فقه النوازل : حاجته وأهميته
يناير 6, 2021مبادئ السلم في الشريعة الإسلامية ومقاصده !
فبراير 21, 2021الفقه الإسلامي :
قضية تعليل الأحكام عند الأصوليين والمتكلمين
الأستاذ نواس شريف بن عبد الصمد *
المقدمة :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول رب العالمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد !
فإن هذا البحث يتناول دراسةً جيدةً عن مسألة ” تعليل الأحكام عند الأصوليين والمتكلمين ” حيث إن مدار علم مقاصد الشريعة الإسلامية على مسألة هل يجوز أن تعلل أحكام الله أم لا ؟ ومقاصد الشريعة فن اعتبر به العلماء القدماء الفقهاء مثل إمام الحرمين الجويني والإمام الغزالي وتصور ذلك العلم فناً جديداً الإمام الشاطبي المالكي وطاهر بن عاشور رحمهم الله ، وهذا مما لا يخفى علينا أن كثيراً من العلماء المعاصرين يستنبطون الأحكام في المسائل المعاصرة المستجدة باعتبار المقصود الذي أراده الشارع في تنفيذ الأحكام .
سبب الاختلاف :
- اختلاف العلماء في تعريف العلة
- اختلافهم في مسألة التحسين والتقبيح
التحسين والتقبيح :
السبب الذي أدى العلماء إلى الخلاف في مسألة التحسين والتقبيح هو اختلافهم في فهم معنى لفظة ” الحاكم ” اتفق جميع المسلمين على أن الحاكم هو الله لقوله تعالى : ” إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ” [1] إلا أن المعتزلة صرحوا بأن الحاكم هو العقل كما بيَّن الإمام تاج الدين عبد الوهاب السبكي في جمع الجوامع : ” حكمت المعتزلة العقل ” [2] .
وفي الواقع أن لفظة ” الحاكم ” يطلق على معنيين :
الأول : أنه مثبت للأحكام ومنشئها ومصدرها :
وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل السنة والمعتزلة .
الثاني : أن الحاكم هو المدرك للأحكام والمظهر لها والمعرف بها والكاشف عنها :
هذا موضوع الخلاف ومنشؤه فذهب أهل السنة والجماعة : أن أدلة الشرع هي التي تظهر الحكم وتبينه ولا يستقل العقل بإدراكها وفهمها ، وذهبت المعتزلة إلى أن العقل يستقل بإدراك الأحكام ولا يتوقف على ورود الشرع بها .
الاختلاف في مسألة التحسين والتقبيح :
هناك ثلاثة من الآراء حول هذه المسألة :
الرأي الأول : رأي الأشاعرة :
الحسن عندهم ما حسنه الشارع ، والأمر القبيح ما قبحه الشارع ، وكلا الأمرين لا يدركان إلا عن طريق الرسل والوحي ، استدلوا برأيهم :
الدلائل النقلية :
- وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً [3]
- لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ [4]
- وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِيۤ أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [5]
وجه الاستدلال : إن هذه الآيات القرآنية تصرح أن الله عز وجل لا يعذب أحداً من أمته حتى يبعث إليهم رسولاً يعلمهم عن الله والإسلام والأحكام ، فهذه الآيات صريحة في أن الحكم لا يدرك بالعقل بل بالنقل فقط لأنه إذا كانت الأحكام مدركةً بالعقل لا حاجة لله في تعذيب الأمة أن يبعث رسولاً .
الدلائل العقلية :
- أنه لو استطاع العقل إدراك الحسن والقبيح لما احتيج إلى الرسول وبذلك يكون إرسال الرسل والكتب من العبث ، والعبث ممتنع على الله .
- أن الاعتماد على العقل يقود إلى التناقض والتفاوت لاختلاف العقول والمدراك من جهة ، وتأثرها بالهوى من جهة أخرى .
الرأي الثاني : رأي المعتزلة :
إن الحسن والقبح عندهم ما يدركه العقل وحده ، فالحسن ما حسنه العقل ، والقبح ما قبحه . استدلوا لقولهم بآيات مثل :
- أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ [6]
- أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ [7] وغيرها من الآيات التي تحرض الإنسان للتفكر والتدبر .
الرأي الثالث : رأي الماتريدية :
وهو الرأي الوسط ، وملخصه أن العقل يسعه إدراك الحسن والقبح في بعض الأفعال دون بعض الآخر ، إلا أن هذا الإدراك لا يلزم منه أن يأتي حكم الشارع موافقاً لما أدركه العقل من حسن وقبح .
مسألة التعليل :
الأقوال الإجمالية في التعليل ثلاثة :
- أنكره قوم – الظاهرية ، والنظام من جهة ، والأشاعرة من جهة أخرى
- أثبته قوم مطلقاً – المعتزلة من جهة ، وبعض أهل السنة من جهة أخرى
- وقال آخرون بالتفصيل – الماتريدية وجماعة من أهل السنة
منكرو التعليل :
- الظاهرية : قالوا : إنه لم يقل بها أحد من الصحابة بوجه من الوجوه ، ولا أحد من تابعي التابعين ، وإنما هو أمر حدث في أصحاب الشافعي وأتبعهم عليهم أصحاب أبي حنيفة ثم تلاهم أصحاب مالك .
” وما جاء قط في شيئ من الروايات عن أحد من كل من ذكرنا أصلاً لا في رواية ضعيفة ولا سقيمة أن أحداً من تلك الأعصار علل حكماً بعلة مستخرجة يجعلها علامة للحكم ثم يقيس عليها ما وجد تلك العلة فيه مما لم يأت في حكمه نص ” [8] .
- النظام : قال مطلقاً ” لا تعليل لأحكام هذا الشرع ” .
- الأشاعرة : ” القسم الأول ” – البيضاوي ، الرازي : هم منعوا وجود التعليل أصلاً ، قد خلق وأمر الله لا لمقصد ولا لباعث بل لمحض المشيئة والإرادة . حيث عرف الإمام البيضاوي العلة : بـ ” المعرف للحكم ” [9] .
وعرفها الإمام الرازي : بأنها ” الوصف المعرف للحكم ” [10] .
- الأشاعرة : ” القسم الثاني ” – الآمدي ، الغزالي : اعترفوا بوجود التعليل ومنع وجوبه حيث عرف الغزالي العلة بأنها : ” المؤثرة في الحكم بإذن الله أي بجعله لا بالذات ” [11] وعرفها الآمدي : ” والمختار أن لا بد أن تكون العلة بمعنى الباعث ” [12] .
أقوال للربط بين تعاريف الغزالي والآمدي وبين عقيدتهم الأشعرية :
- قول السبكي : ” من عبر عنها بالباعث أراد أنها باعثة للمكلف ” [13] .
- قول البناني : ” والمراد بالباعث كونها مشتملةً على حكمة مقصودة مخصوصة مقصودة للشارع من شرع الحكم ، لا بمعنى أنه لإجلها شرعه حتى تكون باعثاً وغرضاً ويلزم المحذور ” [14] .
مثبتوا العلة :
- المعتزلة : عندهم أن الله تعالى حكيم شرع الأحكام لحكم ومصلحة وأحكامه تتضمن وجوباً على الحكم والمصالح ، عرفوا العلة بأنها : ” الباعث للشارع على شرع الحكم ” ولكنهم بالغوا فنسبوا كل شيئ للعقل ، وأثبتوا للعقل أحكاماً لأنه يدرك الحسن والقبح ، وأن العقل ينبني عليه تكليف ، وعندهم أن الله تعالى حكيم شرع الأحكام لحكمة ومصلحة لقوله تعالى : ” وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ” [15] ، والأحكام تتضمن على الحكم والمصالح وجوباً .
ورد هذا التعريف بأن : العلل الشرعية ليست كالعقلية توجب معلولها بذاتها ، والله سبحانه وتعالى قادر على خرق سنته .
- الماتريدية : أثبت الماتريدية حسناً وقبحاً عقليين في الأشياء ، لكنهم لم يحكموا العقل من الوجهة الشرعية ، وبذلك خالفوا المعتزلة وتشابه رأيهم مع رأي أهل السنة كما سيأتي إن شاء الله .
- أهل السنة ” جمهور السلف ” ( ابن تيمية الحراني ، ابن القيم ) : اعتقد جمهور السلف أن الله خلق لحكمة ومقصد ، وأن أحكامه للبشر معللة ، ولكن هذه العلل قد يعلمها بعض الناس وقد لا يعلمها ، كما أن بعض الأمور التعبدية تخلو من العلل التي ندركها ولكن لا يمنع من أن الله وضعها لحكمة كدلوك الشمس مناطاً لوجوب الصلاة ، كما قال الإمام البزدوي : ” إن أفعال الله كلها معللة بالمصالح ظهر لنا بعضها وخفي علينا البعض الآخر ، ولكن لا على سبيل الوجوب ” [16] .
عند المتكلمين والأصوليين :
وهذه المسألة مما وقع فيه أيضاً الإتلافات بين المتكلمين والأصوليين حيث إن أحكام الله لا تعلل عند المتكلمين وتعلل عن الأصوليين كما قال تاج الدين عبد الوهاب السبكي : ” المشتهر عند المتكلمين أن أحكام الله لا تعلل ، واشتهر عن الفقهاء التعليل ” [17] ، والحقيقة كما قال الشاطبي : إن المسألة اختلف فيها في علم الكلام ثم انتقل أثرها إلى الميدان الأصولي .
- مذهب الشافعي وجماهير أهل السنة عدم التعليل برعاية المصالح ، وأن الأحكام الشرعية عندهم أثبتها الله تحكماً وتعبداً ، غير معللة ، وما يتعلق بها من مصالح العباد ، فذلك ضمناً وتبعاً ، لا أصلاً ومقصوداً .
- واستثنى من هذا الأصوليون الأحناف الذين يرون أن الأحكام الشرعية أثبتها الله وشرعها معللة بمصالح العباد لا غير .
- وإن الإمام الآمدي ادعى انعقاد الإجماع أو شبه إجماع حيث نص على أنه لا يجوز القول بوجود حكم لا لعلة : ” إذ هو خلاف إجماع الفقهاء على أن الحكم لا يخلو من علة ” [18] ، ثم أكد في موضع آخر أن ” أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله لا تخلو من حكمة ومقصود ” [19] .
- وصرح ابن الحاجب : ” فإن الأحكام شرعت لمصالح العباد ، بدليل إجماع الأمة ” [20] .
ولكن رد ابن السبكي على هذا : ” وقد ادعى بعضهم الإجماع على أن الأحكام مشروعة لمصالح العباد وهذه الدعوى باطلة ، لأن المتكلمين لم يقولوا بتعليل الأحكام ، لا بطريق الوجوب ولا الجواز ” [21] .
وأضاف أيضاً أن المتكلمين لم يقولوا بتعليل الأحكام بالمصالح لا بطريق الوجوب ولا الجواز لأنه هو اللائق بأصولهم ، وقد قالوا : لا يجوز أن تعلل أفعال الله لأن من فعل فعلاً لغرض ، كان حصوله بالنسبة إليه أولى ، سواء كان الغرض يعود إليه أم إلى الغير ، وإذا كان كذلك ، يكون ناقصاً في نفسه مستكملاً في غيره . ويتعالى الله عن ذلك ” [22] .
ولكن رد على ابن السبكي كثير من العلماء مثل ابن الهمام الإسكندري ، والقاضي عبيد الله بن مسعود صدر الشريعة ، حيث قال : ” ما أبعد قول من قال : إنها غير معللة فإن بعثة الأنبياء لاهتداء الخلق وإظهار المعجزات لتصديقهم ، فمن أنكر التعليل فقد أنكر النبوة ” [23] .
الخلاف لفظي :
حاول بعض العلماء للجمع بين آراء المتكلمين والأصوليين ، ومنهم ابن الهمام الحنفي حيث بين بقوله : ” والأقرب إلى التحقيق أن الخلاف لفظي ، مبني على معنى الغرض . فمن فسره بالمنفعة العائدة إلى الفاعل ، قال : لا تعلل ، ولا ينبغي أن ينازع في هذا . ومن فسره بالعائدة إلى العباد قال : تعلل ، وكذلك لا ينبغي أن ينازع فيه ” [24] . وقال طاهر بن عاشور : ” إن ذلك الاختلاف بين المتكلمين والأصوليين اختلاف يشبه أن يكون لفظياً ” [25] .
وذهب الدكتور سعيد رمضان البوطي إلى توفيق آخر وهو يرى : أن التعليل المقصود في علم الكلام ، هو غير التعليل الأصولي الفقهي ، وقال : ” فالعلة التي يتحدثون عنها في علم الكلام ، هي العلة التي يقصدها الفلاسفة ، وهي ما يوجب الشيئ لذاته ، ولا ريب أن لا يصلح أن ينسب هذا التعليل إلى أفعال الله بأي حال . . . أما مراد أهل السنة بالعلة التي يثبتنها للأحكام في بحث الأصول فهو العلة الجعلية التي تبدو لنا كذلك ، إذ جعلها الله موجبةً لحكم معين ” [26] .
الخاتمة :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد !
فبعد هذا البحث عن مسألة تعليل الأحكام وصل الباحث إلى عدة نتائج ومن أبرزها وأجلها أن مسألة تعليل الأحكام مما وقع الخلاف فيها بين العلماء الأصوليين والمتكلمين وأن عليها مدار علم مقاصد الشريعة الإسلامية ، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم . . . آمين .
المصادر والمراجع :
- القرآن الكريم
- الأحاديث النبوية
- جمع الجوامع ، تاج الدين عبد الوهاب السبكي
- حاشية البناني على شرح المحلي لجمع الجوامع
- الإحكام في أصول الأحكام ، سيف الدين الآمدي
- الموافقات ، الإمام الشاطبي
- الإبهاج في شرح المنهاج ، علي بن عبد الكافي السبكي المتوفى 756هـ ، تاج الدين السبكي المتوفى 771هـ
- التحرير والتنوير ، طاهر بن عاشور
- ضوابط المصلحة ، الدكتور سعيد رمضان البوطي
- نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ، أحمد الريسوني
- نظرية المقاصد عند الإمام محمد بن طاهر بن عاشور ، إسماعيل الحسني
* الباحث في قسم الفقه وأصوله جامعة دار الهدى الإسلامية ، تشماد ، مالابرم ، كيرالا ، الهند .
[1] الأنعام : 57 .
[2] جمع الجوامع .
[3] الإسراء : 15 .
[4] النساء : 165 .
[5] القصص : 59 .
[6] الروم : 8 .
[7] الأعراف : 185 .
[8] الإحكام في أصول الاحكام ، ابن حزم 7/117 .
[9] جمع الجوامع ، 2/231 .
[10] المحصول ، 5/190
[11] جمع الجوامع ، 2/232 .
[12] جمع الجوامع ، 2/232 .
[13] جمع الجوامع مع شرحه ، للمحلي ، 2/232 .
[14] حاشية البناني ، 2/233 .
[15] الأنبياء : 107 .
[16] كشف الأسرار ، 4/173 .
[17] الإبهاج في شرح المنهاج ، 3/41 .
[18] الإحكام ، 3/380 .
[19] الإحكام ، 3/411 .
[20] منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل ، 184 .
[21] الإبهاج ، 3/62 .
[22] المرجع السابق .
[23] تيسير التحرير ، 3/403 .
[24] المرجع السابق
[25] التحرير والتنوير 1/379-381
[26] ضوابط المصلحة 96/97