صانع التاريخ ، وليس من صنع التاريخ
ديسمبر 23, 2024الرزق في وحي الله وما يجب فيه من الحقوق ( الحلقة الأولى )
يناير 28, 2025التوجيه الإسلامي :
لا وزن لنا إلا بالاعتزاز بالإسلام*
الإمام الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) [ آل عمران : 139 ] .
إخواني ! نزلت هذه الآية والإسلام في مرحلة الطفولة ، لم تكن له دولة ، وهو منحصر في الجزيرة العربية ، ومنحصر في العرب ، والعرب يعيشون في خصاصة من العيش ، وفي ضيق من الدنيا ، وغالب طعامهم التمر ولحوم الإبل والشعير ، وغالب لباسهم الثوب الخشن الكرابيس ، وبيوتهم من مدر أو وبر ، وكانوا كالغنم في ليلة مطيرة شاتية ، ولا تصوير أبلغ وأدق من قوله تعالى : ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ) [ الأنفال : 26 ] .
وبالعكس من ذلك كان الرومان والفرس سادة العالم ، وقادة المدنية والبشرية قد توزعوا العالم شرقه وغربه ، فكان الشرق تحت حكم الفرس ، وكان الغرب تحت حكم الرومان ، وقد لانت لهم الحياة ، واتسعت لهم الدنيا ، ودرت لهم الأرزاق ، وسخت لهم الطبيعة ، ودانت لهم البلاد ، والأمم ، وطنَّت حصاتهم ، وخفقت راياتهم في الشرق والغرب .
في هذا الجو القاتم ، في هذا الظلام الحالك ؛ الذي لا يبعث أملاً ، تحدى القرآن هاتين القوتين ، وأثار الثقة والاعتزاز في نفوس العرب المسلمين ، فقال عز من قائل : ( وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) [ آل عمران : 139 ] .
تحدي القرآن للطاقات المادية :
قد تحدى القرآن قريشاً ، وتحدى الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية ، فأنزل سورة يوسف لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم الرسول المرسل والقائد لهذه الطليعة المؤمنة ، فقال : ( لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ وَآيَتٌ لِلسَّابِلِينَ ) [ يوسف : 7 ] وختم هذه السورة بقوله : ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كَذِبُوا جَاءَ هُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَهُ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) [ يوسف : 110 – 111 ] ودوَّى الصوت المجلجل في الآفاق في سورة القصص ، وقد افتتح الله سبحانه وتعالى هذه السورة – في هذا الجو القاتم ، وفي هذا اليأس القاتل – فقال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : ( طسم . تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ . نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ . إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُدَبِّحُ أَبْنَاءَ هُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَتُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) [ القصص : 1 – 6 ] .
هل يُصدق أن قائلاً يستطيع أن يقول ، أو أن متفائلاً ، أو متكهناً – إذا صح هذا التعبير – يستطيع أن يتكهن بمستقبل هذه الفئة المؤمنة الضعيفة المستضعفة ، المظلومة المضطهدة ، القليلة العدد ، الفاقدة للعدد ، هل يستطيع أحد في الدُّنيا مهما أوتي من ألمعية ، ومهما أوتي من بعد نظر ، ومهما أوتي من فراسة ، ومهما أوتي من جرأة أدبية ، ومهما أوتي من صلاحية المغامرة ، والمجازفة بالأقدار ، أن يتكهن لهذه الفئة المؤمنة ، لهذه الحفنة البشرية الضعيفة المستضعفة ، ويقول لها : ( وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) [ آل عمران : ١٣٩ ] .
لقد ملأ القرآن الكريم هؤلاء العرب الذين كانوا أميين ، كانوا أميين بصفة عامة ، وكانوا في مؤخر الركب ، ركب المدنية ، ولكن القرآن شحن بطاريتهم شحنةً جديدةً ، شحنة إيمان ، شحنة اعتزاز ، شحنة ثقة ، شحنة تسام ، شحنة تعرف بالأشياء وحقائق الأشياء ، فخرجوا إلى هؤلاء ، وسخروا العالم ، لا ليملكوه ، ولا ليحكموه ، ولا لمآربهم كما سخرته هذه الأمم ، ولكن ليحنوا الجباه ، والرؤوس أمام الله تعالى وحده لا شريك له ، وليدخلوهم في حظيرة الإسلام ، في حظيرة العدل السماوي ، في حظيرة عقيدة التوحيد ، في حظيرة الرحمة على الإنسانية .
نحن أحق بهذا الاعتزاز :
ونحن هنا في رحاب الأمم المتحدة ، ونحن نمثل أربعين (٤٠) دولة ، نحن أحق بهذا الاعتزاز وبهذه الثقة ، وأحق بأن يقال لنا في هذا الصوت السماوي الخالد مخاطباً لنا : ( وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) [ آل عمران : 139 ] نحن أحق بذلك ، إنَّ العرب لم يكن لهم دولة حتى في جزيرة العرب لما نزلت هذه الآية وقد مضى على ظهور الإسلام أكثر من عقد واحد ، والإسلام لا يزال طفلاً يدب ، ويسعى على الأرض ولكن الله سبحانه وتعالى رآهم جديرين بأن يخاطبوا بهذا القول ، ألسنا جديرين أيها الإخوان ، ونحن نمثل أربعين دولة ، ولنا رايات تخفق هنا ، ونحن وإن كنا لا نملك هذا الحول والطول ، ولسنا في مستوى هذه الدول بتخلفنا عن ركب الحضارة ، وبتقصيرنا في جنب العلم والمدنية ، وبتكاسلنا وتوانينا وانقسامنا على أنفسنا ، وباستخفافنا بالتعاليم الإسلامية ، وبعدم قدرنا لنعمة الإسلام ، ولكن على كل حال ، نحن الآن أعز من العرب الأولين الذين لم تكن لهم حكومة ، ولا دولة واحدة ، ألسنا أحق بذلك ؟
ولكن الله تعالى في نفس الآية ، يقول : ( وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) [ آل عمران : ١٣٩ ] هذا الإيمان هو قيمة المؤمن ، هذا الإيمان هو شحنة هذه البطارية ، فإذا لم تكن هناك شحنة فلا قيمة لها ، إن هذا الإيمان هو السنجة الثقيلة التي إذا وضعت في كفة ميزان ؛ رجحت هذه الكفة ، هذه السنجة التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بقوله : ” اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد ” إنه عرف – وهو الذي رزقه الله العقل السليم ، ورزقه صلاحية الاستعراض للواقع الصحيح – أنه لو كان الحكم بالقوة ، ولو كان الحكم بالعدد لما كان للإسلام وللمسلمين مستقبل ، ولما قام له كيان على الأرض ، إنَّهم ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً وإزاءهم ألف رجل مدجج بالسلاح ، فكيف تنتصر هذه القلة القليلة على الكثرة الكاثرة ، هنالك لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله تبارك وتعالى مناشداً ومبتهلاً ، يناشده بقوله : ” اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد ” .
هذه قيمتنا أيها المسلمون ! هذه قيمة هذه الدول إذا كانت هذه الدول وهذه الشعوب الإسلامية الكثيرة التي يزخر بها العالم اليوم ، والتي لها كلمة مسموعة حتى في هيئة الأمم ، والتي نتشرف جميعاً بتمثيلها هنا ، هذه الشعوب المسلمة إذا كانت تحمل هذا الإيمان العميق ، هذا الإيمان المتقد المتأجج الذي يملك على الإنسان مشاعره وأحاسيسه ، إذاً فإنَّ المؤمن عزيز ، المؤمن له مكانة فالشرط أن نكون مؤمنين .
وإذا تجردنا عن الإيمان كما تجردت تلك الشعوب والدول عن الإيمان الذي دعيت إليه ، فآمنت به في زمن من الأزمان ، فأصبحت جوفاء ، وأصبحت أجساماً نخرةً ، وخشباً مسندةً ، فلنحذر من أن تكون خشباً مسندةً ، ولنحذر أن تكون لنا أسماء مشرقة وأسماء كثيرة العدد في قائمة الأمم ، ولكن في ميزان الله تبارك وتعالى الذي هو الميزان الحقيقي في الدنيا والآخرة لا يكون لنا وزن ، فليس لنا وزن في هذا الميزان إلا باتصافنا بالإيمان ، وإلا بحملنا لشعلة الإيمان ، وإلا بحملنا لرسالة الإسلام ، وإلا باعتزازنا بالإسلام .
نسأل الله تبارك وتعالى أن نرجع إلى الإسلام كما كان السلف الصالح ، وأن نعبد الله سبحانه وتعالى ، ولا نخشى غيره ، وأن نكون أوفياء لدينه ومعتزين برسالته ، وأن تقترن حياتنا برسالة الإسلام ، وباسم الإسلام ، وباسم الإيمان . نسأل الله عز وجل أن يمن علينا بذلك ، إنه على كل شيئ قدير .
* كلمة ألقاها الإمام الندوي بمناسبة زيارته لأمريكا الشمالية على دعوة من مكتب رابطة العالم الإسلامي في الأمم المتحدة بنيويارك ، عام 1977م .