طاعة النبي صلى اللّه عليه وسلم
يوليو 9, 2025الدعوة الإسلامية :
ليشهدوا منافع لهم
الشيخ الطاهر بدوي *
والحج من العبادات التي تعود على الفرد والجماعة بالمنافع الكثيرة المادية منها والمعنوية ، متى التزم الناس في أداء هذه الفريضة المقدسة بما شرعه الله لهم . . . ومن هذه المنافع :
تلك المعاينة المثيرة لوجدان المؤمنين حين يواجهون بيت الله الحرام ، أو حين يطالعون قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم الذين طالما توجهوا إلى الكعبة وتخيلوا مشهدها ، وتشوقوا إلى الطواف حولها ، كلما وقفوا بين يدي الله في صلاتهم ، هذه المعاينة تربط المؤمن ربطاً مباشراً ، بشعائر دينه ، وتصله بالخالق جل وعلا اتصال عين اليقين ، اليقين الذي يجعله يتسابق في الخيرات والطاعات ، وكيف لا ؟ وقد آن له أن يهتم بعد شواغل الدنيا ، بتقديم شيئ لمصيره الآجل .
يقضي المؤمن فترةً طويلةً لا هم له إلا الذكر والتلبية والتجرد لهما من كل شواغل الحياة الدنيا . وليس كالذكر والتلبية وسيلةً إلى التقرب من حضرة ذي الجلال وهو ذكر يحدث في أطهر بقعة على ظهر الأرض ، وفي ظروف تجرد تام ، يرفع الدعاء إلى مستوى الإجابة ، قال تعالى في سورة البقرة : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) ، وفي سورة غافر قال جل ذكره : ( وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) .
ومن المأثور في هذا عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” إن داود النبي صلى الله عليه وسلم قال : إلهي ! ما لعبادك عليك إذا هم زاروك في بيتك ؟ قال : إن لكل زائر حقاً على المزور ، يا داود : لهم علي حق أن أعافيهم في الدنيا وأغفر لهم إذا لقيتهم ” ( رواه الطبراني في الأوسط ) ، وفي حديث أخرجه الشيخان وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ” ، وفي رواية للترمذي : ” غُفر له ما تقدم من ذنبه ” ، وحديث أخرجه النسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” الحجاج والعمار وفد الله ، إن دعوه أجابهم ، وإن استغفروه غفر لهم ” . ومن طريق آخر قال عليه الصلاة والسلام : ” يغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج ” .
فالحج يغفر الذنوب ويزيل الخطايا إلا حقوق الآدميين ، فإنها تتعلق بالذمة حتى يجمع الله أصحاب الحقوق ليأخذ كل حقه . ومن الجائز أن الله تعالى يتكرم فيرضى صاحب الحق بما أعد له من النعم وحسن الجزاء ، فيسامح المدين تفضلاً وتكرماً ، فلا بد من أداء حقوق الآدميين ، أما حقوق الله فمبنية على تسامح الكريم الغفور الرحيم . والحج يطهر النفس ويعيدها إلى الصفاء والإخلاص ، مما يؤدي إلى تجديد الحياة ، ورفع معنويات الإنسان وتقوية الأمل وحسن الظن بالله سبحانه .
وهو موسم عبادة تصفو فيه الأرواح وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام وهي ترف حول هذا البيت وتستروح الذكريات التي تحوم عليه وترف كالأطياف من قريب ومن بعيد :
طيف إبراهيم الخليل عليه السلام وهو يودع البيت وفلذة كبده إسماعيل وأمه على الجميع الصلاة والسلام . ويتوجه بقلبه الخافق الواجف إلى ربه : ( رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) [ إبراهيم : 37 ] .
وطيف هاجر وهي تستروح الماء لنفسها ولطفلها الرضيع في تلك الحرة المتلهبة حول البيت ، وهي تهرول بين الصفا والمروة ، وقد نهكها العطش ، وهدَّها الجهد وأضناها الإشفاق على الطفل ، ثم ترجع في الجولة السابعة ، وقد حطمها اليأس لتجد النبع يتدفق بين يدي الرضيع الوضئ . وإذا هي زمزم ، ينبوع الرحمة في صحراء اليأس والجدب .
وطيف إبراهيم عليه السلام وهو يرى الرؤيا ، فلا يتردد في التضحية بفلذة كبده ، ويمضي في الطاعة المؤمنة إلى ذلك الأفق البعيد : ( قَالَ يٰبُنَىَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ) ، فتجيبه الطاعة الراضية في إسماعيل عليه السلام : ( يا أَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ ) ، وإذا رحمة الله تتجلى في الفداء : ( وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَـٰذَا لَهُوٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) [ الصافات : 104 – 107 ] .
وطيف إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يرفعان القواعد من البيت في إنابة وخشوع : ( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ) [ البقرة : 127 – 128 ] .
وتظل هذه الأطياف وتلك الذكريات ترف وتتابع ، حتى يلوح طيف عبد المطلب وهو ينذر دم ابنه العاشر ، إن رزقه الله عشرة أبناء . وإذا هو عبد الله أبو المصطفى صلى الله عليه وسلم . وإذا عبد المطلب حريصاً على الوفاء بالنذر . . . ولولا عناية الله وفداؤه بذبح مائة ناقة بعد عشر لضحى عبد المطلب بابنه عبد الله . . . العناية التي تلت حماية الله لبيته العتيق من كيد أبرهة اللعين . . . وإذا قومه من حوله يعرضون عليه فكرة الفداء وإذا هو يدير القداح حول الكعبة ويضاعف الفداء ، والقدح يخرج في كل مرة على عبد الله حتى يبلغ الفداء مائة ناقة بعد عشر ، هي الدية المعروفة فيقبل منه الفداء ، فينحر مائة ناقة وينجو عبد الله . ينجو ليودع رحم آمنة أطهر نطفة وأكرم خلق الله على الله سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يموت . . فكأنما فداه الله من الذبح لهذا القصد الوحيد الكريم الكبير .
ثم تتواكب الأطياف والذكريات من سيدنا محمد رسول الله ابن الذبيحين عليه الصلاة والسلام وهو يدرج في طفولته وصباه فوق هذا الثرى ، حول هذا البيت وهو يرفع الحجر الأسود بيديه الكريمتين فيضعه موضعه ليطفئ الفتنة التي كادت تنشب بين القبائل ، وهو يصلي . . وهو يطوف . . وهو يخطب . . وهو يعتكف . . وهو يفتح النفوس والبقاع ، ويكسر الأصنام والأوثان ويعفو عمن أذاه ويؤلف بين القلوب . وإن خطواته عليه الصلاة والسلام لتنبض حيةً في الخاطر وتتمثل شاخصةً في الضمير يكاد الحاج هناك يلمحها ، وهو مستغرق في تلك الذكريات وخطوات الحشد من صحابته الكرام رضي الله عنهم وأطيافهم ترف وترف فوق هذا الثرى حول ذلك البيت تكاد تسمعها الآذان وتكاد تراها الأبصار .
وبعد هذا يودعون البيت بالطواف ويقصدون الحرم النبوي الشريف بالمدينة المنورة لزيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم المبعوث رحمةً مهداةً للعالمين وقبري صاحبيه الجليلين سيدنا أبي بكر الصديق وسيدنا عمر رضوان الله عليهما وعلى جميع الصحابة الكرام . . فيسلم الحاج عليهم ويدعو بما استطاع !! وليجتهد في زيارة المقدسات الأخرى ولكن مع مراعاة الآداب المطلوبة ظاهراً وباطناً . . يرجع الحجاج إلى أوطانهم بعهد جديد ويقين جديد بطهارة في النفوس وسعادة في القلوب . . طوبى لـهـم ثـم طـوبـى .
وقد حددت الآية القرآنية المحظورات في قوله تعالى في سورة البقرة : ( فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِى ٱلْحَجِّ ) [ 197 ] . وهذه المحظورات قد يستوجب فعلها فرض عقوبة على مرتكبها من صدقة أو إرهاق دم أو صيام أو غير ذلك يتم ضبطه بواسطة المؤمن نفسه لا بواسطة سلطة دينية أو دنيوية . وهكذا ينصب الإسلام من المؤمن رقيباً على نفسه يحاسبها ويضبط أهواءها ويقرر عقوبتها ، فالعبد في نفس الوقت متهم وقاض ومنفذ ، والله وحده هو المطلع عليه في ذلك كله ، ينظر تصرفاته ويسجل نزاهة عمله في موسم الذكر والتقرب ، وفي ذلك أعظم تربية لضميره ويتفق مع الآية السابقة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه الشيخان : ” من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ” .
فالإسلام يعتبر الحج وسيلةً لتحقيق الفوائد الروحية والأدبية والاجتماعية والاقتصادية وتنطق بذلك هذه الآية : ( وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ . لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ ) [ الحج : 27 – 28 ] . وقد فسر العلماء المنافع بأنها دينية ودنيوية معاً ، والدين والدنيا في نظر القرآن مترابطان ترابط الروح بالجسد . فإذا كان الدين يمد الروح بالإيمان الصحيح والآداب . فإن أمور الدنيا تمده بأسباب البقاء ودواعي الارتقاء .
فالحج موسم ومؤتمر . موسم تجارة وموسم عبادة . والحج مؤتمر اجتماع وتعارف وتعاون وتنسيق الخطط وتوحيد القوى وتبادل المنافع والسلع والمعارف والتجارب ، أصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحج سوقاً رائجةً ، حيث تجبى إلى البلد الحرام ثمرات كل شيئ ، من أطراف الأرض ، ثم أن لكل شعب من الشعوب الإسلامية صناعات ونبوغاً ، وأن لبلادهم منتوجات لا توجد عند سواهم ، وبواسطة هذا المؤتمر العام يمكن إبرام اتفاقات على تبادلها فيما بينهم . يتجمع كله في البلد الحرام في موسم واحد . فهو موسم تجارة ومعرض نتاج وسوق عالمية تقام في كل عام . وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة .
والحج مؤتمر عام لتوحيد غايات المسلمين وتوجيههم إلى مصادر الحياة الصحيحة بما يقتبسه بعض شعوبهم من ثقافات البعض الآخر . . . وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد الكامل المتكامل مرةً في كل عام في ظل الله بالقرب من بيت الله وفي ظلال الطاعات والذكريات في أنسب مكان وأنسب جو وأنسب زمان .
والحج بعد ذلك مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة : مؤتمر يجدون فيه أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل ( مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَـٰذَا ) ويجدون محورهم الذي يشدهم جميعاً إليه وهذه القبلة التي يتوجهون إليها جميعاً .
وهناك يجد الحجاج رايتهم التي يفيئون إليها ، راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلها فوارق الأجناس والألوان والأوطان ويجدون قوتهم التي قد ينسونها حيناً ، قوة التجمع والتوحد والترابط الذي يضم الملايين ، الملايين التي لا يقف لها أحد لو فاءت إلى رايتها الواحدة التي لا تتعدد ، راية العقيدة والتوحيد .
غير أن أعظم ما يتحقق في مناسبة هذه الفريضة العظيمة من فرائض الإسلام هو اجتماع هذا الحشد الضخم من سائر أنحاء الأرض المسلمة ، وهي فائدة تعود ببركتها وخيرها على جماعة المسلمين إلى جانب ما تحقق لكل فرد منهم .
* كبير علماء الجزائر .