كادت عليه تصدع الأكباد
نوفمبر 19, 2023الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ومجلة ” البعث الإسلامي “
نوفمبر 19, 2023مثال رائع لميراث الشمائل المحمدية
بقلم : الأستاذ أبوبكر الصديق الفيضي الندوي *
كثيراً ما نقرأ أو نسمع نبذةً من سيرة رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم أو جانباً من جوانب الشمائل المحمدية أو نفحات حياتِه العَطِرة ، فنتعجَّب كيف يمكن لشخص أن يرتفع إلى تلك الدرجة من السموّ والشرف والكمال في الخلق والطبيعة والشيمة والعادة . ولكن حينما نلمس ونتجرَّب نموذجاً من تلك الأخلاق والشِّيَم والعادات في بعض الأشخاص من أهل بيته صلى الله عليه وسلم وخواصِّ أتباعه تذهب تلك الدهشةُ ويضمحلُّ ذلك الاستغراب ، ونؤمن ونتيقَّن بأن ما صدر من مشكاة النبوة وصاحب المعجزات ومحطِّ الوحي أمرٌ طبيعي ومَظهرٌ فِطري من تلك الشخصية الفذة .
حينما نقرأ أبيات الشاعر العربي الفرزدق في مدح عليٍّ زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب ردّاً على من أنكره وتجاهل عن هُويته في قصيدته المعروفة مُستهلُّها :
هذا الذي تعرف البطحاءُ وطءتَه والبيتُ يعرفه والحلُّ والحرم
نتخيل ونفكر أن قبساً من القبسات التي استنارت بنور صاحب الرسالة إذا كان بهذه المرتبة من العظمة والمجد فكيف لا تكون ذاته الشريفة وشخصيته الرفيعة متمثِّلةً فيما وصفه الشاعر حسان بن ثابت رضي الله عنه :
وأحسن منك لم ترَ قط عينٌ وأجـــمــل مـنك لم تلدِ النساءُ
خُلقتَ مُبرَّءًا من كـــلِّ عـيـب كأنك قد خُلقت كما تشاء
ونرى أن هذه العظمة وهذه الرفعة يتمثَّل ظلها ويتجسَّد بعضُ لمعات نورها في كثير من أحفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفروع أهل بيته رغمَ مُضي مئات السنين وتعاقب الأجيال وتباعد الآفاق في ولادتهم ونشأتهم وانتمائهم إلى شعوب وجنسيات مختلفة في العالم . وخير دليل على ذلك ما نشهد ونشاهد في بعض سلالته التي نزحت الى بعض بلاد العجم ، واستقرت هناك وأقامت في بيئات وأجواء مختلفة تماماً مثلما نرى في بعض العائلات الشريفة في كيرلا وفي شمال الهند وغيرها . مع أنهم يتوارثون من صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم العلمَ والعقيدةَ والتقوى والزهدَ والثباتَ في سبيل خدمة الدين والأمة ، يُمثِّلونه في الخِلق والخُلق والسيرة والسريرة والشكل والهِندام وإقبال الناس واحترامهم ، كما قرأنا في قصيدة الفرزدق عن حفيد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وكما شهدنا في السيد الشريف عبد الرحمن البافقيه وأبناء السيد فوكويا تنجل الفانكادي أي السيد محمد علي شهاب وإخوته في كيرلا وأمثال السيد سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي وأعضاء أسرته في شمال الهند .
الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله :
الشيخ السيد محمد الرابع الندوي فرع من تلك الشجرة المحمدية ، وقبس من نور تلك العترة الماجدة . ولد الشيخ السيد محمد الرابع ولداً رابعاً للسيد رشيد أحمد بن خليل الدين الحسني ، حيث سمَّى كلاً من أبنائه باسم محمد حُباً وتبرُّكاً بخاتم الرسل محمدٍ صلى الله عليه وسلم مع إضافة العدد للتمييز فيما بينهم ، فسمى الأول باسم محمد الأول والثاني بمحمد الثاني وهكذا . . . . . وكان محمد الثاني هذا عالماً من علماء الأمة ، ولكن وافته المنية في منتصف حياته المتوقعة . وكذلك أخوه الأصغر محمد الخامس المعروف باسم واضح رشيد الندوي ارتحل إلى رحمة الله قبل عدة أعوام .
ولادته ونشأته :
وكان شيخنا الرابع نجل السلالة الحَسَنية ، حيث كان أبوه وأمُّه من تلك الشجرة العتيقة ، وأمه أمةُ العزيز هي الأختُ الشقيقة لسماحة الأستاذ الداعية المعروف ومؤلف كتب عربية جليلة ، السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله . ولد في اليوم السادس من جمادى الأولى عام ١٣٤٨هـ الموافق لـ ٢ أكتوبر عام ١٩٢٩م في دائرة الشيخ علم الله ( تكية كلان ) بمقاطعة راي بريلي من ولاية أترا براديش بشمال الهند . وكانت عائلته من سلالة عربية من أسرة السيد حسن بن أبي طالب رضي الله عنهم نزحت إلى الهند في عهد الإمبراطور المغولي أورنكزيب عالمكير ( م ١١١٨ هجرية ) ، وبلدته اشتهرت بجده العالم الرباني الشيخ علم الله الذي كان من كبار خلفاء الإمام أحمد السرهندي المعروف بمجدِّد الألف الثاني . وكانت أسرته معروفةً بالعلم والدعوة والإرشاد حيث كانت أمه وجدّاته من فُضلَيات النساء ، وآباءُه وأجداده أيضاً اشتهروا بعلومهم وارشاداتهم وحياتهم الشريفة النبيلة .
لقد نشأ في تلك البيئة الدينية والعلمية وانتقل إلى لكهنو بعد اكتمال الدراسة الابتدائية ، والتحق في دار العلوم التابعة لندوة العلماء والتزم خالَيه السيد الدكتور عبد العلي والسيد الشيخ أبي الحسن علي الندوي وتربى وترعرع في رعاية الشيخ الندوي وتتَلْمذ عليه وتعلم منه العلوم واللغات وتفرغ من دراسته الرسمية في ندوة العلماء عام ١٩٤٨م ، وبعد ذلك أيضاً لازم خاله الشيخ الندوي في حلِّه وترحاله واستفاد منه جميع ما يمكن استفادته حيث كان يرافقه في معظم أسفاره في البلاد العربية والأوربية وغيرها مع ما كان يستفيد من سائر أساتذة ومشائخ دار العلوم ندوة العلماء وغيرهم من كبار علماء زمانه مثل الشيخ المحدث حسين أحمد المدني والشيخ المحدث زكريا الكاندهلوي وغيرهما .
وعقب فراغه من الدراسة عُيِّن كمدرِّس في جامعة ندوة العلماء وتدرج من معلم مادة اللغة العربية وآدابها إلى الأستاذ المساعد للأدب العربي ( ١٩٥٢م ) ورئيس قسم الأدب العربي ( ١٩٥٥م ) واختير عميداً لكلية اللغة العربية وآدابها في عام ١٩٧٠م . وفي سنة ١٩٩٣م عين مديراً لدار العلوم ندوة العلماء بعد وفاة المدير محب الله الندوي . وفي عام ١٩٩٨م عيِّن نائب رئيس لندوة العلماء كما عين في ٣/ يناير من عام ٢٠٠٠م رئيساً عاماً لندوة العلماء بعد وفاة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في ٣١/ ديسمبر من عام ١٩٩٩م .
وكذا اختير أيضاً رئيساً لهيئة قانون الأحوال الشخصية الإسلامية لعموم الهند بعد وفاة رئيسها الشيخ مجاهد الإسلام القاسمي في ٢٠٠٢م . وهذا المنصب أيضاً كان خاله الشيخ الندوي يتولاه إلى آخر أيامه . وكذلك تولى منصب رئاسة رابطة الأدب الإسلامي العالمية بعد وفاة رئيسها التأسيسي الشيخ أبي الحسن الندوي ، إضافةً إلى عدد كبير من الجمعيات والمؤسسات الإقليمية والدولية كان الشيخ محمد الرابع ينتمي إليها يشرف عليها أو يتولى رئاستها أو عضويتها .
الشيخ الرابع هو الذي أصدر صحيفة الرائد من رحاب ندوة العلماء في ١٩٥٩م ، وهي صحيفة عربية نصف شهرية لا تزال تصدر وتُثري العالم الأدبي بمساهماتها القيمة مع ما لشيخنا الراحل من المؤلفات العديدة في العربية والأردية . وعدد من كتبه مقرر في النظام التعليمي لجامعة ندوة العلماء إضافة إلى عدة دور علمية تنتهج منهجها أو تسير في طريق الجمع بين القديم والجديد . ومساهماتُه في مجلة البعث الإسلامي والرائد غنية عن تعريفها لكون القراء العرب يشهدون بها ويستفيدون منها حتى آخر لحظاته .
صلتي مع الشيخ الرابع :
كان لي شرف التتلْمذ والاستفادة من الشيخ حين ما كنت طالباً في دار العلوم ندوة العلماء في ١٩٨٥ – ٨٦م في قسم الدراسات العليا في الأدب العربي . وكان الشيخ يدرِّس لنا بعض الكتب الأدبية ، وكان ذلك فرصةً سانحةً للتعرف مع الشيخ عن كثب . وكان يتعامل مع الجميع بلطف ورقة ، ويظهر بلين وابتسامة وبكلام عذب سهل مع الجميع . والذي يصافحه يخطر بباله ما حكاه الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن خِلقه وخُلقه في حديث متفق عليه : ” ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت رائحةً قطُّ أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ، ويتيقن مصداقية الحديث حق اليقين بما تجرَّب في بعض أحفاده المبتعدين عنه بمئات السنين .
وبالجملة إن كثيراً من أعضاء أهل بيت النبي وخواص أتباعه يُثبِتون بحياتهم وسلوكهم وسيرتهم أنَّهم لم يرثوا من صاحب الرسالة العلمَ والعقيدةَ فقط ، بل توارثوا منه أوصافاً عديدةً من الشمائل المحمدية أيضاً . رضي عن الجميع وأرضاهم وصلى الله على نبينا المختار وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين . والحمد لله رب العالمين .
* كاسركود – كيرالا .