ماذا ربح العالم وماذا خسر بطوفان الأقصى ؟

والذي خبث لا يخرج إلا نكداً
يناير 28, 2025
الاتجاه المتنامي للكراهية مصدر الفساد في العالم
أبريل 28, 2025
والذي خبث لا يخرج إلا نكداً
يناير 28, 2025
الاتجاه المتنامي للكراهية مصدر الفساد في العالم
أبريل 28, 2025

صور وأوضاع :

ماذا ربح العالم وماذا خسر بطوفان الأقصى ؟

محمد فرمان الندوي

لعل هذا العنوان يكون مثيراً للحيرة والاستغراب للناس أن طوفان الأقصى كيف يكون مبعث خير ، وسبب خسارة للعالم كله ؟ فلإزالة هذا الاستغراب لا بد من الإشارة إلى حقيقة ملموسة قبل قرن من الزمان ، وهي أن الإمام الشيخ السيد أبا الحسن علي الحسني الندوي ألف كتاباً قيماً ، نال صيتاً حسناً ، وسمعةً منقطعة النظير في الأوساط العلمية والأدبية ، وأثار حفائظ المناوئين للإسلام ، وأقامهم وأقعدهم في عقر دارهم ، حتى قال قائل : ” لو كان في بريطانيا فرض حظر على أي كتاب لكان هذا الكتاب أولى وأحق به ” ، إن هذا الكتاب طبعت طبعاته من أشهر مكتبات العالم ، ولا تزال تتكرر طبعاته في أحجام مختلفة ، وقامات متنوعة ، ولغات متعددة ، الأمر الذي استرعى انتباه العالم الإسلامي هو عنوان الكتاب : ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، وما كان يُخيل إلى العالم كله أن العالم الإنساني يخسر ، ويصاب بالخسارة الفادحة ، ويُمنى بالخيبة والهوان بانحطاط المسلمين وفشلهم ، لكن الكتاب صدَّق الواقع ، وأثبت بالحقائق والأرقام هذا المشهد المرير ، حتى انبهر العالم تجاه هذه الدراسة العلمية ، وقد ذكر مؤلف الكتاب أن المسلمين هم العامل الأقوى في ربح العالم وخسارته ، رغم أن العالم الإنساني ذهب طرائق قدداً ، ومذاهب شتى نحو خسارة العالم وربحه ، وزيادته ونقصانه .

هذا ، وقد حدث طوفان الأقصى قبل خمسة عشر شهراً ، وقد اعتبرته بعض الجهات المغرضة انتحاراً وقتلاً للأنفس والأرواح ، فكتبنا في هذا العمود بعنوان : ” إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً ” أن طوفان الأقصى كان نداء الساعة وحاجة الوقت وجهاد اليوم ، وقد كانت له ثلاثة تداعيات بوجه أخص : (1) احتلت إسرائيل أرض الفلسطينيين العرب ، بل أرض الإسلام والمسلمين ، ولا تزال تقذف بالصواريخ والرشقات كل يوم ترويعاً وتخويفاً بل قتلاً للمواطنين الآمنين في فلسطين ، وهناك ملفات كاملة للمذابح الصهيونية ضد العرب منذ عام 1948م إلى يومنا هذا    (2) اعتقلت إسرائيل في سجونها من الفلسطينيين حوالي خمسة آلاف ، بل أكثر من ذلك ، وهم يعانون أنواعاً من التعذيب والتنكيل ، فكيف لا يستحقون أن ينقذوا إخوانهم من معتقلات وسجون إسرائيل ، هذا ما لا تسمح به الشريعة والعقل الإنساني (3) كان هناك تسابق وتنافس في تطبيع العلاقات مع الحكومة الجاثمة على صدور المسلمين في أرض فلسطين ، من الدول العربية ، وقد طبعت بعض الدول العربية علاقاتها في أرض فلسطين مع إسرائيل ، وبعضها كانت مستعدةً وقائمةً في الطابور ، وإذا سمحت بوجود إسرائيل في أرض فلسطين عملياً ، انتهى الأمر ، وساد اليأس والقنوط العالم الإسلامي ، وكتب للمسلمين الذل والهوان ، فلا بد من اتخاذ خطوات حاسمة نحو هذه المنافسات الغير الشرعية الجائرة ، وقد وضع طوفان الأقصى حداً قوياً من هذا الاتجاه .

إيجابيات طوفان الأقصى :

شهد العالم أجمع على مرور سنة وخمسة شهور أن طوفان الأقصى نجح في مرامه ، وبلغ إلى غايته ، وسيبلغ بإذن الله تعالى إلى آخر مرحلة من أهدافه ، وهو تحرير الأقصى برمته من الأيدي الغاصبة الآثمة ، وقد ضحى طوفان الأقصى بأفلاذ كبده وأبطال جهاده ، وكان في مقدمتهم أبو أحمد إسماعيل هنية ، وصالح العروري ، وأبو إبراهيم يحيى السنوار ، ومحمد الضيف وغيرهم من المرابطين في سبيل الله عز وجل ، فإنهم تفانوا في طوفان الأقصى ، واستماتوا بكل ما أمكن لهم من نفيس ورخيص ، وقد هُدمت بيوتهم ومنازلهم ، وخُربت مشافيهم ومدارسهم ، وحُولت مدنهم ومناطقهم إلى بلاقع وقفار ، وقُذف أطفالهم ونساؤهم وشيوخهم بالصواريخ والدبابات ، والأسلحة الحديثة الأحدث ، وسُلبت منهم طمأنينتهم وسلامة الأرواح والأنفس ، وأصبحوا عزلاً بدون مسكن ولا لباس ، وقد هدد الرئيس الأمريكي أنه سيجعل غزة ناراً تتلظى ، وجحيماً يتحرق ، لكن لم يغيِّر ذلك من موقفهم الصارم ، ولم يصرفهم عن إرادتهم الصلبة القوية شيئ من هذه التهديدات والتخويفات ، بل أصبحوا أقوى وأبسل من ذي قبل ، لأنهم باعوا أنفسهم وأموالهم من الله بأن لهم الجنة ، فهم ينظرون إلى الجنة رأي العين ، ويودعون الدنيا ببشارة من الله تعالى ، فرأت الدنيا من جديد روائع الإيمان واليقين ، وشعرت بحماسة المجاهدين الأبطال ، ونشأت في قلوب الناس عواطف الاستماتة في سبيل الله تعالى ، وتجددت ذكريات القرون الأولى ، وقد تحققت بشارة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم : لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي وعد الله    ( متفق عليه ) .

أعلنت إسرائيل في بداية طوفان الأقصى أنها لن توقف الحرب على غزة حتى تتحقق لها ثلاثة أهداف رئيسية : (1) إطلاق سراح الرهائن لدى حماس (2) السيطرة الكاملة على غزة (3) استئصال حماس من وجه الأرض ، وقد أعاد هذه الأهداف مراراً وتكراراً بنيامين نتنياهو ، لكن الوضع الراهن يدل دلالةً كاملةً على أن إسرائيل لم تحقق أي هدف وغاية من أهدافها وغاياتها ، بل خابت وخسرت ولحق بها فشل ذريع ، وأخيراً لجأت إلى اتفاق وقف النار وإطلاق سراح رهائنها لدى حماس ، وقد نشرت الصحف الأمريكية أمثال وال استريت Wall Street Journal في عددها الصادر في 31/ يناير 2025م أن إطلاق سراح الرهائن وصمة عار وشنار على إسرائيل ، وقال ايتمار بن غفير وزير الأمن القومي سابقاً ، وهو يجهش بالبكاء : تبدو هزيمة إسرائيل علناً وجهاراً من مشاهد غزة ، وقال انتوني بلينكن وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية : حماس نظرية وأيدلوجية ، لا يمكن إزالتها وردعها من وجه الأرض بالقوات العسكرية .

صورتان متضادتان للتعامل مع الأسرى :

إن مشاهد إطلاق سراح الرهائن تسر الناظرين ، وتثلج صدور المؤمنين ، وقد رآها العالم كله بغاية من الشوق واللهفة ، وكان من ترتيبات هذا الإطلاق أن الرهائن يتم تسليمهم إلى الصليب الأحمر في حفل تذكاري ، حيث يتكثف عدد ملحوظ من سكان غزة ، وأبطال حماس ، وتنظم المنصات وتزين بلوحات الشهداء ، ويتبادل الأسرى والرهائن ، وقد التقطت صور الكاميرات فرحة وسرور الرهائن وقت الإفراج عنهم ، وقد تمت ثماني دفعات للتبادل حتى الآن لإطلاق السراح ، وفي هذه الدفعة الثامنة قبَّل أحد الشباب الرهائن رأس بطل حماس ضمن صفقة التبادل ، فارتجت الأجواء بتكبيرات رفيعة ، وتصفيقات سارة ، وقد أبدى الرهائن في الدفعات كلها عن انطباعاتهم الحسنة نحو احتجازهم في السجون ، وحسن التعامل معهم ، كما أُتحفوا بتحف ونوادر ونسخة مترجمة عبرية من القرآن الكريم ، أبهجت الرهائن للغاية وقت المغادرة ، أما المسجونون الفلسطينيون الذين يرجعون إلى وطنهم من سجون ومعتقلات إسرائيل ، فإنهم في أسوء حال ، إن أقمشتهم بالية ، وشعورهم مبعثرة ، وقد بلغوا من الضعف والعجز وكبر السن ، بحيث لم يمكنهم المشي إلا بالعصا أو الاتكاء على أحد ، فهاتان صورتان متضادتان للتعامل مع الأسرى .

خطة ترمب انتهاك للقانون الدولي :

هذا ، وقد اقترح أخيراً الرئيس الأمريكي دونالد ترمب اقتراحاً لسكان قطاع غزة ، وهو تهجيرهم القسري إلى الأردن أو مصر ، صدر البيان أولاً من مصدر إعلامي NBC أن سكان غزة يتم تهجيرهم إلى إندونيسيا ، ثم صدر البيان الثاني ، ولا شك أن هذه الخطة مشئومة للغاية ، وقد وصف القادة الأوربيون أنها فضيحة وانتهاك صارخ للقانون الدولي ، مؤكدين أنها تمثل تطهيراً عرقياً ، غير مقبول ، ولم تتوقف ردود فعل لهم ، بل نشرت مقالات حادة كشفت فساد هذه الخطة وتحديها للقوانين الدولية والأعراف الإنسانية ، وقال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر : يجب أن يتمكن أهل غزة من العودة إلى ديارهم ، وأن يسمح لهم بإعادة البناء ، وعلينا أن ندعمهم ، لأن ذلك هو الطريق إلى حل الدولتين ، وقد رفض كل من مصر والأردن والمملكة العربية السعودية وقطر والكويت هذه الخطة ، وقالت : لن نرضي بالتهجير القسري لأهل غزة ، وقد فشلت جميع المحاولات من قبل للتهجير السكاني ، وستفشل هذه الخطة على رؤوس الأشهاد .

لا بد لكل انقلاب من تضحية :

يعتقد الناس أن طوفان الأقصى أتى بخسارة فادحة بحيث ذهب ضحيته خمسون ألفاً من الرجال والنساء والأطفال والصبيان ، وجرح أكثر من مائة ألف ، وأصبحت المنطقة خراباً يباباً ، هذا ما يتجلى من ظاهر الأمر ، لكن إذا درسنا الواقع بدقة عرفنا أن طوفان الأقصى بعث في النفوس طموحاً وهمةً عاليةً ، وأنشأ في الأرواح نشاطاً جديداً ، ونفخ في الأجساد النائمة سلكاً كهربائياً ، وأحيى الضماير الميتتة من جديد ، وأيقظ روح الجهاد في سبيل الله تعالى ، وكشف اللثام عن تحرير القدس والمسجد الأقصى ، وهو غاية عظمى ، ومهمة كبرى ، تتضاءل أمامها جميع التضحيات والخسارات ، وقد صدق من قال : لا بد لكل انقلاب من تضحية ، قال تعالى : ( إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ ) [ التوبة : 111 ] .