فتح الفتوح تعالى أن يحيط به
يونيو 23, 2023إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ، وَنَرَاهُ قَرِيباً
ديسمبر 11, 2023صور وأوضاع :
قهر الشعوب بالاتجاه المزدوج
محمد فرمان الندوي
حادثان غريبان :
شاب جزائري في فرنسا يعبر الإشارة الحمراء يوم الثلاثاء ( 4/ من يوليو2023م ) ، ولم يمتثل لشرطة المرور ، فأطلقه شرطي برصاصات في صدره بشكل وحشي ، حتى مات ، وقد أثار موته ضجةً كبيرةً في فرنسا ، وخرج الناس إلى الشوارع والطرقات ، وتظاهروا بالاحتجاجات والاعتصامات ، وكان في هذا الاحتجاج كل من الطوائف والأصول والأعراق من المسيحيين وغيرهم ، وكان اسم هذا الشاب نائل المرزوقي ، وقد بلغ من عمره 17/ عاماً ، وكان يعمل عمل توصيل الوجبات إلى المطاعم ، وقد عبر رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون عن صدمته واستيائه ، ولكن لات حين مناص ، وتأججت هذه المظاهرات في فرنسا إلى حد كبير ، بحيث وصفت بأنها غير مسبوقة من الشدة والحجم منذ عام 2005م ، وقد وصل المحتجون إلى منزل حاكم البلدية ، فاضطر إلى مغادرة منزله ، وامتدت نيرانها إلى مدن أخرى ، فكسرت الدكاكين ، وأتلفت الممتلكات الحكومية ، وأحرقت السيارات والحافلات ، حتى أحرق التجمع مكتبةً تراثيةً في فرنسا ، وقد نسب بعض أجهزة الإعلام هذا العمل إلى المسلمين ، رغم أن الاحتجاجات قام بها كل من الفئات السياسية وغير السياسية ، ولها دواعٍ أخرى أيضاً غير موت شاب جزائري .
هذا في جانب ، وفي جانب آخر شاهد العالم كله سلوكاً دنيئاً من رجل سويدي ، قام بتمزيق المصحف الشريف وإحراقه أمام مسجد استوكهولم بالسويد في عيد الأضحى المبارك ، وكان ذلك بمساندة ومباركة الحكومة السويدية ، لا شك أنه انتهاك شنيع لمقدسات المسلمين ، واستفزاز لمشاعرهم الإيمانية ، وكان هذا الانتهاك يختلف عن الانتهاكات الأخرى ، فإنه قد جرى بموافقة من الحكومة وتحديد الزمان والمكان ، فهذا الحادث جرح مشاعر المسلمين ، وأدمى قلوبهم ، وأبكى عيونهم .
اتجاه مزدوج للغرب :
هذان الحادثان لهما خلفيات وتداعيات ، لكن الأمر الذي يتمخض من دراسة الواقع هو العنصرية والكراهية وخوف الغرب من الإسلام وشعائره ، فإن قتل شاب مراهق لم يكن مفاجئاً ، وقد أرجع بعض المحلِّلين عقارب الساعة إلى زمن الاستعمار الفرنسي في الجزائر الذي استمر إلى مائة وثلاثين سنة ، فقُتل الرجال والنساء ، ودُمِّرت البيوت والمنازل ، وفُعل بالجزائر ما فُعل ، حتى نالت الجزائر استقلالها عام 1962م ، فإن الجيل الذي يحكم الآن فرنسا ليس الجيل الذي كان زمن الاستعمار ، لكن الاتجاه العدائي السافر ما زال ولا يزال مكنوناً في خفايا صدوره ، قد بدت البغضاء من أفواههم ، وما تخفي صدورهم أكبر ، وإن إحراق القرآن الكريم والمكتبات العلمية ، واللعب بالتراث التاريخي ما كان ولن يكون أبداً من أعمال المسلمين إلى يوم القيامة بإذن الله ، فإن المسلمين ظلوا حاملين راية العلم والمعرفة منذ أمد بعيد ، وإن إسلامهم ما سمح بعمل إحراق إنسان ولا حيوان ولا أي شيئ آخر ، وقد كان من وصايا أبي بكر الصديق رضي الله عنه : لا تعقروا نخلاً ، ولا تحرقوا زرعاً ، ولا تقطعوا شجرةً مثمرةً ، ولا تقتلوا شيخاً كبيراً ، ولا صبياً صغيراً ، فإن النار لا يعذب بها إلا الله ( سنن أبي داود : 1610 ) ، فكيف ينبغي للمسلمين أن يحرقوا المكتبات الدينية والتاريخية ، وقد كانت نهضتهم بالكتب والمكتبات الإسلامية .
ثورة هائلة للعلم والفن :
كان فجر الإسلام بالعلم ، ورفع الله تعالى شأن العلم بالقرآن الكريم ، بحيث إن أول وحي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يركز على العلم ، وقد مدح الله العلم والعلماء في القرآن الكريم في أكثر من عشرة مواضع ، وقد وجدت بذرة العلم في خير القرون أرضاً خصبةً ، فأثمرت حضارةً رائعةً للمسلمين ، وقال الأحنف بن قيس : كل عز لم يوطد بعلم فإلى الذل مصيره ( كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة ، ص : 18 ) . ومن هنا كانت الكتب والمؤلفات ودواوين الشعراء ، وأخبار العرب ، فالكتاب هو الجليس الذي لا ينافق ، ولا يمل ، ولا يعاتبك إذا جفوته ، ولا يفشي سرك ( الفخري في الآداب السلطانية والأمم الإسلامية لابن طباطبا ، طبع القاهرة ، ص : 4 ) ، فكانت الكتابة والتدوين منذ فجر الإسلام ، ومن هنا نشأت المكتبات في الإسلام ، فكانت هناك مكتبات حكومية ، ومكتبات شخصية ، ومكتبات ملحقة بالمساجد والمدارس والجوامع والرباطات ، وكان للمكتبات عهد زاهر في العهود الإسلامية ، فلم تكن هذه المكتبات للزينة والمفاخرة ، ولقضاء الأوقات ، وإشباعاً لغرائز النفس ، بل كانت غايتها أسمى وأكبر من ذلك بكثير ، فكانت المكتبات نتاجاً للبحث والدراسة وتثقيف الشعب ، ومكاناً للتأليف والتمحيص والإبداع والاختراع ، فكان علماء الطبيعة المسلمون أبدعوا مؤلفات وكتباً لا يوجد لها نظير في هذا الزمان المتطور ، فإن الثروة الهائلة للعلم والفن كلها مدينة بالمكتبات العلمية .
وجه كالح للغرب :
ومما يؤسف له أنه قد أتى على العالم الإسلامي زمان ، تعرض فيه لهجمات شرسة ، وأصيب بتفكك وانهيار ، وقد استولى على عواصم المسلمين أقوام جعلوها مسرحاً لغزواتهم ومعاركهم ، وبدأ المغول هجومهم ، فقد دخلوا بخارى ، وهي عامرة بالسكان الذين يبلغ عددهم إلى أربع مائة ألف إنسان ، لكنهم عندما خرجوا منها فتركوها أنقاضاً لا حياة لها ، ذكر المؤرخ ياقوت الحموي المكتبات الرائعة العشر التي يتجمل بها تاريخ هذه المنطقة ، وقد سويت بالأرض في هذا الهجوم ، وعندما احتل التتر بغداد فعلوا بها الأفاعيل ، وجعلوا من الرؤوس قباباً ، ومن الدماء أنهاراً ، وسفكوا فيها ثماني مائة ألف ، وقيل : إن ماء دجلة قد تغير لونه لكثرة ما ألقى فيه التتر من الكتب والأوراق ، وقيل : إنه أقاموا بكتب العلم ثلاثة جسور على دجلة ، ويقول محمد كرد علي في كتابه : الإسلام والحضارة العربية ، ج 1/323 : إن هولاكو بنى بكتب العلماء اصطبلات الخيول وطوالات المعالف عوضاً عن اللبن ، وليعلم أن هؤلاء التتر حينما فعلوا ذلك لم يكونوا مسلمين ، ولا يحملون لواء الإسلام .
وما قصة مأساة المسلمين في الأندلس ببعيد عنا ، الأندلس التي أتحفت أوروبا بكتب ومؤلفات نادرة ، الأندلس التي أيقظت الغرب من سباتها العميق ، الأندلس التي شقت طريقاً جديداً للفكر والتدبر ، هذه الأندلس أصبحت عُرضةً للمساعي النحسة للغرب ، فإنه رأى أنه لا يمكن القضاء على الإسلام والمسلمين نهائياً إلا بالقضاء على ثقافتهم وتراثهم المخطوط ، فجمع جميع الكتب العربية والمصاحف ، واختزن الغرب منها ما اختزن ، ثم أحرقت هذه الكنوز الثمينة بين عشية وضحاها ، واختلف المؤرخون بتقدير عدد الكتب العربية التي أحرقت ، فكان يتراوح بين المليون والسبعين ألفاً من الكتب ، وما بقي منها جمع في قسم المخطوطات في عاصمة مدريد ، وقد ذكر الفرد بتلر في كتابه ” فتح العرب لمصر ” نقلاً عن سيديو أن الفرنسيين حينما فتحوا قسنطينه في شمالي إفريقيا أحرقوا كل الكتب والمخطوطات التي وقعت في أيديهم ، كأنهم من صميم الهمج ، وهؤلاء هم الفرنسيون الذين ينسبون أنفسهم إلى المسيحية قد أحرقوا في الجزائر في الثاني والستين من القرن العشرين الميلادي مكتبة جامعة الجزائر التي تحتوي على نصف مليون كتاب .
كذبة بلقاء في تاريخ الإنسانية :
ومن الإشاعات الكاذبة والأراجيف المزورة أن المسلمين عندما فتحوا مصر فإن عمرو بن العاص أمر بإحراق مكتبة الإسكندرية ، وقد أثار هذه الكذبة المؤرخون المسيحيون وبدؤوا يرددونها في دراساتهم ، فقالوا : إن جميع الكتب والمؤلفات كانت لهذه المكتبة حوالي أربع مائة ألف أو أكثر كتاب ، وكانت هناك أربعة آلاف حمام ، فجعلت هذه الكتب تطرح في مواقدها إلى ستة أشهر – لا حول ولا قوة إلا بالله – فقد انبرى لدراسة هذا الموضوع دراسة موضوعية عدد من العلماء ، وفي آخرهم العلامة شبلي النعماني ( رئيس الشئون التعليمية لندوة العلماء سابقاً ) ، فإنه ألف رسالةً حول تفنيد هذه الأكذوبة ، فقال : إن مكتبة الإسكندرية كانت قد احترقت قبل قدوم المسلمين إلى مصر بزمن طويل ، ومعلوم أن هذه المكتبة قد أنشأها الوثنيون ، فلما استولى على مصر المسيحيون ، فأول ما فعلوا أحرقوا هذه المكتبة ، لئلا يبقى للوثنيين عين ولا أثر ، ولم يكن لهذه المكتبة وجود في عهد عمرو بن العاص رضي الله عنه حتى يكون الأمر بإحراقه ، وختم هذا البحث بهذا الشعر الإنجليزي : ” إننا نوجه إليهم سهام اللوم ، وليس جديراً باللوم سوانا ” .
قهر الشعوب بالاتجاه المزدوج :
فنسبة إحراق المكتبات إلى المسلمين ليست بدعاً من الأمر ، وهذا موقف مزدوج أن المسيحيين قاموا بإحراق هذه المكتبات ثم زوّروا الواقع ، ولفقوه ، ورموا به المسلمين ، وقد أثيرت هذه التساؤلات في كل زمان ، فلا يخلو عصرنا هذا من أمثال هذه الترَّهات ، وكل ذلك لتكون سمعة المسلمين سيئةً للغاية ، ولا يبقى لهم قيمة في ميزان الأمم والشعوب ، ويتضح أمام الناس أن المسلمين أعداء للعلم وأدواته ، رغم أن الغرب قد قضى فترةً في عداء العلم ، لا شك أنها محاولة شنيعة وخطة مدبرة حيكت خيوطها ، ونسجت مؤامراتها ضد المسلمين ، لكن هذه سنة الله في الكون أن المسلمين كلما ابتلوا بأي محنة أو بلية كشفها الله عنهم ، وأشرق وجهه المشرق للناس ، فكان سبباً لهدايتهم إلى الصراط المستقيم ، وصدق من قال : ” رب ضارة نافعة ” ، فنسبة إحراق المكتبات إلى المسلمين وإحراق المصحف على رؤوس الأشهاد ومن ثم إثارة حفائظهم نوع من العداء والإسلامفوبيا الذي يضمره الغرب في قلبه ، وينكشف الغبار رويداً رويداً ، فيعرف القاصي والداني أنه كان غباراً انكشف أو غمرة انجلت ، قال الله تعالى : ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً . وَأَكِيدُ كَيْداً . فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ) [ الطارق : 15 – 17 ] .