حاجتنا إلى الثقة بالله والشعور بالمسئولية
مايو 4, 2024أضمن طريق إلى الفوز المبين والانتصار على الباطل
يوليو 3, 2024الافتتاحية : بسم الله الرحمن الرحيم
لبيك اللهم لبيك
بدأت قوافل الحجيج تغدو إلى الديار المقدسة مع طلوع الأشهر المعلومات ، وهي أشهر الحج والزيارة بوجه أخص ، وتتحرك مشاعر المسلمين وعواطفهم بتوديع القوافل الروحانية ، وتمتلئ الأجواء إيماناً ويقيناً ، وحباً وهياماً ، ووفاءً وفداءً ، كل يفدي مهجته وروحه لله تعالى ، ويضحي بأغلى ما لديه من مال ومتاع في هذا السبيل ، ويعتبر ذلك سعادةً له وكرامةً ، ويعده حسنةً من حسنات أعماله ، هذه القوافل تبدأ رحلاتها الحجازية من كل قارة من قاراتها ، ودولها وبلدانها ، ولا فرق فيها بين شرقي وغربي وشمالي وجنوبي ، كل يلبس لباساً واحداً ، ويتزيأ بزي واحد ، وقد خلع جميع أقمشته الثمينة ، وحُلله الفاخرة ، كأنه في لباس الرحلة الأخروية : رداءان أبيضان ، لا ثالث لهما ، لا قلنسوة ، ولا شماغة ، ولا طاقية ، ولا عباءة ، وكل ذلك لمجرد ابتغاء وجه الله ، وطلب مرضاته ، واستجابة نداء إبراهيم عليه السلام : ( وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ . لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ ) [ الحج : 27 – 28 ] .
إن الرحلة إلى الأرض المقدسة رحلة مباركة ، فثمرتها ليست مقصورةً على فائدة أو فائدتين ، بل تتضمن فوائد ومنافع كثيرةً ، يلمس زوارها بركات هذه الرحلة ويشاهدونها بأم أعينهم ، ويرون أن البركات السماوية تتنزل عليهم من رب العزة والجلال ، وكيف لا يلمسونها ، ولا يشعرون بروحانيتها ، وهي أفضل بقاع الأرض ، وهي سُرة العالم ، ومن هذه الأرض دُحيت الأرض وبُسطت ، حتى تكونت هذه القارات كلها ، وقد وضع الله تعالى فيها أول بيت في العالم ، وهو الكعبة المقدسة ، التي ثبت عنها أن الملائكة هم الذين بنوه أول مرة ، ثم بناها سيدنا آدم عليه السلام ، وبعد مدة رفع قواعدها سيدنا إبراهيم عليه السلام مع ابنه سيدنا إسماعيل عليه السلام ، وقد رفع الله مكانة هذا الموضع ، بحيث إن أجور صلاة هذه الأرض تعادل ثواب مائة ألف صلاة ، كأن هذه الأرض ليست من الأراضي البرية العامة ، بل هي أراض سماوية خاصة ، وهذه الكعبة حذاء البيت المعمور الذي يطوفه سبعون ألفاً من الملائكة ، وهو في السماء السابعة ، ومن هنا تنزل الرحمات والبركات والسعادات مباشرةً إلى الكعبة المقدسة ، فلا يمكن أن تقاس نسبة هذه السعادات والخيرات من الله تعالى بأي مقياس مادي ، وقد شهد الله بهذا الواقع في القرآن الكريم ، فقال : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىُّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ ) [ آل عمران : 96 – 97 ] .
الرحلة في الإسلام لها تاريخ مشرق ، ولها أهمية علمية وتاريخية ، وقد جرت الرحلات منذ قديم الزمان للتجارة وكسب المنافع المادية ، والسياحة وطلب العلم والمعرفة ، أضف إلى ذلك الرحلات السياسية التي يقوم بها أهل الحكومات والسلطات لتنمية علاقاتهم ، وتطوير روابطهم ، فيكون ذلك مبعث خير كثير لهم ، وكانت عند العرب رحلات الشتاء والصيف ، فكانوا يسافرون أحياناً إلى الشام ، وأخرى إلى اليمن ، وذلك ما ذكره القرآن الكريم بقوله : ( لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ . إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ ) ، كذلك دعم القرآن الكريم هذه الفكرة بقول الله تعالى ، فقال : ( قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ ) [ الأنعام : 11 ] ، وقال : ( أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) [ الروم : 9 ] ، وقد سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ريعان شبابه إلى الشام للتجارة ، وسافر الصحابة رضي الله عنهم إلى مناطق شاسعة ، فبلغوا رسالة الإسلام إلى أنحاء بعيدة عن مركزهم الروحي ، وإن تاريخ الرحلات لا يخلو من الرحالين المشاهير الذين قاموا برحلاتهم في شتى أزمانهم ، فهناك رحلة سليمان السيرافي ، ورحلة اليعقوبي ، ورحلة ابن فضلان ، ورحلة المسعودي ، ورحلة ابن حوقل ، ورحلة المقدسي ، ورحلة البيروني ، ورحلة الإدريسي ، ورحلة ابن جبير الأندلسي ، ورحلة أسامة بن منقذ ، ورحلة ياقوت الحموي ، ورحلة ابن بطوطة التي استغرقت رحلته ثمانيةً وعشرين عاماً ، فبدأ ابن بطوطة هذه الرحلة من طنجة ، ووصل إلى بلاد الصين ، وحج خلالها أربع مرات .
لسنا في سرد تاريخ الرحلة ، لكن نذكر بهذه المناسبة الرحلات الحجازية ، التي يشعل مجرد ذكرها مجامر الإيمان واليقين ، ويفتق القرائح والطبائع ، ويهز القلوب والنفوس ، ويثير العواطف والمشاعر ، وكلما قرأها القارئ أو الزائر حركت روحه وضميره ، وجعل يتلذذ ويتأثر بالعواطف الجياشة التي تنشأ في النفوس بزيارة المشاعر المقدسة ، وقد سجل كثير من العلماء تفاصيل رحلاتهم الحجازية ، وهي مكتوبة بماء من الذهب في صفحات التاريخ الإسلامي ، نذكر على سبيل المثال العلماء والمثقفين في العالم الإسلامي ، الذين تشرفوا بزيارة الأمكنة المقدسة ، أمثال الإمام ولي الله الدهلوي ، والنواب السيد صديق حسن خان القنوجي ، والقاضي محمد سليمان المنصورفوري ، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي والأمير شكيب أرسلان ، والأستاذ عبد الماجد الدريابادي والأستاذ علي الطنطاوي ، والشيخ مسعود الندوي والشيخ أبي الحسن الحسني الندوي وغيرهم ، فهؤلاء هم أعلام الأمة الإسلامية ، وفطاحل التاريخ الإسلامي الذين تعتبر كتاباتهم ودراساتهم شهادةً موثوقاً بها لدى الخاصة والعامة .
إن الدكتور محمد إقبال لم يسعد بزيارة المشاعر المقدسة ، لجسمه الضعيف ، لكنه سافر إلى البقاع المباركة بأبياته الشعرية ، وعواطفه النبيلة ، التي كان يكنها في صدره ، فكلما تغنى بهذه الأبيات انهمرت دموعه ، وفاضت عينه ، وحلق في أجواء مكة والمدينة ، يقول شيخنا أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله : ” كان شعره في حب النبي صلى الله عليه وسلم من أبلغ أشعاره ، وأقواها ، وكان حشاشة نفسه ، وعصارة عمله وتجاربه ، وكان تصويراً لعصره ، وتقريراً عن أمته ، وتعبيراً عن عواطفه ” ، وقد زار شيخنا السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله الأرض المباركة لأول مرة عام 1947م ، وكانت هذه الزيارة زيارةً سعيدةً موفقةً من الله تعالى ، واستنار من هذه الأجواء الروحانية ، والبيئات الإيمانية ، فزادت إيماناً ويقيناً وحباً وشوقاً إليها ، ثم إنه سجَّل تفاصيل رحلته هذه على طلب من بعض زملائه العلماء الأفاضل ، وسماها باسم ” من منزلي إلى بيت الله الحرام ” ، وأبدى فيه حبه وهيامه ، وحنينه وتجاربه التي مر بها خلال هذه الرحلة المباركة ، وهو مطبوع ، يحمله زوار بيت الله الحرام دليلاً على رحلتهم المباركة ، ثم وفقه الله لكتابة مقالات وكتابات حول السيرة النبوية بمناسبات متنوعة ، سماها : الطريق إلى المدينة ، وهذا الكتاب هو نثر مرسل ، ومثال رائع للوفاء والفداء ، وقد قدم له الأستاذ علي الطنطاوي ، فاعترف بمعنوية هذه المقالات الحجازية قائلاً : ” كدت أفقد ثقتي بنفسي ، ولكن لما قرأت كتابك يا أخي أبا الحسن ! الطريق إلى المدينة أحسست بالشوق يعود فيعتلج بنفسي ، فعلمت أن قلبي ما خلا من جوهر الحب ، ولكن هموم العيش وطول الألفة قد غطيا جوهره بالغبار ، فأزاح كتابك عن جوهره الغبار ، فيا أبا الحسن ! لك الشكر على أن رددت إلي ثقتي بنفسي ، وثقتي بأدب لغتي ” .
وقد وفقني الله لزيارة بيت الله الحرام أول مرة عام 1958م ، وكنت في بغداد كطالب عند أستاذنا الشيخ محمد تقي الدين الهلالي المراكشي رحمه الله ، وأقمت عنده أحد عشر شهراً ، وخلال هذه الفترة جاء موسم الحج ، فاشتاقت نفسي إلى حج بيت الله ، فغادرت بغداد على جناح الشوق إلى بيت الله الحرام ، وتشرفت بالحج والزيارة ، وعندي ذكريات حلوة عن هذه الرحلة ، لكن إذا ذكرتها يطول بي الوصف ، ثم وفقني الله مرات كثيرةً لزيارة الكعبة المقدسة ، فقلبي مفعم بالشكر الجزيل على نعمائه الظاهرة والباطنة ، وأدعوه أن يوفقني لمزيد من الحج والعمرة في الأيام القادمة .
وقد لمست خلال جميع الزيارات والرحلات أن الزائر الذي يشاهد هذا العدد الهائل من الحجاج الوافدين في مكة المكرمة والمناطق المجاورة والقريبة من الحرم المكي الشريف في الأيام المعلومات تأخذه الدهشة والهيبة ، ويفكر للحظة فيما يحتاج إليه الحجيج من تنظيمات دقيقة وموسعة على جميع المستويات ، وخاصةً إذا كان معظمهم ممن يحج لأول مرة ، ويفتقر إلى توعية كاملة في شئون وأعمال المناسك وإعطاء معلومات عن المحافظة على نظام المرور والسكن ومتابعة الصلوات في الحرم المكي ، وما إلى ذلك من التزامات إذا لم يتم إعلامهم بها ، سبب ذلك خللا في النظام ، وأدى إلى فوضى وقلق واضطراب ، ذاك أن القضية ليست قضية مهرجان عالمي أو مؤتمر عالمي ، إنما هي قضية ركن من أركان الإسلام ، وموضوع عبادة مهمة فرضها الله على عباده المؤمنين المستطيعين ، فلا بد من الخضوع أمام الشريعة في جميع التنظيمات والإعدادات والتسهيلات التي تتولاها المملكة العربية السعودية ضمن خدمة الحجاج وتوفير الوسائل لراحتهم وأمنهم وسلامة مسيرتهم ، ثم عودتهم إلى حيث أتوا منه : من حج فلم يرفث ، ولم يفسق ، رجع كيوم ولدته أمه ( صحيح البخاري ) .
وصلى الله تعالى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
سعيد الأعظمي الندوي
6/11/1445هـ
15/5/2024م