كيف يستعيد المسلمون مكانتهم السالفة ؟

أضمن طريق إلى الفوز المبين والانتصار على الباطل
يوليو 3, 2024
أضمن طريق إلى الفوز المبين والانتصار على الباطل
يوليو 3, 2024

الافتتاحية : بسم الله الرحمن الرحيم
كيف يستعيد المسلمون مكانتهم السالفة ؟
هناك كثير من النبوءات التي صدرت من لسان النبوة ، وهي أوضح دليل على أن النبوة خُتمت بخاتم الأنبياء محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فهو الذي أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق ، ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون ، وذلك هو دين الإسلام الذي اختاره الله تعالى منهجاً للبشرية جمعاء ، وذلك هو الدين القيم الذي يشمل طبيعة الإنسان من جميع نواحيها ، ويحمل نظاماً متقناً دقيقاً ، ورسالةً شاملةً للحياة والإنسان والكون ، خالدةً إلى يوم الدين ، فمن ابتغى غير الإسلام ديناً خسر وذلَّ ، وتاه في متاهات من الخير والضلال ، وهو من الخاسرين .
ومن بين هذه النبوءات ما رواه أبو داود عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها ، فقال قائل : أو من قلة نحن يومئذ ! قال : بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ، فقال قائل : يا رسول الله ! وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت ( كتاب الملاحم رقم : 297 ) .
إن قليلاً من الاستعراض لمعاني هذه النبوة الكريمة يكشف لنا الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم ، وهو واقع تداعي الأمم المادية بكاملها ، على الأمة ، والهجوم عليها من كل جانب لتجريدها عن دينها ، وإبعادها عن منصبها ، وإضعافها ، بل فصلها عن تميزاتها وخصائصها التي منحتها زمام القيادة العالمية ، وجعلتها في مقدمة الصفوف دائماً ، والتاريخ الإسلامي يزخر بأمثلتها ، والعالم كله يعرف حكايات هذه القيادة التي تولت توجيه المجتمعات الإنسانية إلى الوجهة الصحيحة التي كانت سبباً للأمن والسلام ، والأخوة والوحدة التي تنظم البشر كلهم بنظام من الحب والثقة والتعاون والخير .
وقد عاش المسلمون في تاريخهم على الخصائص الإيمانية ، من غير تطلع إلى زخارف الدنيا ، وتكالب على الشهوات ، فمنحوا العالم كله أسوةً كاملةً في العلوم والحضارات وأساليب الحياة وطرق المعاش ، واستطاعوا أن يقودوا الناس في الدين والدنيا ، ويعلِّموهم طريق الجمع بينهما بالاتزان الكامل والتوفيق بين مطالب الروح والجسد بكل دقة وعدل ( رَبَّنَآ آتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ) [ البقرة : 201 ] ، فما قصة محمد الفاتح ليست ببعيدة ، فقد دخل القسطنطينية فاتحاً ، ورافعاً لواء القيادة والعز والشرف ، حتى هزَّ أوربا بكاملها ، وجعل أهلها رعيةً من رعاياه ، فكانت ترتعد خوفاً من هذا الفاتح الإسلامي الذي حمل راية القيادة ، وكانت تقيم له كل وزن وقيمة ، وتخضع لحكمه في كل حال .
فالمسلمون أمة العطاء والسخاء ، وأمة المنح والجود ، فلم يبخلوا في أي فترة من تاريخهم بما يجودون به من إيمان وعلم وعقيدة وشريعة ، وأخلاق وفضيلة وإيثار وتضحية ، وسلوك وسيرة ، إنهم لم يضنوا بما أكرمهم الله به من دين خالد وتعاليم خلقية عالية بإعطاء النصح والخير لكل من هو في حاجة إلى ذلك ، الأمر الذي أنتج الصلاح والسعادة والاتزان في الحياة ، وغرس جذور الطاعة والإحسان والبر في النفوس ، وتكفل ببناء مجتمع رشيد عادل ، وبالتالي بتأسيس حضارة إسلامية يزدهر فيها العدل والإيمان والطاعة واليقين .
إن أمة الإسلام لم تُخلق للتبعية والتقليد ، ولم تُخلق لدعم فلسفة أو عقيدة وفكر ، إنها ما أخرجت لاقتناء ما يتوافر من فُتات الموائد ومخلَّفات العقول والأفكار ، وما بُعثت للأخذ من بقايا الحضارات ورواسب الانتصارات المادية ، إنما خُلقت أمة الإسلام للعطاء من مائدة الإسلام الغنية ، والإمداد بالفكر القائد والسيرة المثالية ، والجود بالأخلاق العالية ، والفضائل الغالية ، والسخاء بالعقيدة الخالدة ، والشريعة التامة الباقية ، لكن أمة العطاء جفَّت فيها الآن منابع العطاء والجود ، لأن صلتها ضعفت بمصدر القوة والعطاء ، فأصبحت في حاجة إلى الأخذ والطلب من غيرها ، ولا شك فإن من استغنى عن ربه ، وانصرف عن طاعته ، سواء عن شعور أو من غير شعور ، فإنه كفر بنعمة الله ، وتخلى عن منصبه ، وعاد إلى شرعة الجاهلية والشقاء ، ونال عقابه من الذل والصغار ، وعاش في المخاوف والآلام ، وصار إلى الأخذ أقرب منه إلى العطاء ، لقد قال الله تعالى : ( وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ) [ النحل : 112 ] .
فالمسلمون في أمس حاجة إلى الاعتماد على أنفسهم ، والاكتفاء الذاتي في حاجاتهم ومطالبهم ومرافقهم وضروراتهم ، لا في الصناعة وحدها ، ولا في التربية والتعليم وحدها ، ولا في التقنية والعلم وحدها ، ولا في إعداد المعدات الحربية والأدوات والرياش ، ولا في البحث عن أسرار الكون والإنسان والحياة فحسب ، بل في كل صغير وكبير ، وفي كل جانب وناحية ، لقد أغنى الله أرضهم وترابهم بأنواع من الثروات المعدنية ، والمواد القيمة ، فهم أغنياء بالنسبة إلى دول الأرض الأخرى ، وعندهم المواد الأساسية التي يعتمدون عليها في كل ما يريدون تحقيقه من حاجاتهم ومطالبهم ، في المجالين المادي والمعنوي ، فيجب أن يستخدموا هذه الطاقة بأيديهم ، ويسيروا أولاً على الخطط التالية :
(1) فتح مجال واسع للتصنيع على أوسع نطاق ، والاكتفاء بما تصدره مصانعهم من الأدوات والأعراض ، من غير أن يحتاجوا في أي شيئ إلى مصنوعات في الخارج .
(2) الاعتماد على دراسة العلوم الطبيعية ، والعزم الصميم على التقدم التكنالوجي ، ولو بمساعدة الخبراء الفنيين الذين يستقدمونهم من الدول المتقدمة الراقية .
(3) الاكتفاء الكامل في مجال التعليم والتربية من كل نوع مما يعود بنفع في حق الأمة وأجيالها القادة ، ولا بأس في الاستعانة بأناس أكفاء من خارج البلاد ، ولا سيما فيما يتصل بالتعليم العصري ، ولكن في اتزان واعتدال تامّين .
(4) تأسيس المصانع لتصنيع الأسلحة من كل نوع ، من غير أن يبقى هناك أي افتقار إلى استيرادها من الدول الكبرى المعادية ، التي تصدِّر إليهم كل ما فقد قيمته من الأسلحة التي لا شأن لها في عصر السباق وزمن السرعة ، وهي لا تستهدف من ذلك إلا استهلاك البضاعة وتفادي المصانع من خسارة ، والأرباح .
إنها مشاريع خطيرة وضخمة ، قد تبدو مستحيلة الإنجاز وعسيرة التحقيق في أول وهلة ، ولكنها ليست كذلك ، إذ ليس من المعقول أبداً أن تتمكن كل أمة قوية من تحقيق أعمال ضخمة ومشاريع عملاقة في كل مجال ، ولا يتمكن المسلمون ، وهم أقوى أمة في عقائدهم وإيمانهم ، وأغنى أمة في ثرواتهم وذخائرهم ، وأكبر أمة في شغلهم أكبر جزء للكرة الأرضية ، وعندهم قوة الإيمان بالله ، وطاقة العقيدة الخالدة ، وعندهم تاريخ زاهر ، وماض مشرق ، وأسوة حسنة في رسولهم صلى الله عليه وسلم في آبائهم وسلفهم الصالح الذين مضوا .
بإثبات كفاءاتهم في كل مجال من مجالات الحياة يستطيع المسلمون أن يبرزوا كأقوى أمة على وجه الأرض ، ويقيموا ثقل وزنهم في الميزان الدولي ، ويتولوا قيادة العالم بجميع من فيه من الأمم الصغيرة والكبيرة والشعوب الراقية والمتخلفة ، وبذلك يكونون قد حققوا الحاجة الكبرى ، حاجة الاكتفاء الذاتي والاستغناء عن الدول والشعوب الأخرى ، وذلك هو مفتاح النجاح في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى : وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ .
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
سعيد الأعظمي الندوي
10/1/1446هـ
17/7/2024م