ما هو المعيار في تعيين النصاب للزكاة ؟ ( الحلقة الثانية الأخيرة )

الوقف الإسلامي لبنة صلبة في البناء الحضاري الإنساني ( الحلقة الثانية الأخيرة )
أبريل 27, 2024
قضايا مستجدة حول وقت الأضحية
يونيو 4, 2024
الوقف الإسلامي لبنة صلبة في البناء الحضاري الإنساني ( الحلقة الثانية الأخيرة )
أبريل 27, 2024
قضايا مستجدة حول وقت الأضحية
يونيو 4, 2024

الفقه الإسلامي :
ما هو المعيار في تعيين النصاب للزكاة ؟
( الحلقة الثانية الأخيرة )
د . محمد مصطفى عبد القدوس الندوي 
وجوه الترجيح عند القائلين للفضة :
ومن قال من العلماء الأقدمين والأحدثين أن الفضة ينبغي أن تجعل معياراً واصلاً في تقدير النصاب لإيجاب الزكاة في أموال التجارة والعملات الورقية ، وذلك بوجوهٍ ، وهي كما يلي :
ثبت نصاب الذهب عشرين مثقالاً بحديث ضعيف بخلاف نصاب الفضة مائتي درهم أنه ثبت بحديث صحيح أيضاً مع ضعيف ؛ فقال النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم : ” ليس في أقل من عشرين مثقالاً من الذهب ، ولا في أقل من مأتي درهم صدقة ” .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ليس فيما دون خمس ذود صدقة من الإبل ، وليس فيما دون خمس أواق صدقة ” . والأوقية أربعون درهماً بغير خلاف .
والحاصل أن نصاب الفضة ثابت بالسنة الصحيحة ، ونصاب الذهب ثابت بالسنة الضعيفة .
ولا شك أن الفقهاء اختلفوا في قدر نصاب الذهب ، فعند الجمهور عشرون مثقالاً ، خالفهم عطاء ، وطاووس ، والزهري ، وسليمان بن حرب ، وأيوب السختياني رحمهم الله ، وقالوا : نصاب الذهب معتبر بالفضة ، فما كان من الذهب قيمته مائتي درهم درهم ففيه الزكاة ؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تقدير في نصاب الذهب ، فيحمل نصابه على نصاب الفضة . وأما نصاب الفضة ، فلم يختلفوا فيه ؛ بل قالوا بالإجماع : نصاب الفضة مائتا درهم .
ثم مشروعية الزكاة ليس هدفها إلا تحقيق حوائج الإنسان البائس والفقراء والمساكين ، وهذا الغرض الأسمى لا يتم إلا في جعل الفضة معياراً في التقويم ، وهي أنفع لهم اليوم أيضاً قدراً ورواجاً كما كانت في الماضي .
وكانت الفضة أكثر رواجاً للثمنية في العهد الجاهلي والإسلامي ، وبهذا السبب اعتبرت الشريعة الإسلامية المطهرة نصاب الفضة أصلاً دون نصاب الذهب ، وجاءت تفاصيل الزكاة وأحكامها في الأحاديث المشهورة اعتباراً لنصاب الفضة .
أدلة القائلين بتقدير النصاب بالذهب ووجوه ترجيحه عندهم :
وقد سبق الاختلاف في تقدير النصاب بالذهب ؛ فإلى القارئ أدلة القائلين بتقدير النصاب بالذهب :
(1) عن محمد بن عبد الله بن جحش رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه أمر معاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ من كل أربعين ديناراً ديناراً .
(2) وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين ديناراً فصاعداً نصف دينار ، ومن الأربعين ديناراً ديناراً .
(3) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قلتُ للنبي صلى الله عليه وسلم : إن لامرأتي حليّاً من ذهب عشرين مثقالاً ، قال : ” فأدّ زكاته نصف مثقال ” .
(4) وروى أبو أحمد بن نجويه في ” كتاب الأموال ” عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ليس فيما دون مائتي درهم شيئ ، ولا فيما دون عشرين مثقالاً من الذهب شيئ ، وفي المائتين خمسة دراهم ، وفي عشرين مثقالاً ذهباً نصف مثقال ” .
(5) وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” وليس عليك شيئ يعني في الذهب حتى تكون لك عشرون ديناراً ، فإذا كانت لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول ففيها نصف دينار .
(6) ومن الآثار ما روي عن أنس رضي الله عنه قال : ولاّني عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصدقات ، فأمرني أن آخذ من كل عشرين ديناراً نصف دينار .
(7) وقال العلامة الشربيني الشافعي رحمه الله : على أن الأصل في التقويم هو الذهب الخالص حتى لو سرق دراهم أو غيرها قوّمت به .
(8) وقال الدكتور وهبة الزحيلي رحمه الله متحدثاً عن تقدير النصاب بالذهب : ” وتقدير الأوراق النقدية بسعر الذهب ؛ لأنه هو الأصل في التعامل ، ولأنه غطاء النقود هو بالذهب ، ولأن المثقال كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وعند أهل مكة هو أساس العملة وهو أساس تقدير الديات ، ويسأل الصراف عن سعر الذهب بالعملة المحلية الرائجة في كل بلد ” .
وقال أيضاً : ” والأصح تقدير النصاب الورقي بالذهب ؛ لأنه معادل لنصاب الأنعام ( الإبل والبقر والغنم ) ، ولا لارتفاع مستوى المعيشة وغلاء الحاجيات ” .
(9) وقد سبق القول أن التقويم بما هو أنفع للفقراء من الذهب أو الفضة لا على التعيين بالفضة ، ففي الوقت الحاضر أنفع للفقراء في تعيين النصاب في أموال التجارة والأوراق النقدية بالذهب ، كما يأتي الكلام عليه مبسوطاً عن قريب ، ويتضح ذلك للقارئ .
(10) وفي زماننا هذا ، الذي هو يعتبر زمان الرقي والازدهار ، قد وقع تفاوت فاحش في قوة الذهب والفضة الشرائية اليوم لم يكن في العهد النبوي ، وقد نال الذهب منزلةً مركزيةً في الاقتصاد المالي في دول العالم كله ، نظراً إلى إتقانه وإحكامه وانضباطه بالنسبة للفضة ، ويعتبر معياراً لتقدير مالية النقود الورقية على صعيد العالم أيضاً .
(11) والحكومات الراهنة تجعل الذهب معياراً لنقوده ، وتُقرِّر وتُحدِّد ماليتها وقيمتها بناءً على هذا .
(12) والأوراق النقدية الوضعية الجعلية المالية ترتبط بالذهب قانوناً .
نظرة على وجوه الترجيح للقائلين بتقدير النصاب بالفضة :
(1) الدليل الأول أن نصاب الذهب ثابت بالحديث الضعيف ، ولكن ليس ضعفه شديداً بالتحقيق ، ثم أنه مروي بتعدد طرق ، وله شواهد أيضاً ، ومن المعلوم أن تعدد الطرق والمتابعات والشواهد تقوّي إسناد الحديث ويرتقي إلى الحسن لغيره ، والحسن لغيره مقبول حجة عند المحدثين والفقهاء .
وقد قبِلَ حديثَ تقدير النصاب بالذهب جمهورُ الفقهاء ، وعملوا به ، ومن جملة صفات الحديث المقبول أن تتلقاه الأمة بالقبول ، وإذا تلقت الأمة الحديث الضعيف بالقبول يؤخذ ويحتج به ويعمل به على الصحيح حتى إنه ينزل منزلة التواتر المعنوي في بعض الأحيان .
وقد قبله فقهاء الأمة منهم الأئمة الأربعة وأصحابهم ، وما خالفهم إلا بعض التابعين ، لا يعبأ باختلافهم ولا قيمة له ضد جمهور الفقهاء ، والخير فيما ذهب إليه الجمهور ، واتخاذ الخير خير .
(2) والدليل الثاني هو ادعاء الإجماع على نصاب الفضة مائتا درهم ، صحيح ، لا خلاف فيه لأحد من الفقهاء ، ولكن ذلك معلل بالزمان ، كما سبق أن نصاب الفضة مائتا درهم ونصاب الذهب عشرون مثقالاً لم يكن بينهما فرق كبير وتفاوت فاحش من جهة القوة المالية الشرائية في العهد النبوي وفيما بعده إلى زمان طويل .
وقد تساوى حديثا نصاب الذهب والفضة في القوة مآلا ؛ فينبغي للمفتي أن يختار نصاب الذهب لتقدير نصاب أموال التجارة ، والعملات الورقية نظراً إلى أحوال الناس المتغيرة ، ووقوعِ تفاوتٍ فاحشٍ بين قوة الفضة والذهب الشرائية وقدرهما لم يكن مثل هذا التفاوت الفاحش الكبير في العهد النبوي كما نشاهده اليوم ؛ كي لا يقع الناس في ضيق شديد في وجوب الزكاة ، ومن القواعد الفقهية : ” الأمر إذا ضاق اتسع ” .
ونرى في المجتمع البشري المسلم أفراداً يملكون من أموال التجارة ما يبلغ قيمته إلى نصاب الزكاة بناءً على نصاب الفضة في التقويم والتقدير ، وهم لا يستطيعون أن يوفوا بحاجاتهم اللازمة اللابدية اليومية بل ربما يحتاجون إلى المساعدة المالية من الغير لتحقيقها ، كيف ومن أين يؤدون الزكاة ؟ ويضحّون لله في عيد الأضحى ؟ ويخرجون صدقة الفطر ؟
ثم لا يحل لهم أخذ الزكاة الواجبة وأموال النذور ، وصدقة الفطر ؛ لأنه يوجد فيهم سبب الحرمان منها وهو ملك الأموال بقدر نصاب الفضة .
كذلك نرى نساء يملكن الحلي من الفضة والذهب ، ويبلغ نصاب الفضة بالضم بالقيمة ، والحال أنهن لا يملكن ما يأكلن مشتبعات ، ولقضاء حوائجهن الأخرى الضرورية اللازمة .
هذا هو الضيق الذي يجلب التيسير ويتطلب من الشرع أن يوسّع للناس في نصاب الزكاة ، والتوسع في جعل الذهب معياراً وأصلاً في التقويم وتقدير النصاب .
(3) وفي الواقع أن هذا الغرض الأسمى من مشروعية الزكاة لا يتحقق في جعل الفضة معياراً في التقويم ؛ بل الأمر عكس ذلك في هذا الزمان ، أي الفقراء يصيرون أغنياء ؛ بما يملكون من الأموال ما يبلغ نصاب الفضة بسرعة ، وفي ذلك الوقت لا يحل لهم الزكاة ، فصار تقدير النصاب الورقي ونصاب أموال التجارة بالذهب أنفع للفقراء في الزمان المعاصر .
(4) ولا شك أن الفضة تبقى أكثر قدراً ورواجاً في كل زمان وفي كل مكان بالنسبة للذهب ؛ ولكن ليس هذا سبباً قوياً يعزّز وجهة النظر لجعل الفضة معياراً في تقدير النصاب الورقي .
(5) ولا شك أن الفضة تبقى أكثر قدراً ورواجاً في كل زمان وفي كل مكان بالنسبة للذهب ؛ ولكن ليس هذا سبباً قوياً يعزّز وجهة النظر لجعل الفضة معياراً في تقدير النصاب الورقي ونصاب أموال التجارة ؛ لأن هذا شيئ طبيعي إذا كثر شيئ كثر رواجه وازداد تناوله في الناس وتداولت به أيديهم . وعلى سبيل المفروض أن الفضة أكثرها رواجاً للثمنية سبب لاتخاذها معياراً للنصاب في شيئ آخر ؛ فلا بدّ أن تقرر العملات الورقية معياراً في تقدير النصاب ؛ لأنها أكثر رواجاً من الفضة أيضاً للثمنية ، ثم من بينها الدولار الأمريكي أكثرها رواجاً وذريعةً في تقدير المالية والقوة الشرائية وتبادل الأوراق النقدية وصرفها لأقطار العالم بعضها من بعض على صعيد العالم ؛ فينبغي أن يجعل مقياراً في تقدير النصاب ، ولم يقل به أحد إلى الآن .
وأما قولهم : ” جاءت تفاصيل الزكاة وأحكامها في الأحاديث المشهورة اعتباراً لنصاب الفضة ” . هذا ادّعاء يحتاج إلى الدليل والبرهان ، وتقديم الشواهد من الأحاديث ، وإن سلّمنا قولهم ، فذلك يحتمل قويّاً أن يكون تقريباً للفهم لا لكون الفضة أنها اعتبرت معياراً لتقدير النصاب ، وإن كان الأمر كذلك ، ما كان يناسب للرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم أن يبيّن نصاب الذهب عشرين مثقالاً بصراحة . ثم من يقول تقدير النصاب بالفضة ، فهم يخيّرون الناس في تقدير النصاب بين الذهب والفضة حين يتساويان في الرواج – وإن كانت الفضة معياراً منصوصاً لتقدير النصاب ، لا بدّ أن تبقى معياراً على كل حال ، ولا تتغير باختلاف الأحوال النبيئات عبر القرون والأجيال .
خلاصة البحث :
• يضم الذهب إلى الفضة والفضةُ إلى الذهب في تكميل النصاب الشرعي للزكاة .
• ثم يتحقق الضم بالأجزاء على الراجح .
• الذهب أصل ومعيار للتقويم في زكاة أموال التجارة والأوراق النقدية .
• ومن ملك أموال التجارة أو الأوراق النقدية ما عدا الحوائج الأصلية ، يمكن بها شراء الذهب قدر النصاب ، تجب الزكاة عليه ويحرم عليه أخذ الزكاة ودفعها إليه .