي في تعلم وتعليم اللغة العربية
سبتمبر 2, 2024
الآداب الهندية في ضوء التاريخ
سبتمبر 2, 2024
تجربتي في تعلم وتعليم اللغة العربية
سبتمبر 2, 2024
الآداب الهندية في ضوء التاريخ
سبتمبر 2, 2024

دراسات وأبحاث :

مراحل الشعر العربي حسب تدوين علم العروض

الدكتور محمد سعود الأعظمي الندوي *

يُعتبر علم العروض من العلوم التي استخرجها المسلمون ، وليس فيه أي إسهام لأي حكيم أو احتذاء لأي حضارة ، فوضع المسلمون أصولها ، وجعلوا منها فروعها ، حتى بلغ هذا العلم مبلغاً يُعرف به جيد الشعر من فاسده ، وحسنه من قبيحه . نشأ علم العروض في اللغة العربية على أيدي العالم الفذ خليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى 172هـ .

عدم حاجة علم العروض :

لم يكن العرب في العصر الجاهلي في حاجة إلى علم ، يعلّمهم فن النظم أو فن الشعر ، فقد كانوا يقولون الشعر عن سليقة أو ملكة كانوا يمتلكونها ، وطبقاً لأوزان أو بحور يعرفونها ، ويدركون ما تحمله من زحافات وعلل مختلفة إدراكاً فطرياً .

وليست الحياة البدوية كانت تسمح لهم أن يفعلوا ذلك ، لأن الشعر ليس عندهم إلا كعلم أو فن يتوارثونه عن آبائهم وأجدادهم ، وهو كان سجل تاريخهم ، ومفخرة حياتهم ، وليس العصر عصر التدوين والتطوير للعلوم والفنون ، ولكن حينما نزل القرآن بلغة قريش فهبت رياح العلم والعرفان التي دعت المسلمين إلى صيانة القرآن ونشر علومه وفنونه فشكلوا العديد من العلوم الجديدة لم يكن العرب يعرفونها من قبلُ حفظاً للغة العربية ، ودونوا كل ما سمعوا من كلام العرب شعراً ونثراً حينما سمعوا القول ” الشعر ديوان العرب ” ، لأن صيانته من أيدي العابثين منوطة بصيانة الدين والمعرفة بتاريخ العرب وحضارتهم .

ولعل معرفتهم الفطرية بلغتهم وفنون الكلام التي يتعاطونها هي التي جعلتهم يستغنون عن وضع القواعد والمصطلحات الملائمة للنحو والصرف والعروض والبلاغة وغير ذلك من علوم اللغة .

ومعنى ذلك أن أول ما قاله العرب من الشعر لم يكن خالياً من عروض أو وزن ، بسبب عدم اهتمامهم بتقنينه في علم أو وضعه في كتاب يحفظه من عوادي الزمان ، ويتوارثه الخلف عن السلف . فالشعر الجاهلي جميعه موزون ومقفى ، لأن مبدعيه من الشعراء كانوا على دراية فطرية بأوزانه على تباينها واختلاف أشكالها ، وظل الأمر كذلك حتى انتشرت اللغة العربية بعد الإسلام في الأقطار المفتوحة في مشارق الأرض ومغاربها ، حيث دخلت أمم أجنبية عديدة في الدين الجديد ، واضطرت إلى استعمال اللغة العربية لتأدية الفرائض والشعائر والمناسك وقضاء الحاجات العامة ، وكان من نتيجة ذلك أن أخذ اللحن يشيع فيها ، بسبب ضعف معرفة المستعربين بالشعر العربي وأوزانه .

حاجة إلى تدوين علم العروض :

فهنا ظهرت الحاجة الماسة إلى جمع وتصنيف اللغة العربية ووضع مختلف القواعد التي تحفظها من الزلل والانحراف وسوء الاستعمال . فانكب ثلة من العلماء الأفذاذ على وضع علوم النحو والصرف والبلاغة والعروض لصونها من شوايب التشويه ومساعدة الأعاجم على استعمالها على النحو الصحيح .

مراحل الشعر العربي حسب علم العروض :

وهذا أمرٌ لا يتناطح فيه عنزان أن أي علم أو أي فن لا يصل إلى مرحلة النضوح والكمال إلا بعد مرور بزمن الابتداء والتكوين ، ولكن إذا نظرنا في تاريخ الشعر العربي وجدناه أن الشعر العربي القديم الذي وصل إلينا كان في مرحلة النضوج منذ البداية ، لأن كلام شعراء العصر الجاهلي مثل أشعار امرئ القيس وقبله مهلهل بن ربيعة الذي يعد من أقدم شعراء العصر الجاهلي كانت في صورة راقية وكانت على قمة الأدب والشعر من حيث النضوج والكمال .

فالذي يدعو كاتب هذه السطور إلى التفكير هو أنه ما هو تاريخ الابتداء والتكوين للشعر العربي ؟ هل هناك نموذج للشعر الذي اتبعه شعراء عصر النضوج أو قرضوا الشعر بدون اتباع أحد ، فوجد في ديوان العرب بعض الإشارات التي تخبر أن برهة من الزمن لمرحلة التكوين ثم الميلاد قد مضت قبل مرحلة النضج ، كما أشار إلى ذلك كلام الشعراء بما فيه كلام امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى وعنترة بن شداد وأشعارهم كما يلي :

عوجاً على الطلل المحيل لعلّنا نبكي الديار كما بكى ابن خذام

وكقول زهير :

ما أرانا نقول إلاّ مُعاراً أو  مُعاداً من قولنا مكروراً

وكقول عنترة :

هل غادر الشعراء من متردّم أم هل عرفتَ الدار بعد توهّم

فالشعراء الذين تساءل عنترة عنهم ، واعتراف زهير بأن ما يقولونه إن هو إلا قول مكرور معاد استعاروه من سابقيهم ليدل دلالةً قاطعةً على أنهم جاءوا بعد مرحلة الميلاد – التي سبقتها مرحلة التكوين – بزمن ليس بالقصير ، وكان أثر سابقيهم بادياً على أشعارهم ، بل لا يفتأون يستعيرون منهم طرق الصياغة والمعاني ويكررون نماذج بعينها نعجز نحن اليوم عن المقارنة لعدم توافر شعر تلك المرحلة الأولى الذي لم تصلنا إلاّ ملامح وإشارات خفيفة عنه ، فالوقوف على الأطلال والبكاء على الديار وغيره ممّا نعتبره من الخصائص الأسلوبية للشعر الجاهلي كان شعراء تلك المرحلة – مرحلة ما بعد الميلاد – يتبعونه ويستهلّون به أشعارهم كبكاء شاعر كابن خذام الذي استشهد به امرؤ القيس .

كما يتبع الشعراء الهنود الأولون ، الشعراء الجاهليين في أشعارهم ويستهلون أشعارهم بالوقوف على الأطلال والبكاء على الديار كالقصيدة اللامية للقاضي عبد المقتدر الدهلوي .

يا سائق الظعن في الأسحار والأصل سلم على دار سلمى ، وابك ثم سل

فمن الحديث في السطور الماضية قد اتضح لنا أن بداية الشعر العربي من العصر الجاهلي ليست هي بدايتها الحقيقية ، بل هي نموذج أشعارهم الراقية التي بلغت إلى أعلى قمة في الفن . وأمّا أقوال العلماء والنقاد العرب أن الشعر ” بُدي بملك وخُتم بملك ” أو قول البعض إنّ أوّلهم المهلهل لهلهلة شعره وضعف نسجه أمر مستغرب لا يسنده دليل . بل هي إشارات عامة من أقوالهم اتسمت بما اتسم به النقد العربي القديم من تعميم الأحكام النقديّة دون دراسة ، وتحكم الذوق الشخصي في مثل أحكامهم ، كما يقولون : إن أول غزل أو أهجى شعر أو أغزل بيت هو بيت كذا ، وشعر فلان فهي سمة من سمات النقد العربي .

ولقد أجمع الباحثون والعلماء في العصر الحديث والقديم على أن الشعر العربي أقدم مما نظن ، فيقول ناصر الدين الأسد : ” نحن نستطيع أن نعرف وجود هذه المراحل السابقة من أمرين : أولهما : أنّ هذه الصورة الشعرية التي وصلت إلينا صور فنية كاملة متسقة تامة التكوين سويّة البناء ثابتة الأسس ، حتى لقد أصبحت بعد نماذج فنية تحاكى وتحتذى ويتخذ منها عمود للشعر يحرص على التزامه شعراء العصور التالية في البيئات المتعددة التي صارت أزهى حضارة وأرقى ثقافة وأغزر معرفة ، وليس يصحّ في الأفهام أن تنبت هذه الصور الكاملة السويّة من العدم أو تقوم من الفراغ أو تولد فجأة يافعة تامّة التكوين . وثانيهما : أنّ في كلا الشعرين إشارات واضحة حيناً ومبهمة أحياناً إلى شعراء سابقين لا نكاد نعرف عنهم شيئاً ” .

ويقول نجيب البهيتي في تاريخ الشعر العربي : ” إن النموّ الطبيعي للقصيدة العربية وأوزانها وموضوعاتها واللغة ونحوها وأساليبها ، وإيجازها يستدعي أن تكون مرت قبل زمن امرئ القيس بأطوار كثيرة وتعثرت تعثرات جمّة حتى اكتمل لها هذا الشكل الذي نجدها عليه في شعر امرئ القيس ومن سبقه أو جاء بعده ” .

ويقول الأستاذ أحمد أمين مع إظهار أسفه على عدم وصول الشعر العربي القديم إلينا ، إن الذي وصل إلينا من أشعار العرب هي في صورتها الأخيرة بعد نضوجها واكتمالها : ” ولا شك أنها مرت بأدوار طويلة قبل أن تستوي : من إقواء وبساطة معان وخطأ في التفاعيل ونحو ذلك ، ثم زال ذلك كلّه على مرّ الزمان ونقد النقاد . وهكذا رأى أستاذي الدكتور عبد المجيد عابدين وهو يؤكد : ” أن هذه المرحلة التي وصلتنا ممثلة للشعر الجاهلي ما هي إلا مرحلة النضوج التي كانت مسبوقة بمرحلة النشأة ومرحلة النموّ والانتشار في الشعر العربي – في رأيه – مرّ الشعر في نشأته وتطوره ” بمراحل بعيدة حتى بلغ ما بلغه في الشعر الجاهلي ” .

لقد حاول الأستاذ الدكتور عبد الرؤوف بابكر السيد إثبات أن الشعر العربي بدأ بشكل السجع الذي كان يستخدمه الكهنة العرب بصورة وزن المقفى ، ثم تطور بشكل تدريجي حتى أصبح فناً مستقلاً ، وقال : قد ذهب بعض كبار المتعرّبة من علماء الألمان مثل جولدزيهر وبروكلمان إلى هذا الرأي ويجعلون مبدأ الشعر العربي السجع . ويقول إبراهيم أنيس : ” غير أنّنا الآن نستطيع ونحن مطمئنون كلّ الاطمئنان أن نؤكد حقيقة ثابتة أصبح الباحثون في الأدب العربي يجمعون عليها وهي أن الشعر الجاهلي في صورته المعروفة ليس لنا إلا نتيجة تطور أجيال سبقتها ومراحل مرت بها حتى صارت تلك الأوزان المتعدّدة الدقيقة النسج التي لا يعقل نسبتها إلى شعب فطري بدائي ، كما كان الناس يظنون فيما مضى ، بل هي نتيجة ثقافة أدبية مرّت عليها قرون كثيرة ، ولقد كان الشعر العربي مظهراً من مظاهر الفصاحة بين خاصة من العرب في الجاهلية .

وقد ألقى الأستاذ عبدالصبور رأيه دعا إلى مناقشته ” هو أن الشعر العربي كان تطوراً صوتياً لشعر الساميات القديمة ، وإن بداياته نستطيع أن نتلمسها في هذه الساميات تماماً مثلما كانت اللغة العربية تطوراً للساميات القديمة ، فالتطور اللغوي للغة ، والتطور الصوتي للشعر قد ساراً إذن جنباً إلى جنب ، وقد استفاد امرؤ القيس والمسيب بن علس وعمرو بن قميئة والمرقش الأكبر ومهلهل وغيرهم من خبرات شعراء كتبوا باللهجات الأراسية والصفوية واللحيانية والثمودية وغيرها ، وهؤلاء الشعراء المجهولون هم الذين ذللوا الطريق الموسيقي ، وعلى أيديهم عبر قرون طوال اكتشفت الأبحر الخمسة عشر أو الستة عشر ومجزوءاتها وحين أدرك الشعراء الجاهليون زمانهم كانت اللغة والموسيقى قد استوفتا تمامهما وبلغتا أوجهما ” .

وقد وافق هذا الرأي الذي أجمع عليه الباحثون العرب – الدارسون من المستشرقين ، بل يجمعون على أن بداية الشعر العربي قديمة جداً بشكل وزن المقفى أو السجع ، فيعترف فيلبي أنّ الأمّة العربية أهملت أصول فنّها أو بداياته وأعمالاً ضخمةً قامت بها في فترة من فترات تاريخها القديمة نتيجةً لأسباب لم ير فيلبي مبرّراً لها ، غير أن يكون انصرافاً في كبرياء حتى لتطلق على ماضي عظمتها الباكرة اسم ” العصر الجاهلي ” . ويقول جوستاف فون جرونباوم : ” إنّ الأصول التي نشأ منها هذا الشعر الرائع في رقيّه ليست في متناول يدنا ” كما يتعجّب دي فرجيه بقوله : ” إنّ أصول هذا الأدب قد هربت منّا لسوء الحظ ، فهو حين يطلع علينا لأوّل وهلة ” . وهو الرأي الذي ذهب إليه روم لاندو إذ يقول في ” الإسلام   والعرب ” : ” ولعلّ القصائد الجاهليّة التي حفظت حتى أيّامنا هذه نشأت في القرن الذي سبق الإسلام ( 500 – 622 ب . م ) ولكنّ شكلها المحكم المصقول ينهض دليلاً كافياً على أنّ مرحلة طويلة من تطوّر الفن الشعري لابدّ أن تكون مرحلة طويلة من تطوّر الفن الشعري لابدّ أن تكون قد سبقت هذه النماذج التي لا نعرف ما هو أعتق منها ” .

كلّ هذه النصوص وجميع تلك الآراء وكثير غيرها تكاد تجمع إجماعاً تامّاً ، سواء منهم من تساءل وأنكر أن تكون هذه النصوص المكتملة هي بداية الشعر ، أو من جزم بأنّ للشعر أوّليات غير هذه ، وبدأ يُعمل ذهنه مستنتجاً من الملامح التي وجدها في هذا الشعر أو من التاريخ الحتمي الواضح ، أو التاريخ المستنتج ، تُجمع جميعها على أنّ للشعر العربي أوّليّات بعيدةً نشأ وتدرّج ، حتى وصل إلى هذه المرحلة التي هي بين أيدينا ، وقد أهملها العرب كما أهملوا تاريخهم القديم وتقييمهم للآداب والفنون القديمة ولما سبقت من حضارات . وما دام الشعر العربي له تاريخ قديم وقديم جدّاً ، فإنّ لنا جولة مع نشأة الوزن وتطوّره أيضاً .

ثم خلص الدكتور عابدين مما أورده في هذه المجموعة من شواهد إلى ثلاث نتائج :

إن الأسجاع التي أجرى عليها العرب الفصحاء تجاربهم الأولية للوزن العروضي هي أسجاع الدعاء والتهليل التي اقترنت بالحركة   الموقعة ، وارتبطت بمعبودات العرب ومقدساتهم في الجاهلية .

إن الوزن الذي ظهر في هذه الأسجاع هو وزن الرجز وحده ، وهذا يتفق مع الرأي القائل بأن الرجز أقدم الأوزان التي عرفها العرب الفصحاء .

إن التجارب الأولية من خلال هذه الأسجاع – دلت على أنها في سبيل التخلص من طريقة التركيب النثري والاتجاه إلى النظم كانت تتعثر أحياناً سواء في إتقان السجع وإحكامه ، أو في إقامة وزن التفعيلة ، أو في التسوية بين أجزاء الوزن في الطول . أما المجموعة الأخرى من الشواهد فهي بعض الأرجاز التي احتفظت ببقية من تلك التجارب الأولية ، وفيها تظهر آثار التعثر في القافية والوزن على نحو ما رأيناه في الأسجاع .

خلاصة القول :

وكل ما قيل في الشعر قبل تدوين علم العروض لم يكن خالياً عن العروض ، لأن العرب يقولون الشعر عن سليقة أو ملكة كانوا يمتلكونها طبيعياً ، وطبقاً لأوزان أو بحور يعرفونها ، ويدركون ما تحمله هذه البحور من زحافات وعلل مختلفة ، إدراكاً فطرياً ، ولم يكونوا في حاجة إلى علم يعلمهم فن النظم أو فن الشعر بشكل مستقل ، لأن الحياة البدوية لا تسمح لهم بأن يفعلوا ذلك ، لأن الشعر ليس عندهم إلا كعلم أو فن يتوارثونه عن آبائهم وأجدادهم ، فالشعر الجاهلي جميعه موزون ومقفى ، لأن مبدعيه من الشعراء كانوا على دراية فطرية بأوزانه على تباينها واختلاف أشكالها ، وظل الأمر كذلك ، ولكن حينما أخذ اللحن يشيع فيهم ، بسبب ضعف معرفة المستعربين بالشعر العربي وأوزانه . فمست الحاجة إلى جمع وتصنيف اللغة العربية ووضع مختلف القواعد التي تحفظها من الزلل والانحراف وسوء الاستعمال ، فانكب ثلة من العلماء الأفذاذ على وضع علوم النحو ، والصرف ، والبلاغة ، والعروض لصيانتها من شوائب التشويه ، ولمساعدة الأعاجم على استعمالها على النحو الصحيح . فنشأ علم العروض ، مثل غيره من العلوم العربية ، في القرن الثاني الهجري ، على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي ، الذي استخرج من الشعر الجاهلي ، عن طريق الاستقراء ، في دفعة واحدة .

* أعظم جراه – الهند .