قصة صاحب الجنتين ومآل الجهود الإنسانية

بيان الحق والباطل في حوارات القرآن الكريم نموذجاً
يوليو 28, 2023
الغرب في ضوء التحليل النفسي
ديسمبر 11, 2023
بيان الحق والباطل في حوارات القرآن الكريم نموذجاً
يوليو 28, 2023
الغرب في ضوء التحليل النفسي
ديسمبر 11, 2023

الدعوة الإسلامية :

قصة صاحب الجنتين ومآل الجهود الإنسانية

الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله

تعريب : محمد فرمان الندوي

( وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً . كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً . وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً . وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً . وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّى لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً ) …… إلى آخر القصة ( سورة الكهف : 32 – 44 ) .

موقفان متناقضان :

ذكر الله تعالى في هذه الآيات تفاهة الدنيا وضآلتها بقصة صاحب الجنتين ، كما قارن بين موقفين : موقف الناس نحو الحياة ، وموقف الإسلام منها ، فهناك أناس يؤمنون بالله وأحكامه وتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلهم وجهة خاصة للعيش في هذه الدنيا ، وأناس من أهل الدنيا ، يكسبون الأموال ، وينالون القوة والغلبة في الدنيا ، فلهم أيضاً وجهة أخرى ، فالقضية هي قضية وجهات النظر ، وربما يمكن أن موقف أهل الدنيا هذا لا يكون ذا عناية واهتمام ظاهراً ، لكن الواقع الذي يختفي وراء الظاهر ينشق منه الطرق ، وتنشأ منه جميع النتائج ، فكانوا يتصورون أن جهودهم هي الأساس في هذه الدنيا ، فالدنيا وجميع مساعيهم في هذه الدنيا هي الوجهة الأساسية لأهل الدنيا ، فإنهم يعتقدون أن كل ما نراه أمامنا ، وما نملك من إمكانيات لا نحصل على أكثر منه ، وماذا نفعل سواه ؟ فإن سبب وجهتهم أنه لا توجد لديهم فكرة لعقيدة الآخرة ، وإذا وُجدت فهي ضئيلة وضعيفة .

هكذا شأن المسلمين في العصر الحاضر أيضاً أنه تتضاءل فيهم عقيدة الآخرة ، فلا تؤثر فيهم هذه الفكرة الضعيفة كما تؤثر فكرة المؤمن بالله ، الواثق بنصر الله تعالى ، فالذين لا يحملون فكرة الآخرة هم أحرار وطلقاء ، وهم يظنون أن وجودهم في الدنيا بضاعة لهم ، فإذا لم يعيشوا فيها بأحسن ما يمكن ظلوا فاشلين في جميع شعب الحياة ، هذه هي خلاصة حياتهم .

إن أهل الدنيا حينما ينظرون إلى المساعي المبذولة والجهود الحثيثة من وجهة دنيوية ، فيرون أن لها فضلاً كبيراً في إنجاح عمل وإنجازه ، ولها نتائج سارة ، ويظنون أن جميع مباهج الدنيا وحضارتها المعاصرة التي نراها بأم أعيننا هي نتيجة جهودهم ، فينخدع الإنسان منها ، وظل يعتقد أنه ليس هناك شيئ ، لا نستطيع أن ننجزه ، بل عندنا إمكانيات لإنجاز كل عمل من الأعمال ، نحن نصعد إلى القمر ، ونحن نحاول في الوصول إلى المريخ ، ونسمع الكلام من مسافات شاسعة ، ونصل من مكان إلى مكان آخر بكل سرعة ، وننجز جميع أعمالنا وغاياتنا على أحسن صورة ، وكل ذلك يتم بجهدنا وسعينا ، فإذا سعينا وبذلنا جهدنا واستخدمنا لذلك عقولنا وأجسامنا وجدنا نتائج سارةً وفقاً لها ، فليس عندنا أي غاية ، فغايتنا هذه الدنيا ، وكل ما يوجد في هذه الدنيا من مساعينا وجهودنا .

مآل الجهد الإنساني :

ضرب الله تعالى في القرآن الكريم أمثلةً ، تكشف الجهد الإنساني ومآله ، وفي موضع من القرآن ذكر الله تعالى قصة قارون الذي كان يملك كنوزاً مكتنزةً ، فإنه لم يأت بها من مكان هديةً أو هبةً ، بل يمكن أنه قد اشتغل بالتجارة ، واستعمل فيها فطانته وسعيه وجهده ، فكسب هذا المال الكثير ، وهذا واقع ملموس أن الإنسان ينال جزاء عمله وكسبه حسب ما أنفق فيه جهده ، فكان قارون أغنى الناس بجهده وحكمته ، بحيث كان الناس يغتبطون به ، وقد ذكر القرآن الكريم هذا الأمر بكل وضوح ، فمرةً قال أهل الإيمان نظراً إلى أمواله : ( يا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِىَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) ( القصص : 79 ) . لكن قارون كان يعتقد أن هذه الأموال حصلت له من علم عنده ، وإن مواهبه وصلاحياته هي التي وفرت له هذه الكنوز ، كأن الله تعالى نظر إليها ، فمنحه إياها ، وقد تجلى هذا الواقع من أن الناس حينما قالوا لإنفاق هذا المال في جهات الخير أجاب من غير تردد : إنما أوتيته على علم عندي ، فالذين لا يبذلون جهوداً يواجهون مشكلات ومصايب ، فلماذا ننفق عليهم أموالنا ، ولماذا لا يسعون في كسبها ؟ كما أن إنسان اليوم يقول للفقراء : لماذا لا تكسبون ؟ لا نمنحكم حبة خردل ، اذهبوا ، واعملوا ، كذلك قال قارون أيضاً : لماذا نوزع أموالنا في الناس ؟ وقد كسبتها بكد اليمين وعرق الجبين .

هذا الموقف الدنيوي يختلف تماماً عن الموقف الإلهي الذي أكرمه الله به المؤمنين ، موقف الإسلام من النعم هو أن ما نملك من أسباب وأمتعة قد أعطانا الله إياها ، وقد أثمر الله جهودنا ، فوجدنا نتائجها ، فإذا لم يكن هناك قبول وتوفيق من الله لم نملك شيئاً .

النظام الدنيوي خاضع للأسباب :

ربط الله تعالى النظام الدنيوي بالأسباب ، والله عز وجل قدَّر الأسباب والوسائل ، فالأسباب تؤثر وتعمل حسبما أودع الله فيها تأثيراً وقوةً ، وهي خاضعة لأوامر الله تعالى ، فليس معنى ذلك أن الأسباب قد انقطعت صلتها من الله تعالى ، بل معنى انقطاع الصلة أنك أعطيت أحداً شيئاً ، وقلت له : خذه ، واستعمل كيفما تشاء ، فانقطعت صلتك من ذلك الشيئ ، ومما لا شك فيه أن الله قصر نظام الدنيا على الأسباب ، وهذا واقع كذلك أن جميع الأسباب خاضعة لأمره ، فإنه لم يكن غافلاً عن الأسباب التي ربط بها الناس ، وإذا لم يكن نظام الدنيا على الأسباب ، فلا يخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزوات ، بل جعل الله له الفتح المبين بدون خروجه إلى الأعداء ، وهزم الله الأعداء ، وقذف في قلوبهم الرعب ، بحيث لا يقدمون على القتال ، لكن الله جعل كل شيئ تابعاً للأسباب ، وأمره بأن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في سبيل الله ، ويقدم تضحيات النفس والمال ، فينال الفتح له كما ينال الآخرون ، وهذا الجانب لا يكون الفرق فيه بين الإنسان وبين أعدائه ، فكل من جدَّ وجد ، لكن الله تعالى لم يترك الإنسان مستنداً على الأسباب ، بل لا يزال يراقبه ، وينظر نيته ، فينصره ، وقد أرسل ملائكته في ساحة الحرب ، الذين هزموا الأعداء ، وكان ذلك لأن الله رأى المؤمنين قد استوفوا جميع شروط الحرب الظاهرة ، إنهم استعملوا الأسباب ، لكنهم توكلوا على الله ، وظلوا يعتقدون أن الوسائل والأسباب لا تغني عن الله شيئاً ، ونحن نختارها بأمر من الله ، فلا ننجح ولا نتغلب على الأعداء إذا شاء الله ، فلما رأى الله تعالى درجةً رفيعةً من إيمانهم وثقتهم به نصرهم نصراً قوياً .

هذا هو نظام الدنيا أن الإنسان إذا توكل على الله نصره الله تعالى ، وتسبب لنصره إلى الوسائل والأسباب ، وهي تابعة لله ، ولا تحمل تأثيراً ما في داخلها ، فالأدوية التي نستعملها في الأمراض ليست مؤثرةً بذاتها ، بل أودع الله فيها تأثيراً ، وإذا شاء الله سلب منها هذا التأثير ، كذلك أعمال الإنسان تتم بإذن الله وتوفيقه ، ولا يوفق الله كل إنسان ، بل أولاً ينظر إلى نيته وإنابته إلى الله ، ثم يوفقه وينصره .

عقيدة صاحب الجنتين نحو الآخرة :

ضرب الله في آيات سورة الكهف مثال رجلين : كان أحدهما قليل المال والبضاعة ، وكان الآخر يملك جنتين من نخيل وأعناب ، يجري خلالهما نهر ، وفيهما من كل نوع من الثمرات والفواكه ، وكان هذا الرجل ذا عقارات وضيعات ، مرة التقى كلاهما ، وبدأا يتحاوران ، فقال صاحب المال : إني أملك هذا وهذا من الأموال ، ثم قال بكل فخر واعتزاز : إذا طاف عليه طائف من السماء ، فلا يضر ذلك شيئاً ، لأني أملك جنتين كبيرتين ، وبذلت لهما كل ما في وسعي ، ثم قال : إن ما تقول عن الآخرة ضرب من الخيال ، وإذا كانت لها حقيقة فيكون عندي أكثر وأكثر من الدنيا ، ونكسب المال هناك أيضاً بجهدنا وسعينا ، وكان أسلوب صاحب الجنتين أسلوباً ساخراً من نعم الله تعالى ، وينشأ هذا الأسلوب في كثير من الناس بسوء خطأهم ، ويصاب به أحياناً المسلمون ، بضعف عقيدة الآخرة ، وكانت عقيدة صاحب الجنتين ضعيفةً ، فاختار مثل هذا الأسلوب ، وقال له صاحبه وهو يحاوره : لماذا تقول مثل هذه الكلمة التي هي رفض وإنكار لقدرة الله وعظمته ، بل هي كفر صريح ، أي أنت تظن أن هذه النعم من كسب يمينك ، وليس فضلاً من الله ، فظنك هذا ظن خاطئ ، لا بد لكل إنسان أن يعتقد أن كل ما يملك من مال ومتاع من الله تعالى ، وإنه وإن كان قد بذل فيه جهده ، لكنه تم ذلك بأمر من الله وإذنه .

مؤاخذة من الله على الأسلوب المسيئ :

إن غطرسة هذا الرجل وعربدته لم تمهله للتدبر في نصيحة صاحبه ، فكان نتيجة ذلك أن الله أراه عاقبة ذلك ، فذهب إلى جنتيه ، وقد أصيبتا بحسبان من السماء فأصبحتا صعيداً زلقاً ، ثم أحس هذا الرجل بخطأه ، وقال : يا ليتني لم أشرك بربي أحداً ، قال الله تعالى :    ( وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً . هُنَالِكَ ٱلْوَلاَيَةُ لِلَّهِ ٱلْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً ) ( الكهف : 43 – 44 ) .

مشيئة الله تعالى :

اتضح منه أنه إذا لم تكن مشيئة الله تعالى لأحد لا يمكنه أن ينصر أحداً ، وإذا لم يحالفه التوفيق الإلهي فلا يثمر سعيه ولا جهده ، والواقع أن الله هو يجزي جزاءاً حسناً ويثمر له نتائج وثمرات ، فكل ما ينال الإنسان من منافع ، وما يحصل له من فوائد يكون وراءه توفيق الله تعالى ، فليس الأمر كذلك أنا سعينا فحصلت له نتائج ، إن الظاهر يدل على ذلك ، والأسباب تشير إليه ، لكن في باطن الأمر يستمر أمر الله ويوافق ظاهره .

يمكننا أن نفهم هذا الواقع أيضاً بأمثلة في الحياة الدنيا ، مثلاً : هناك موظف كبير يشرف على أعمال إدارية ، ويعمل تحت إشرافه عمال ، وهم طوع إشارة ورهين أمر للموظف الكبير ، لكن الناس ينظرون إلى العمال ، فيظنون أنهم هم المالكون ، ولا ينظرون إلى أن هناك موظفاً كبيراً يراقبهم ويشرف عليهم ، فإن جميع العمال مكبون على أعمالهم بإيعاز من الموظف الكبير وإشارة منه .

أحياناً نُدرك هذا الواقع في الحياة الدنيا ، لكن عقيدتنا عن الآخرة ضعيفة ، فلا ننسب كل شيئ إلى الله تعالى ، بل نعتبر أنفسنا أحق وأجدر بهذا العمل ، ويا للأسف أن المسلمين قد نشأت فيهم هذه الفكرة ، وكثيراً ما نريد أن ننجز أمراً ، لكن ننسى نسبته إلى الله تعالى ، نظراً إلى هذا أمرنا الله تعالى بأن  نقول جملةً : إن شاء الله إذا أردنا إنجاز شيئ في المستقبل ، أي إذا أراد الله تم ذلك العمل ، ولا تملكون أنتم شيئاً عن المستقبل ، إذا أماتكم الله فماذا تفعلون ، أو سلب الله منكم قوتكم فماذا تفعلون ؟ وأي قدرة لكم في المستقبل ؟ فاعلموا أن كل ما تفعلون تفعلون بقدرة الله ومشيئته ، فلا تغتروا بأن الله أعطاكم هذه القوة الكاملة التي تستطيعون بها أن تنجزوا كل أمر ما تريدون ، بل قوتكم محدودة وضعيفة أمام قوة الله تعالى ، وهي تحت أمره وإشارته ، إذا شاء الله سلبها منكم .

نسبة إلهية :

نسب الله تعالى في هذه القصة كل شيئ إلى ذاته : جعلنا لأحدهما جنتين ، وحففناهما بنخل ، وجعلنا بينهما زرعاً ، وفجرنا خلالهما نهراً ، استعمل الله في هذه الجمل ضمير المتكلم ، أعطيناه الجنتين ، وأحطنا بهما بالنخيل ، وجعلنا خلالهما زروعاً وغراساً للأشجار والنباتات المختلفة ، فأثمرت هاتان الجنتان ثماراً كثيرةً ، ولم تنقصا منها شيئاً ، ثم من الله عليه أنه أجرى له نهراً خلال جنتين ، ليسهل إيصال الماء إليهما ، وتخضرا اخضراراً .

( للحديث صلة )