أعتقونا لوجه الله
نوفمبر 22, 2024التوجيه الإسلامي :
قضايا مستجدة حول نفقة المطلقة
( الحلقة الثانية )
د . المفتي محمد مصطفى عبد القدوس الندوي *
ومن جهة أخرى أن الناشزة إذا خرجت من بيت زوجها لا تستحق النفقة مع بقاء الزوجية ؛ لعدم تسليم نفسها في بيت الزوج ، ومتى عادت إلى بيته استحقت النفقة ، فثبت أن المعنى الذي تستحق به النفقة والسكنى هو تسليم نفسها في بيت الزوج . فلما اتفقنا ومن أوجب السكنى فقط دون النفقة ، على وجوب السكنى وصارت بها مسلمة لنفسها في بيت زوجها ، وجب أن تستحق النفقة . وأيضاً لما اتفق الجميع على أن المطلقة الرجعية تستحق النفقة في العدة وجب أن تستحق المبتوتة أيضاً ، بسبب علة مشتركة بينهما ، وهي كونها معتدة عن طلاق [1] .
ولأنها محبوسة عليه [2] ، فلما كانت لها السكنى فأصبحت محبوسةً عليه فلابدّ أن تكون لها النفقة أيضاً ؛ لأنها كيف تعيش وتعتد بدونها عنده ؟ قال ملك العلماء العلامة الكأساني : ” وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِسْكَانِ أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً مَمْنُوعَةً عَنْ الْخُرُوجِ لا تَقْدِرُ عَلَى اكْتِسَابِ النَّفَقَةِ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَفَقَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ وَلا مَالَ لَهَا لَهَلَكَتْ ، أَوْ ضَاقَ الْأَمْرُ عَلَيْهَا وَعَسُرَ ، وَهَذَا لا يَجُوزُ وقَوْله تَعَالَى : ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ) [ الطلاق : 7 ] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا قَبْلَ الطَّلاقِ وَبَعْدَهُ فِي الْعِدَّةِ ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ قَبْلَ الطَّلاقِ لِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لِحَقِّ الزَّوْجِ ، وَقَدْ بَقِيَ ذَلِكَ الاحْتِبَاسُ بَعْدَ الطَّلاقِ فِي حَالَةِ الْعِدَّةِ وَتَأَبَّدَ بِانْضِمَامِ حَقِّ الشَّرْعِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ قَبْلَ الطَّلاقِ كَانَ حَقّاً لِلزَّوْجِ عَلَى الْخُلُوصِ وَبَعْدَ الطَّلاقِ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الشَّرْعِ حَتَّى لا يُبَاحَ لَهَا الْخُرُوجُ ، وَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ لَهَا بِالْخُرُوجِ فَلِمَا وَجَبَتْ بِهِ النَّفَقَةُ قَبْلَ التَّأَكُّدِ فَلَأَنْ تَجِبَ بَعْدَ التَّأَكُّدِ أَوْلَى ” [3] .
(1.1) نظرة على حديث فاطمة رضي الله عنها :
وأما حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها فأنكر عليها عمر ابن الخطاب وعائشة رضي الله عنهما على وجه الخصوص من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم [4] . ومن الأصول أن إنكار الصحابة رضي الله عنهم على راوي الحديث يوجب الطعن فيه [5] . قال أبو بكر الجصاص : ” لو لا علموا خلافه من السنة ومن ظاهر الكتاب لما أنكروه عليها ، وقد استفاض خبر فاطمة رضي الله عنها في الصحابة ، فلم يعمل به منهم أحد إلا شيئاً ” [6] ؛ فلا ينبغي أن يستدل بهذا الحديث على عدم وجوب النفقة والسكنى للمبتوتة . ثم هذا الحديث يعارض كتاب الله أيضاً ، كما سبق تقريره وطريقة الاستدلال به على وجوبهما لها على زوجها مادامت في العدة .
ثم على ثبوت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها يمكن تأويله وتعيين محمله ، بحيث لم يبق تعارض بينه وبين القرآن : أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها كانت تطيل لسانها على أحمائها بالفحش فنقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت ابن أم مكتوم ولم يجعل لها نفقةً ولا سكنى ؛ لأنها صارت كالناشرة إذ كان سبب الخروج عنها [7] ، كما قال الإمام الشافعي : ” لم يجعل لها النبي صلى الله عليه وسلم السكنى ؛ لما كانت تبذو على أهلها ” [8] ، وبهذا السبب صارت ناشزةً فلم تستحق النفقة أيضاً كما يقول به الحنفية .
كذلك يُؤوَّل بأن أَبا عَمْرِو بْنَ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ رضي الله عنه زوج فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قد أرسل إليها وكيله عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ بالطلاق ومعه نفقة العدة بِخَمْسَةِ آصُعِ تَمْرٍ ، وَخَمْسَةِ آصُعِ شَعِيرٍ ، فإنها سخطته فردّتها ، فقال الوكيل : والله مالك علينا من شيئ ، أي : النفقة التي تريد منه وهو الأجود [9] ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت ذلك له صلى الله عليه وسلم فقال : ” لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ ” [10] ، أي : هذا المقدار للنفقة يكفي لك ولا تستحق أكثر من ذلك أو أجود . قال العلامة رشيد الكنكوهي : ” الاعتذار من الأحناف في حديث فاطمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الزيادة على أقفزة شعير وأقفزة تمر أعطاها زوجها لكنها فهمت نفي النفقة رأساً ؛ فعلمت وعملت وأفتت بحسبه ” [11] .
فحاصل ذلك أن في الحقيقة نفي النفقة نفي الزائد الذي كانت تطلبها ، فإن أصل النفقة قد أعطيت كما جاء في الروايات ، وأصحها أنها أعطاها زوجها عشرة أصوع كما مر في صحيح مسلم [12] ؛ فكان المراد من عدم النفقة في الحديث : الفاضل والزائد على ما كان أعطاها زوجها .
(2.1 ) نظرة على القول بتخصيص النفقة للحامل دون غيرها في الآية :
وقال القائلون بالسكنى للمبتوتة دون النفقة لها مستدلين بقوله تعالى : ( فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) [ الطلاق : 6 ] .
وفي هذا الاستدلال – تخصيص النفقة لأولات الحمل – نظر ؛ لأن تخصيص الحامل بالذكر في إيجاب النفقة ليس كقيد احترازي ؛ بل للتأكيد والعناية البالغة بالإنفاق عليها نظراً إلى ما في بطنها ؛ لأنه إن لم ينفق عليها أو يضيّق الزوج في الإنفاق عليها ، فذلك يؤثر في ما في بطنها تأثيراً منفياً ويصيبه الضرر ، فوجب حفاظه عليها وعلى الزوج ، كما أوجب الله تعالى نفقة الرضيع وأمّها المطلقة على المولود له كي لا يهلك في قوله : ( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) [ البقرة : 223 ] .
وليس هناك دليل يدل على إيجاب النفقة للحامل في الآية قيداً احترازيّاً . قال المفسر الكبير العلامة أبو بكر الجصاص والعلامة الملا علي القاري : ” وقد دخلت فيه المطلقة الرجعية – عليه الاتفاق – ولم يمنع نفي النفقة لغير الحامل ، فكذلك في المبتوتة ، وإنما ذكر الحامل واشتراطه بما أن مدة الحمل ربما تطول ، فيظن ظانّ أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحائل ، فنفى ذلك الوهم ؛ فأراد إعلامنا وجوب النفقة مع طول مدة الحمل التي هي في العدة أطول من مدة الحيض [13] .
(2) وجوب نفقة المطلقة على الزوج السابق بعد انقضاء العدة :
واتضح مما سبق وثبت أن نفقة المطلقة تجب على الزوج ما دامت في العدة ، سواء كانت رجعيةً أو بائنةً ، ثم كانت حاملاً أو غير حامل . وأما وجوب النفقة لها بعد انقضاء العدة المحدّدة لها شرعاً ، فلا تجب على الزوج السابق ، هذا مجمع عليه بين فقهاء الأمة والإسلام ، ولا أجد فيه خلافاً لأحد منهم . ثم المعقول أن النفقة منوطة بالعدة كما علم بالأدلة والبراهين السالفة ؛ فلا تجب النفقة بعد العدة على الزوج السابق ؛ لأنها تابعة للعدة [14] ، والتابع تابع للمتبوع ، وهو العدة هنا ، فلما مضت العدة ، فلم يبق المتبوع ، والتابع يسقط بسقوط المتبوع [15] .
وإن قال أحد بإيجاب النفقة للمطلقة على الزوج السابق بعد أن تنقضي عدتها المحددة شرعاً ، إلى أن تموت أو تنكح زوجاً آخر ، فلا عبرة بقوله عند وجود النص ؛ إذ لا عبرة بالقياس الذي هو يخالف النص ، وقد ذكره الفقهاء كقاعدة بهذا الخصوص : ” لا عبرة بالقياس في مقابلة النص أو الإجماع بالاتفاق ” [16] . وقال أحمد محمد عثمان الزرقاء المتوفى 1357هـ : القاعدة الثالثة عشرة ( المادة / 14 ) ” لا مساغ للاجتهاد في مورد النص ” [17] . وقال الدكتور محمد صدقي الغزي في شرح هذه القاعدة : ” لا يجوز الاجتهاد باستعمال الرأي والقياس لإيجاد حكم لمسألة ما قد ورد فيها نص شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع صحيح ” [18] ، ويؤيد تلك القاعدة قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) [ الأحزاب : 36 ] ، وحديث مُعَاذٍ حين بعثه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اليَمَنِ ، فَقَالَ : ” كَيْفَ تَقْضِي ؟ ” ، فَقَالَ : أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ، قَالَ : ” فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ ” ، قَالَ : فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ” فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ ” ، قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي ، قَالَ : ” الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِما يُرضي رسولَ الله ” [19] .
ثم لا شك أن المطلقة التي مضت عدتها ، لها مشاكل متنوعة تحتاج إلى تقديم حلولها ، وهي تواجه الأضرار والمشاق المتختلفة تمس الحاجة إلى إزالتها ، هذا أمر مسلّم ، ولكن لإزالتها نظاماً مقرراً في الإسلام ، والإسلام لم يقرر لإزالتها أن تلقى مؤونة نفقتها على الزوج السابق ما دامت حيّة أو إلى أن تنكح زوجاً غيره ، وهذا من قبل إضرار الزوج .
( للحديث صلة )
* عميد كلية البحث والتحقيق بجامعة العلوم ، غرها – غجرات .
[1] راجع : أحكام القرآن للجصاص : 3/615 .
[2] مرقاة المفاتيح ، باب العدة : 6/444 .
[3] بدائع الصنائع : 3/210 .
[4] صحيح البخاري ، الطلاق ، بَابُ قِصَّةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ ، رقم : 5323 ، سنن الترمذي ، الطلاق ، باب في المطلقة ثلاثا لاَ سُكْنَى لَهَا وَلاَ نَفَقَةَ ، رقم : 1180 .
[5] بدائع الصنائع : 3/210 ، أحكام القرآن للجصاص : 3/615 .
[6] أحكام القرآن للجصاص : 3/615 .
[7] بدائع الصنائع : 3/210 .
[8] سنن الترمذي ، الطلاق ، باب في المطلقة ثلاثا لاَ سُكْنَى لَهَا وَلاَ نَفَقَةَ ، رقم : 1180 .
[9] مرقاة المفاتيح : باب العدة : 6/444 .
[10] أخرجه مسلم في الطلاق ، بَابُ الْمُطَلَّقَةِ ثَلاثاً لا نَفَقَةَ لَهَا ، برقم : 48 – 1480 .
[11] الكوكب الدري : 2/264 .
[12] راجع صحيح ابن حبان أيضاً ، رقم : 4254 .
[13] أحكام القرآن للجصاص : 3/615 ، المرقاة : باب العدة : 6/444 .
[14] رد المحتار : 5/333 .
[15] الأشباه والنظائر لابن نجيم المصري : 1/120 .
[16] شرح التلويح على التوضيح للتفتازاني المتوفى 793هـ : 2/163 .
[17] شرح القواعد الفقهية ، ص 147 ، راجع أيضاً : المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسن البصري : 2/175 ، كشف الأسرار للبخاري الحنفي : 3/66 .
[18] الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية : 1/383 .
[19] أخرجه أبو داود في الأقضية ، باب اجتهاد الرأي في القضاء ، برقم : 3592 ، والترمذي في الأحكام ، باب في القاضي كيف ، برقم : 1327 ، 1328 ، وقال : هَذَا حَدِيثٌ ، لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ عِنْدِي بِمُتَّصِلٍ . قال البخاري في تاريخه : الحارث بن عمرو عن أصحاب معاذ ، وعنه أبو عون لا يصح ، ولا يعرف إلا بهذا ( نصب الراية للزيلعي : 4/63 ، التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر : 4/337 ، ط : قرطبة – مصر ) . وقال ابن الجوزي في ” العلل المتناهية ( 2/273 ) ” : هذا الحديث لا يصح . . . إنما ثبوته لا يعرف ؛ لأن الحارث بن عمرو مجهول ، وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يُعرفون ” . وقال ابن الملقن : ضعيف بإجماع أهل النقل ( البدر المنير : 9/534 ) . وقال الحافظ ابن حجر : وقد أخرجه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه من رواية عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل ، فلو كان الإسناد إلى عبد الرحمن ثابتاً ، لكان كافياً في صحة الحديث ” ( التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر : 4/337 ، ط : قرطبة – مصر ) . وقد تحدث أبو بكر ابن العربي في شرح الترمذي مفصلاً ورجح صحته ( حاشية على جامع الأصول : 10/177 ) ، وصححه ابن القيم ( إعلام الموقعين : 1/155 ) ، وأطلق جماعة من الفقهاء ، كالباقلاني ، وأبي الطيب وإمام الحرمين ، لشهرته وتلقي العلماء له بالقبول ، وله شاهد صحيح الإسناد لكنه موقوف ( تخريج المختصر لابن حجر : 1/119 ) . وممن صححه من المتأخرين العلامة زاهد الكوثري في مقالاته ( حاشية على جامع الأصول : 1/177 ) .
وقد قال غير واحد من أئمة النقد في الجرح والتعديل : هذا الحديث لا يثبت ولا يصح من جهة الإسناد ؛ لأن الراوي ” الحارث بن عمرو ” مجهول ، فيكفي لتعريفه وتعديله رواية شعبة عنه ؛ لأن بعض أئمة الحديث قالوا : ” إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به ” ( إعلام الموقعين لابن القيم : 1/155 ) . ثم شعبة لا يكاد يروي إلا عن ثقة ( المتكلمون في الرجل للسخاوي ، ص 88 ) . ومن كان مثل هذا من أئمة الحديث يُفهم منه توثيق ضمني ممن روى عنه ، كما جزم به الأصوليون ، كالآمدي وابن الحاجب وغيرهما ( راجع : لسان الميزان : 1/15 ، وسير أعلام النبلاء : 14/87 ، وفتح المغيث : 1/314 ، وتدريب الراوي : 1/289 ) ، كما يُفهم من صنيع الشيخين في صحيحهما في حق الرواة المجهولين الذين أخرجا لهم الأحاديث فيهما ، ولم ينص على توثيقهم أحد من أئمة الجرح والتعديل الآخرين ( راجع : ميزان الاعتدال : 1/556 ، 3/426 ) .
وأما قولهم : ” أصحاب معاذ من أهل حمص لا يُعرفون ” ، فذلك لا يضر الحديث ؛ لأنه يدل على شهرة الحديث ، وأن الذي حدّث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم ، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سُمّي ، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى ؟ ولا يُعرف في أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح ؛ بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم ، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك ( إعلام الموقعين : 1/155 ) قال أبو بكر ابن العربي : لا يعد أحد من أصحاب معاذ مجهولاً ، ويجوز أن يكون في الخبر إسقاط الأسماء عن جماعة ، ولا يدخله ذلك في حيز الجهالة ، إنما يدخل في المجهولات إذا كان واحداً ، فيقال : حدثني رجل ، حدثني إنسان ، ولا يكون الرجل للرجل صاحباً حتى يكون له به اختصاص ، فكيف وقد زيد تعريفاً بهم أن أضيفوا إلى بلد ، – وهو حمص – وقد خرج البخاري الذي شرط الصحة في حديث عروة البارقي : سمعت الحي يتحدثون عن عروة ولم يكن ذلك الحديث في جملة المجهولات ( عبد القادر الأرنؤوط : حاشية على جامع الأصول : 10/177 ) .
قال أبو بكر الخطيب : وقيل : إن عبادة بن نُسيّ رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ ، وهذا الإسناد متصل ، ورجاله معروفون بالثقة ، على أن أهل العلم قد نقلوه واحتجوا به ، فوقفنا بذلك على صحته عندهم ، كما وقفنا على صحة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لا وصية لوارث ” . . . وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ، ولكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غَنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها ، فكذلك حديث معاذٍ لما احتجوا به جميعاً غَنوا عن طلب الإسناد له ( إعلام الموقعين : 1/115 ، الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي : 1/189 – 190 ، التلخيص الحبير لابن الحجر : 4/447 ) .
والفقهاء يعتبرون صحة الحديث إذا لم يكن في سنده كذاب بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الشريعة ( تدريب الراوي للسيوطي : 1/48 ) . ومن المعلوم أن حديث معاذ رضي الله عنه لم يكن فيه أحد من رواته كذاباً ، ولا متّهما بالكذب بل لا مجروحاً كما علم آنفاً ، ومعناه لا يخالف كتاب الله ولا سنة رسوله الأخرى ولا أصول الشريعة ؛ بل يوافقها حقيقةً ، كما نص عليه ابن الجوزي بقوله : ” إن كان معناه صحيحاً ” ( العلل المتنتاهية : 2/273 ) . وبهذا الاعتبار أيضاً حديث معاذ رضي الله عنه مقبول يعمل به .
ثم حديث معاذ رضي الله عنه مؤيد بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقريره وآثار الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن بعده من الأئمة المجتهدين ، فكلهم اجتهدوا وقاسوا ، وعلى رأسهم جماعة من الصحابة منهم : أبوبكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعلى بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، ومعاذ ، وأبو موسي الأشعري رضي الله عنهم وعائشة رضي الله عنها ( راجع : السنن الكبرى : 10/196 ، 197 ، ونصب الراية : 4/64 ) . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتاب الله إلى أبي موسي الأشعري رضي الله عنه : ” الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا يُخْتَلَجُ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْكَ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ ” ( أخرجه الدارقطني في سننه في الأقضية والأحكام ، برقم : 4471 ، والبيهقي في السنن الكبرى في آداب القاضي ، برقم : 20347 ) .