كتاب ” معلم الإنشاء ( الجزء الثالث ) ” : دراسة عامة

قراءة في كتاب : ” سراجاً منيراً ” ( سيرة خاتم النبيين )
نوفمبر 19, 2023
الأدب العربي بين عرض ونقد : دراسة وتحليل
نوفمبر 19, 2023
قراءة في كتاب : ” سراجاً منيراً ” ( سيرة خاتم النبيين )
نوفمبر 19, 2023
الأدب العربي بين عرض ونقد : دراسة وتحليل
نوفمبر 19, 2023

كتاب ” معلم الإنشاء ( الجزء الثالث ) ” : دراسة عامة

الأستاذ رحمت الله الندوي *

تعريف موجز :

كان الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله تعالى من شخصيات فذة لهذا القرن ، ودرةً يتيمةً للزمن ، ومن سلالة سيدنا الحسن ، تنتمي أسرته الحسنية إلى سيدنا الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما ، كان من أفذاذ ونبغاء الرجال ، وعباقرة الدهر ، لا يجود بمثله الزمن إلا قليلاً .

نشأ وترعرع في أحضان العلم والأدب ، وتربى في ظل خاله الكريم الدكتور السيد عبد العلي الحسني وأخيه الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي ، وللشيخ أبي الحسن عناية كبيرة وإسهامات موفورة ومشاركة كبيرة في تعليمه وتثقيفه وشحذ ذهنه وصقل فكره ، وإسعاده بالعلم والتجارب خلال حَلّه وترحاله وأثناء إقامته ورحلاته ، لأن الشيخ محمد الرابع الحسني لازم خاله المربي الشفوق ملازمة الظل لصاحبه ، فتعلم منه الكثير من العلوم والفنون ، برع فيها ، وأصبح أستاذاً ومعلماً ، أديباً ومؤلفاً ، وعاش حياةً حافلةً بجلائل الأعمال ، وقضى عمراً يناهز خمسة وتسعين عاماً ، كله مملوء بالمكارم والمآثر والأعمال الصالحة والأمور المهمة نحو خدمة العلم والدين والملة والوطن ، ونالته بشارة النبي صلى الله عليه وسلم ” خير الناس من ينفع الناس ” ، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم : ” خير الناس من طال عمره وحسن  عمله ” .

كان موضوع اختصاصه ” الأدب العربي ” لذلك عُيّن أستاذاً لهذه المادة بعد التخرج في دار العلوم لندوة العلماء ، ثم ارتقى وتدرج حتى صار عميداً لكلية اللغة العربية وآدابها ، وألّف في الأدب عدة كتب مثلاً :      ” منثورات من أدب العرب ” ، ” الأدب العربي بين عرض ونقد ” ، ” تاريخ الأدب العربي ( العصر الإسلامي ) ” وغيرها ، كان الراحل الكريم له ملكة راسخة وقدرة تامة ومهارة كاملة في التدريس والتأليف في كلتا اللغتين : الأردية والعربية ، ولأجل ذلك ترك خلفه تراثاً علمياً وتأليفياً كما خلّد آثاراً باقيةً وراءه ، وهذه الباقيات والآثار الخالدة تخلّده ، ويُعَطّر ذكره القرون ، عاش الفقيد ، فقيد الدعوة الإسلامية ، ورائد الأدب ، وعَلَم الفن . معظم عمره بل جُلّ حياته في الدرس والتدرس والتعليم والتربية للجيل القديم والحديث حتى وافاه الأجل المحتوم ، وجاءه اليقين ، ومدة تعليمه وتدريسه أكثر من نصف قرن ، فطوبى له ! ” طاب حيّاً وطاب  ميتاً ” انتقل إلى جوار ربه الكريم في شهر رمضان المبارك ، في العشر الأخير عام 1444هـ .

من سعادة حظي أني قرأت عليه كتابه ” الأدب العربي بين عرض ونقد ” و ” المعلقات السبع ” فوجدته معلماً ناجحاً وأستاذاً ماهراً ، يتميز بأسلوبه الخاص ، ويملك على تسهيل المواد وترسيخها في الأذهان ، وله قدرة تامة على الإفهام والتفهيم ، والبيان والإيضاح ، والشرح للكلمات الصعبة والألفاظ العويصة ، يجعل الدرس سهلاً ميسوراً ممتعاً ، كل من قرأ عليه وتيسر له القراءة يثنى عليه بكلمات رفيعة وألفاظ ضخمة ، كان يقول : أنا مدرِّس ومعلم في الحقيقة ، قضيت حياتي في التعلم والتعليم ، والمسئولية عن ندوة العلماء ألقيت على كواهلي وعواتقي ، أحاول الجمع بين التدريس وأداء المسئولية .

أما الأدب العربي فقد دَرَس ودَرّس ، وكتب وألّف ، وهذّب ، ومما كتب حول الأدب ، منه كتابه ” معلم الإنشاء ، الجزء الثالث ” ، وقد سبقه تأليف الجزئين الأول والثاني من الأستاذ عبد الماجد الندوي رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً .

دراسة عامة للكتاب :

وهذا الجزء الثالث يحتوي على 206/ صفحة ، وفيه مقدمة للشيخ الأديب ( أستاذ المؤلف ) الشيخ محمد ناظم الندوي رحمه الله تعالى شيخ الجامعة العباسية ، بهاول فور ، باكستان الغربية ، وديباجة من المؤلف ، وعام تأليفه 1374هـ المصادف 1955م ، استفاد المؤلف خلال تأليفه من هذه الكتب : ضوء الصبح المسفر ، الإنشاء العصري ، معلم الإنشاء ، الإنشاء الحديث ، الأسلوب الحكيم ، القراءة الراشدة ، والقراءة الرشيدة …. وغيرها .

قبل بداية الباب الأول كلمات توجيهية في عدة سطور للمعلم ، طالب فيها المؤلف من الأستاذ بتأكيد أن يدرّس الدرس والمثال ويقرأ على الطلاب بنفسه قبل التمرين يطالع الطالب بنفسه تحت إشراف المعلم ، لأن التمرينات والأمثلة كلها تابعة للكتاب .

قسم المؤلف كتابه بين خمسة أبواب ، وثلاثة وعشرين درساً ، وعشرين مثالاً ، ونماذج وتمرينات عديدة .

ففي الباب الأول : التفصيل والتجزية ، التجزية واعتدال الأجزاء ، تعيين المواضيع ، وتفصيل المواضيع .

وفي الباب الثاني : مقالات على إحدى المخترعات الصناعية          ( السيارة ) .

وعلى أحد الحيوانات ( الجمل ) ، على عامل من خدمة الإنسان في حياته الاجتماعية ( ساعي البريد ) ، كذلك فيه بيان حادث أو وقعة       ( سقوط من السطح ) وعلى احتفال أو نزهة أو برنامج فكه ، ( يوم  مطير ) ، وقصص للتذكير ( في غمار المياه ) ، وعلى إحدى الاكتشافات ( الكهرباء ) وعلى أثر تاريخي أو محل جغرافي معروف ( التاج محل ) ، على خلق إنساني نبيل ( الصدق ينجي والكذب يهلك ) ، أصول كتابة الرسائل والتمرين عليها ، أصول الترجمة ومثالها ، فوائد المدارس ، وصف الأمة العربية ، البرتقال ، العقل وفوائده .

والباب الثالث : يختص بالهداية والتوجيه نحو الترجمة والنقل من اللغة الأردية إلى اللغة العربية وعكسها .

والباب الرابع : يتحدث عن أقسام النثر ، وفيه نماذج من المقالات ، مقالة على شخصية عظيمة من شخصيات التاريخ ( عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ) ومقالة على هيئة اجتماعية : أنظمة ( ندوة العلماء ودار علومها ) ، مقالة على بيان أمر أو إثبات فكرة ( لماذا أتعلم اللغة     العربية ؟ ) ، مقالة على الخاطرة ( هكذا يفهمون الإسلام في الغرب ) والدرس الثالث والعشرون لهذا الباب يشتمل على المذكرات أو اليوميات ، وفيه نموذج ( أيام في القطر المصري ) .

أما الباب الخامس : وهو آخر باب من أبواب الكتاب ، فهو الذيل في تعريف الخطأ والصواب من الجُمل الأردية والعربية ، بيّن فيه المؤلف تعبيرات صحيحة للجمل الأردية ، يقع فيها الخطأ من الطالب في التعبير والتعريب .

وبعد هذا الباب قدّم المؤلف ” نماذج الإنشاء ” من مقالات كتّاب مصر وسوريا والهند وباكستان ، أمثال الشيخ مصطفى لطفي المنفلوطي ، مقالة حول ” حياة النبي عليه الصلاة والسلام هي الأسوة ” .

والدكتور أحمد أمين ، ( الدين الصناعي ) ، والأستاذ سيد قطب ( العبيد ) ، والأستاذ أحمد حسن الزيات ( الإسلام دين القوة ) ، الشيخ علي الطنطاوي ( أسرة واحدة ) والأستاذ أبو الحسن علي الحسني الندوي ( قد مضى عهد ألف ليلة وليلة ) ، والأستاذ مسعود عالم الندوي ( المجدد السرهندي ) والأستاذ محمد ناظم الندوي ( دار المصنفين بأعظم كره ) وهو الذي قدّم للكتاب .

بعد ذكر نماذج وأمثلة من مقالات هؤلاء الكتّاب والأدباء ، ذكر المؤلف تراجمهم موجزاً .

يكتب الأستاذ محمد ناظم الندوي رحمه الله تعالى في مقدمة هذا الكتاب : ” هذا الكتاب الذي هو بين أيديكم ، هو الجزء الثالث لمعلم الإنشاء ، ألّفه وجمعه العزيز محمد الرابع الندوي ، وهو حلقة أخيرة لهذه السلسلة ، بيّن طرق إعداد البحث وكتابة  المقالات والإنشاء في اللغة العربية مفصّلاً ، كما ذكر قواعد وأصول الكتابة وفنّ بسط موضوع مختصر ، ولم يكتف ببيان الأصول فحسب بل قدّم أمثلة عديدة نحو تمرين الكتابات وإعداد الموضوع والمادة ، حدّد الموضوع ، ثم فصّله ، وذكر غرض الموضوع وعناصره وأجزاءه اللازمة ، ثم ذكر خاتمته ، وكتب مقالاً إجمالياً مختصراً في ضوء ذلك ، والمهارة في الإطناب والإسهاب هي روح صناعة الإنشاء والتعبير ” ، وميزة واحدة لهذا الكتاب ، هي أن جوّ روح الإسلام سائد على الكتاب كله ، بالرغم أنه كتاب تمرين على كتابة المقالة وإعداد البحث في اللغة العربية ، المدارس الإسلامية في الهند ، وأحوال مؤسسيها ، وخدماتهم ، وتجد سيرة عمر بن عبد العزيز ، ومآثره التجديدية وما إلى ذلك ” .

هذا الكتاب أُلّف للطلاب غير الناطقين باللغة العربية ، وهو من المنهج الدراسي في دار العلوم التابعة لندوة العلماء بلكناؤ وفروعها والمدارس الملحقة بها وغيرها من المدارس العربية في الهند وباكستان ، ونُقل إلى اللغة الفارسية أيضاً .

وأرى حسناً أن أقدّم إليكم بعض القطعات والمقتبسات لمعرفة أهمية الكتاب وجهد صاحبه وما بذل فيه من قصارى مجهوداته نحو جمع وإبراز هذا الكتاب على حيز الظهور ، انظر كيف يكتب جملة ثم يفصّلها ويبسطها ويوسعها :

” (1) مدرستي جميلة المنظر أنيقة المبنى .

(2) مدرستي جميلة تُمتّع النظر إليها وتجعل زائرها معجباً بأناقتها وروعة جمالها .

(3) مدرستي جميلة ، كلما دخل إليها زائر دهش من جمال مظهرها ومبناها إذ ركبت من بناء فخم وصورة رائعة ، حيث يتمنى كل طالب أن كان التحق بها حتى تجتمع لديه متعتان : متعة العلم ومتعة المنظر البهيج .

(4) كان منشئو مدرستي يملكون سلامة الذوق ونظرات ثاقبة ، فما كانوا يبغون مبنى بسيطاً أو عمارة ساذجة ، لا تدخل في النفس السرور ولا تبهج القلب وتريح الذوق ، كما أنها جدران وسُقُف أقيمت لاضطرار الحاجة إلى ذلك .

فأحضروا لبناء مبناها من المهندسين المهرة الذين يحسنون إيجاد تشكيلات جميلة للمباني ، تشكيلات تقضي الضرورة وتسهل في نشاط التعليم في أرجائه ، وترضي ذوق الرجل ، وتقضي فرائضه من أمور دينية وشؤون علمية ، وأنفقوا على ذلك مبلغاً عظيماً من المال لإيجاد هذا الجمال الساحر والروعة المدهشة اللذين يبعثان في نفوس رُوّادها البهجة والسرور ، ويجعلان زائرها يغتبط بمشاهدتها ، ويحمل معه ذكرها أينما حل ، ويثني على المشرفين عليها وعلى بُناتها ” .

ومثال آخر بعنوان : ” وبالأمطار حياة الأرض “

وإنما الأرض لتترقب نزول المطر حينما تشتد الحرارة ويشتد وهج الشمس ويجف كل شيئ على ظهرها أو يكاد يجف فينزل حين ذلك المطر فيكون حياة لكل مخلوق ، وحياة لكل ما يصلح أن يكون نباتاً وتحى الأرض به حياة خصبة ناضرة ” .

ومثال آخر :

” القطار ينقل البضائع سواء كانت خفيفةً أم كانت ثقيلةً ونرسل به طرودنا من كتب وصحف وحلاوى وأطعمة والمرافق التي نحتاج إليها حيناً بعد حين ، لأننا لا نقدر أن نسافر كل حين لجلب هذه الأمتعة والبضائع ” … إلخ .

يكتب حول ” العقل وفوائده ” :

” إنما العقل نور عظيم رزقه الله الإنسان ، يسلك به طرقه بالسلامة والاستقامة ، وبه يسيطر على الحيوانات والأحياء الأخرى ، وبه يترقى ويتقدم ويخترع المصنوعات ويكشف المجاهيل ويصنع الخطط ويرتب المبادئ ويحكم على الموجودات ، يشق الجبال ويجفف جوانب البحار ، فيكوّن منها براً يبساً يطير في الجوّ ، ويسافر في أعماق البحور ، فهو آلة بين يديه يتسلط بها على كثير من الأشياء ، فهو نور من الله ، من حرم حرم خيراً كثيراً “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ” .

انظر إلى هذه القطعة حول : ” التاج محل ” :

” لقد كان شاه جهان من ملوك الهند المغول شديد الحب والغرام لعقيلته ، وهي التي توفيت ولم تقض من العمر إلا جزءاً قصيراً ، فبلغ منه الحزن كل مبلغ ، وكاد لا يتمالك ولا يصبر ، فرأى أن يبني مقبرة على قبرها ، تتضائل دونها القصور الفخمة الفاخرة ، فتكون آية أبد الدهر ، ورمزاً للحب ، ومبعثاً للسلوان وبهجة للقلب المكلوم ….. إنه بنى مقبرةً شامخة البنيان ، جميلة الشكل كطاقة رشيقة ، بابها من الحجر الأحمر المرصع بالرخام الأبيض والأسود …… بهذا الشكل الرائع لا يزال هذا البناء يعجب الزوار والشاهدين ، ويقوم آية في الفن مع إنفاق المال الكثير في هذه الأعمال التذكارية لا يُبيحه الإسلام ، وإنما الفقراء والمساكين هم يستحقون أن ينفق عليهم ” .

أكتفي بهذه القطعات والمقتبسات ، لأنها تكفي بالدلالة على ذوق المؤلف وبراعته وحسن اختياره وقصارى جهده ، فجزاه الله خيراً عن الطلاب والمعلمين والمستفيدين من هذا الكتاب القيم النافع .

اللهم أغدق عليه شآبيب رحمتك ورضوانك ، وأسكنه فسيح جناتك ، وألهم أهله وذويه وتلاميذه الصبر والسلوان .


* دار العلوم لندوة العلماء لكناؤ ، ( الهند ) .