قصة سيدنا إبراهيم ، وتمثيلها في الحج

قصة أصحاب الكهف وما لها من نتائج وعبر
مايو 28, 2023
قصة أصحاب الكهف وما لها من نتائج وعبر
يونيو 23, 2023
قصة أصحاب الكهف وما لها من نتائج وعبر
مايو 28, 2023
قصة أصحاب الكهف وما لها من نتائج وعبر
يونيو 23, 2023

قصة سيدنا إبراهيم ، وتمثيلها في الحج

الإمام الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي ( رحمه الله )

من أوضح ملامح الحج المسيطرة على جميع أعماله ومناسكه هو الحبُّ ، والهيام ، والتفاني ، وإعطاء زمام الجسم والفكر للقلب والعاطفة ، وتقليد العشاق والمحبين ، وإمامهم وزعيمهم إبراهيم الخليل ، فحيناً طواف الحب والهيام حول البيت الحرام ، وحيناً تقبيل الحجر الأسود والاستلام ، وحيناً سعي بين غايتين ، وتقليد ومحاكاة للأم الحنون ، حتى في تؤدتها ووقارها ، وفي جريها وهرولتها ، ثم قصد ( لمنى ) في يوم معيَّن هو يوم التروية ، ثم قصد إلى ( عرفات ) ووقوف بساحتها وعرصاتها ، ودعاء وابتهال ، ثم بيتوتة في المزدلفة ، وعودة إلى ( منى ) وحلق ونحر ، اقتداءً بسنة إبراهيم ومحمد عليهما السلام .

وأوضح ملامح هذا الحب والتقليد رمي الجمرات ، الذي ليس إلا تمثيلاً لما صدر عن الخليل ، وفي تقليد أعمال المحبين تأثير غريب في انتقال عدوى الحب ، واتصال بالمركز الكهربائي ؛ الذي يجري منه التيار ، ووسيلة إلى جلب رحمة الله ، وشمول عنايته ، وليس لمن ذاق حلاوة الحب منظر ألذ من هذا المنظر ، الذي يجتمع فيه المحبون الطائعون لتمثيل هذه القصة التي حدثت قبل آلاف من السنين ، ولكن الله أفاض عليها الخلود ، وطلب من جميع المحبين المخلصين إعادتها ، وتمثيلها ، إخزاءً للشيطان ، وتقويةً للإيمان ، واقتداءً بخليل الرحمن .

قصة إبراهيم في القرآن ، وصلتها بالبلد الأمين :

وُلد إبراهيم في بيت سادنٍ من أعظم سدنة البلد ، ينحت الأصنام ويبيعها ، ويقوم على الهيكل الكبير ، ويتصل به عن طريق العقيدة ، وعن طريق الحرفة ، وما أعظم المشكلة ، وما أعقد العقدة ، إذا التقت العقيدة بالحرفة ، واجتمعت العاطفة الدينية مع المصلحة المالية ، ولا شيئ في هذا الجو القاتم يثير الإيمان والحنان ، ويبعث على الثورة على هذه الخرافة الوثنية ، ولكنه قلب سليم هُيئ للنبوة ، وأعد لتكوين العالم الجديد ، ( وَلَقَد آتينا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَلِمِينَ ) [ الأنبياء : 51 ] إنه يبدأ ثورته بمرحلة ربما لا تصل إليها ، ولا تتناولها أعظم ثورة ، إنها مرحلة الحياة المنزلية ، ومرحلة البيت الذي وُلد فيه الإنسان ، وفُرض عليه أن يعيش فيه ، ويقع كل ما يحكيه القرآن وأسلوبه المعجز المبين من تحطيم إبراهيم للأصنام ، وغضب عُبادها وحيرتهم وعيهم ، وانتقامهم من الفتى الثائر ، واشتعال النار وتحولها برداً وسلاماً على إبراهيم ، ومناظرته البليغة أمام الملك الجبار [1] .

وتنتهي هذه الثورة إلى أن يضيق عليه البلد ، ويغضب عليه المجتمع ، وتطارده الحكومة ، فلا يحفل بكل ذلك ، ولا يحسب له حساباً ، كأنه شيئ كان منه على ميعاد ، وكأنه نتيجة طبيعية ، قد توقعها ، فيخرج من بلده قرير العين ، رضي النفس ؛ إذ نجا برأس ماله ، وهو الإيمان ، فيهيم في أرض الله ، وهو فريد لا يعرف له ثانياً ، والبلاد كلُّها نسخة واحدة من الوثنية والخرافة ، وعبادة الأوثان والشهوات ، حتى يهبط مصر ، فيكون هدف الامتحان والامتهان ، ينجو بصاحبته التي يطمع فيها الملك ، فيفلتان من يده ، ويأويان إلى أرض الشام ، فيغرس فيها الغرس الكريم ، ويلقي فيها عصا التسيار ، ويقوم فيها بدعوته إلى رفض الأوثان ، وإلى عبادة الله وحده .

وتطيب له الإقامة في الشام حيث يتوفر الخصب ، ويتسع الرزق ويتجلى جمال الطبيعة ، فلا يلبث أن يؤمر بالتوجه إلى أرض تقابل الشام في الخصب والماء ، وإبراهيم لا يعرف لنفسه حقاً ، ولا يرتبط بأرض أو وطن ، إنما هو طوع إشارة ، ورهن أمر ، يعتبر العالم بلده ، والسلالة البشرية أسرته ، يؤمر بأن ينتقل مع زوجته ” هاجر ” ومولودها الصغير الرضيع .

وهنا في وادٍ ضيّقٍ ، أحاطت به الجبال الجرداء من كل جانب وقسا فيه الجو ، وفقد الماء ، وغاب الأنيس ، وأوحش المكان يؤمر بترك زوجته المرأة الضعيفة العاجزة ، والمولود الصغير توكلاً على الله ، وامتثالاً لأمره ، واستسلاماً لقضائه ، فلا جزع ، ولا فزع ، ولا إشفاق ، ولا حذر ، ولا سآمة ، ولا ضجر ، ولا خور في العزيمة ، ولا ريبة في الوعد ، تمرد على التجارب ، ومعاكسة للطبيعة ، وانقطاع عن الأسباب ، وإيمان بالغيب ، وثقة بالله حين تسوء الظنون ، وتزل الأقدام .

ويعرض المحذور والأمر الواقع ، فيغلب على الطفل العطش ، ويشتد بالأم الظمأ ، ولا مطمع هناك في ثمادٍ [2] تروي غلتهما ، وهنا تجيش في المرأة عاطفة الأمومة والحنان ، والإشفاق على المولود الصغير ، فتخرج باحثةً عن الماء ، أو عن سيارة تحمل الماء ، وتعدو مضطربةً ، والهةً بين جبلين ، يغلب عليها الحنين والإشفاق على الولد ، فترجع لتطمئن إلى وجوده وحياته ، يغلب عليها الخوف على الحياة فتغدو مسرعةً تبحث عن ماء ، أو عن أثر إنسان ، وهي بين اضطراب توحيه الطبيعة ؛ وسكينة يوحيها الإيمان والثقة ، وتعرف – وهي زوج نبي وأم نبي – أنَّ البحث عن الأسباب لا ينافي الإيمان والثقة بالله ، فهي مضطربةٌ في غير يأس ، ومؤمنة في غير تعطل وتواكل ، منظر لم تشهد السماء مثله ، وجاشت الرحمة الإلهية ، وتفجّر الماء بطريق معجز ، فكان ماءً خالداً مباركاً لا ينضب ، ولا يغيض ، قد وسع الخلق ، ووسع الأجيال ، وكان ماءً لكل عصر ، ولكل أمة ، فيه غذاء وشفاء ، وفيه بركة وأجر .

وخلّد الله هذه الحركة الاضطرارية ، التي ظهرت من امرأة مؤمنة مخلصة ، فجعلها حركةً اختياريةً ، يكلف بها أعظم العقلاء ، وأعظم الفلاسفة والنبغاء ، وأعظم الملوك والعظماء في كل عصر ، وفي كل جيل ، فلا يتم نسكهم إلا بالسعي بين هذين الجبلين اللذين هما ميقات كل محب ، وغاية كل مطيع ، والسعي خير ممثل لموقف المسلم في هذا العالم ، فهو يجمع بين العقل والعاطفة ، وبين الحس والعقيدة ، إنه يستعين بالعقل ، ويستخدمه في مصالح حياته ، ولكنه ينقاد أحياناً للعاطفة ؛ التي هي أعمق من العقل ، إنَّه يعيش في عالم قد حفَّ بالشهوات ، ومليئ بالزخارف والمظاهر ، لكنه يمرُّ بينها ، كالساعي بين الصفا والمروة ، لا يعرج على شيئ ، ولا يتقيد بشيئ ، إنما غايته وهمه ما يستقبله ، يعتبر حياته أشواطاً محدودةً ، يقطعها إطاعةً لربه ؛ واقتداءً بسلفه ، لا يمنعه إيمانه عن البحث والسعي ، ولا يمنعه سعيه عن التوكل على الله والثقة به ، حركة قيمتها وروحها ورسالتها ” الحبُّ ” و ” الانقياد ” .

ويكبر الولد ، ويبلغ السن التي تقوى فيها عاطفة الأبوة ، فيرافق والده ، ويسعى معه ، ويشعر الوالد العظيم الذي قويت فيه العاطفة الإنسانية ، وطبع على الحب والحنان بميل شديد إلى ولده ، وفلذة كبده ، وهنا المشكلة ، فإنَّ قلبه هو القلب السليم الذي خص بالمحبة الإلهية ، إنه ليس كقلب كل إنسان ، إنَّه قلب ” خليل الرحمن ” والمحبة لا تعرف شريكاً ، ولا تحتمل عديلاً ، فكيف وهي المحبة الإلهية ، وهنا يتلقى إبراهيم عليه السلام إشارةً بذبح الولد الحبيب ، ورؤيا الأنبياء وحي ، وتتكرر الإشارة ، فعرف أنه أمر يراد ، وأنه جد ، فيختبر ولده ، لأنه شيئ لا يتم إلا بموافقته ، وجلادته ، فيجد عنده غاية البر ، وغاية النجابة ، وغاية التضحية والتسليم للأمر الإلهي ، وهو نبي بن نبي ، وجد نبي ،      ( قَالَ يٰبُنَىَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ ) [ الصافات : 102 ] .

وهنا يقع ما لا يصدقه العقل ، فيخرج الوالد مع ولده النجيب الحبيب ، ذلك ليذبح ولده ، وهذا يطيع ربه ووالده ، وكلاهما مطيع للرب ، مستسلم لأمره ، وعرض لهما الشيطان – ذلك الذي تكفل بالضلال ، ومنع الإنسان السعادة – فحاول صرفهما عن التنفيذ ، وزيَّن لهما العصيان ، ورغبهما في الحياة ، فاستعصيا عليه ، وأبيا إلا أن ينفذا أمر الله ، وهنا يقع ما تضطرب له الملائكة ، ويفزع له الإنس والجن ، فينتصب الولد للذبح ، ويضع الوالد السكين على حلقومه يحاول جهده للذبح ، ووقع ما أراده الله ، فلم يكن المقصود ذبح إسماعيل ، إنما كان المقصود ذبح الحب الذي ينازع الحب الإلهي ، ويقاسمه ، وقد ذبح بوضع السكين على الحلقوم ، إنما ولد إسماعيل ليعيش ، ويزدهر ، وينسل ، ويولد في ذريته آخر الأنبياء ، وسيدهم ، فكيف يذبح ، وكيف يموت ، قبل أن يتحقق ما أراده الله ؟! وفدى الله إسماعيل بكبش من الجنة يذبح مكانه ، وجعلها سنةً باقيةً في عقبه وأتباعه ، يذبحون أيام النحر ، ويجددون ذكرى هذا الذبح العظيم ، ويضحون في سبيل الله ما يشترونه بحرِّ أموالهم :

( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى ٱلآخِرِينَ . سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ) [ الصافات : 103 – 109 ] .

وخلّد الله تمثيل قصة الشيطان مع إبراهيم عليه السلام ، وجعل رجمه بالحصى في الأمكنة التي اعترض فيها لإبراهيم ينهاه ويصرفه عملاً يتكرر كل عام ، وقصةً تمثل في أفضل الأيام إثارةً لبغض الشيطان ، وإظهاراً للتمرد عليه والعصيان ، وهي حركة يشعر فيها المؤمن بلذة ، وحياة وعاطفة ؛ إذا صح فيه الإيمان، واستقام فيه الفهم ، وكمل الانقياد للأوامر ، ويعرف أنه في صراع دائم مع قوى الشر ، ومعركة مع إبليس وجنوده ، وأنه ليس له نصيب منه إلا الرجم والهوان .

ويدور الزمان دورته ، وإسماعيل الصغير شاب قوي ، أكرمه الله بالنبوة والسيادة ، وقد أثمرت دعوة إبراهيم ، وتوسعت وانتشرت ، وكان لا بد لها من مركز تأوي إليه ، وتعتمد عليه ، وكثرت القصور للملوك ، والمعابد للطاغوت يطاع فيها الهوى ، ويعبد فيها الشيطان ، وليس لله على أرضه مسجد يخلص لعبادته ، ويطهر لقاصديه وعابديه ، فيؤمر إبراهيم بعد ما قام الدين على قدمه وساقه ، وظهرت نواة الأمة المسلمة الحنيفية لبناء بيت الله تعالى ، يكون مثابةً للناس وأمناً ومعبداً لله وحده ، فيتعاون الوالد والولد في بناء هذا البيت البسيط المتواضع في مظهره ، العميق الرفيع في عظمته ، فينقلان الحجارة ، ويرفعان البناء ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ) [ البقرة : 127 – 128 ] .

وقام البيت على أساس من إيمان وإخلاص ليس لهما نظير في الدنيا ، وتقبله الله بقبول حسن ، وقضى ببقائه ، وكساه الجمال والجلال ، وعطف إليه القلوب والنفوس ، وجعله مهوى الأفئدة ومغناطيس القلوب ، يود الناس لو يسعون إليه على رؤوسهم ، ويصلون إليه ببذل مهجهم ونفوسهم ، مع تجرده عن كل ما يستهوي القلوب ، ويستلفت الأنظار ، ووقوعه في بلد بعيد عن جمال الطبيعة وبهرج المدنية ، ولما كان ذلك نودي إبراهيم عليه السلام : ( وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ . لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ ) [ الحج : 27 – 29 ] .


[1] اقرأ الآيات من 51 إلى 70 من سورة الأنبياء .

[2] الثمد : الماء القليل يتجمع في الشتاء ، وينضب في الصيف ، أو الحفرة يجتمع فيها ماء  المطر ، جمعه : ثماد .

التوجيه الإسلامي :

قصة سيدنا إبراهيم ، وتمثيلها في الحج

الإمام الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي ( رحمه الله )

من أوضح ملامح الحج المسيطرة على جميع أعماله ومناسكه هو الحبُّ ، والهيام ، والتفاني ، وإعطاء زمام الجسم والفكر للقلب والعاطفة ، وتقليد العشاق والمحبين ، وإمامهم وزعيمهم إبراهيم الخليل ، فحيناً طواف الحب والهيام حول البيت الحرام ، وحيناً تقبيل الحجر الأسود والاستلام ، وحيناً سعي بين غايتين ، وتقليد ومحاكاة للأم الحنون ، حتى في تؤدتها ووقارها ، وفي جريها وهرولتها ، ثم قصد ( لمنى ) في يوم معيَّن هو يوم التروية ، ثم قصد إلى ( عرفات ) ووقوف بساحتها وعرصاتها ، ودعاء وابتهال ، ثم بيتوتة في المزدلفة ، وعودة إلى ( منى ) وحلق ونحر ، اقتداءً بسنة إبراهيم ومحمد عليهما السلام .

وأوضح ملامح هذا الحب والتقليد رمي الجمرات ، الذي ليس إلا تمثيلاً لما صدر عن الخليل ، وفي تقليد أعمال المحبين تأثير غريب في انتقال عدوى الحب ، واتصال بالمركز الكهربائي ؛ الذي يجري منه التيار ، ووسيلة إلى جلب رحمة الله ، وشمول عنايته ، وليس لمن ذاق حلاوة الحب منظر ألذ من هذا المنظر ، الذي يجتمع فيه المحبون الطائعون لتمثيل هذه القصة التي حدثت قبل آلاف من السنين ، ولكن الله أفاض عليها الخلود ، وطلب من جميع المحبين المخلصين إعادتها ، وتمثيلها ، إخزاءً للشيطان ، وتقويةً للإيمان ، واقتداءً بخليل الرحمن .

قصة إبراهيم في القرآن ، وصلتها بالبلد الأمين :

وُلد إبراهيم في بيت سادنٍ من أعظم سدنة البلد ، ينحت الأصنام ويبيعها ، ويقوم على الهيكل الكبير ، ويتصل به عن طريق العقيدة ، وعن طريق الحرفة ، وما أعظم المشكلة ، وما أعقد العقدة ، إذا التقت العقيدة بالحرفة ، واجتمعت العاطفة الدينية مع المصلحة المالية ، ولا شيئ في هذا الجو القاتم يثير الإيمان والحنان ، ويبعث على الثورة على هذه الخرافة الوثنية ، ولكنه قلب سليم هُيئ للنبوة ، وأعد لتكوين العالم الجديد ، ( وَلَقَد آتينا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَلِمِينَ ) [ الأنبياء : 51 ] إنه يبدأ ثورته بمرحلة ربما لا تصل إليها ، ولا تتناولها أعظم ثورة ، إنها مرحلة الحياة المنزلية ، ومرحلة البيت الذي وُلد فيه الإنسان ، وفُرض عليه أن يعيش فيه ، ويقع كل ما يحكيه القرآن وأسلوبه المعجز المبين من تحطيم إبراهيم للأصنام ، وغضب عُبادها وحيرتهم وعيهم ، وانتقامهم من الفتى الثائر ، واشتعال النار وتحولها برداً وسلاماً على إبراهيم ، ومناظرته البليغة أمام الملك الجبار [1] .

وتنتهي هذه الثورة إلى أن يضيق عليه البلد ، ويغضب عليه المجتمع ، وتطارده الحكومة ، فلا يحفل بكل ذلك ، ولا يحسب له حساباً ، كأنه شيئ كان منه على ميعاد ، وكأنه نتيجة طبيعية ، قد توقعها ، فيخرج من بلده قرير العين ، رضي النفس ؛ إذ نجا برأس ماله ، وهو الإيمان ، فيهيم في أرض الله ، وهو فريد لا يعرف له ثانياً ، والبلاد كلُّها نسخة واحدة من الوثنية والخرافة ، وعبادة الأوثان والشهوات ، حتى يهبط مصر ، فيكون هدف الامتحان والامتهان ، ينجو بصاحبته التي يطمع فيها الملك ، فيفلتان من يده ، ويأويان إلى أرض الشام ، فيغرس فيها الغرس الكريم ، ويلقي فيها عصا التسيار ، ويقوم فيها بدعوته إلى رفض الأوثان ، وإلى عبادة الله وحده .

وتطيب له الإقامة في الشام حيث يتوفر الخصب ، ويتسع الرزق ويتجلى جمال الطبيعة ، فلا يلبث أن يؤمر بالتوجه إلى أرض تقابل الشام في الخصب والماء ، وإبراهيم لا يعرف لنفسه حقاً ، ولا يرتبط بأرض أو وطن ، إنما هو طوع إشارة ، ورهن أمر ، يعتبر العالم بلده ، والسلالة البشرية أسرته ، يؤمر بأن ينتقل مع زوجته ” هاجر ” ومولودها الصغير الرضيع .

وهنا في وادٍ ضيّقٍ ، أحاطت به الجبال الجرداء من كل جانب وقسا فيه الجو ، وفقد الماء ، وغاب الأنيس ، وأوحش المكان يؤمر بترك زوجته المرأة الضعيفة العاجزة ، والمولود الصغير توكلاً على الله ، وامتثالاً لأمره ، واستسلاماً لقضائه ، فلا جزع ، ولا فزع ، ولا إشفاق ، ولا حذر ، ولا سآمة ، ولا ضجر ، ولا خور في العزيمة ، ولا ريبة في الوعد ، تمرد على التجارب ، ومعاكسة للطبيعة ، وانقطاع عن الأسباب ، وإيمان بالغيب ، وثقة بالله حين تسوء الظنون ، وتزل الأقدام .

ويعرض المحذور والأمر الواقع ، فيغلب على الطفل العطش ، ويشتد بالأم الظمأ ، ولا مطمع هناك في ثمادٍ [2] تروي غلتهما ، وهنا تجيش في المرأة عاطفة الأمومة والحنان ، والإشفاق على المولود الصغير ، فتخرج باحثةً عن الماء ، أو عن سيارة تحمل الماء ، وتعدو مضطربةً ، والهةً بين جبلين ، يغلب عليها الحنين والإشفاق على الولد ، فترجع لتطمئن إلى وجوده وحياته ، يغلب عليها الخوف على الحياة فتغدو مسرعةً تبحث عن ماء ، أو عن أثر إنسان ، وهي بين اضطراب توحيه الطبيعة ؛ وسكينة يوحيها الإيمان والثقة ، وتعرف – وهي زوج نبي وأم نبي – أنَّ البحث عن الأسباب لا ينافي الإيمان والثقة بالله ، فهي مضطربةٌ في غير يأس ، ومؤمنة في غير تعطل وتواكل ، منظر لم تشهد السماء مثله ، وجاشت الرحمة الإلهية ، وتفجّر الماء بطريق معجز ، فكان ماءً خالداً مباركاً لا ينضب ، ولا يغيض ، قد وسع الخلق ، ووسع الأجيال ، وكان ماءً لكل عصر ، ولكل أمة ، فيه غذاء وشفاء ، وفيه بركة وأجر .

وخلّد الله هذه الحركة الاضطرارية ، التي ظهرت من امرأة مؤمنة مخلصة ، فجعلها حركةً اختياريةً ، يكلف بها أعظم العقلاء ، وأعظم الفلاسفة والنبغاء ، وأعظم الملوك والعظماء في كل عصر ، وفي كل جيل ، فلا يتم نسكهم إلا بالسعي بين هذين الجبلين اللذين هما ميقات كل محب ، وغاية كل مطيع ، والسعي خير ممثل لموقف المسلم في هذا العالم ، فهو يجمع بين العقل والعاطفة ، وبين الحس والعقيدة ، إنه يستعين بالعقل ، ويستخدمه في مصالح حياته ، ولكنه ينقاد أحياناً للعاطفة ؛ التي هي أعمق من العقل ، إنَّه يعيش في عالم قد حفَّ بالشهوات ، ومليئ بالزخارف والمظاهر ، لكنه يمرُّ بينها ، كالساعي بين الصفا والمروة ، لا يعرج على شيئ ، ولا يتقيد بشيئ ، إنما غايته وهمه ما يستقبله ، يعتبر حياته أشواطاً محدودةً ، يقطعها إطاعةً لربه ؛ واقتداءً بسلفه ، لا يمنعه إيمانه عن البحث والسعي ، ولا يمنعه سعيه عن التوكل على الله والثقة به ، حركة قيمتها وروحها ورسالتها ” الحبُّ ” و ” الانقياد ” .

ويكبر الولد ، ويبلغ السن التي تقوى فيها عاطفة الأبوة ، فيرافق والده ، ويسعى معه ، ويشعر الوالد العظيم الذي قويت فيه العاطفة الإنسانية ، وطبع على الحب والحنان بميل شديد إلى ولده ، وفلذة كبده ، وهنا المشكلة ، فإنَّ قلبه هو القلب السليم الذي خص بالمحبة الإلهية ، إنه ليس كقلب كل إنسان ، إنَّه قلب ” خليل الرحمن ” والمحبة لا تعرف شريكاً ، ولا تحتمل عديلاً ، فكيف وهي المحبة الإلهية ، وهنا يتلقى إبراهيم عليه السلام إشارةً بذبح الولد الحبيب ، ورؤيا الأنبياء وحي ، وتتكرر الإشارة ، فعرف أنه أمر يراد ، وأنه جد ، فيختبر ولده ، لأنه شيئ لا يتم إلا بموافقته ، وجلادته ، فيجد عنده غاية البر ، وغاية النجابة ، وغاية التضحية والتسليم للأمر الإلهي ، وهو نبي بن نبي ، وجد نبي ،      ( قَالَ يٰبُنَىَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ ) [ الصافات : 102 ] .

وهنا يقع ما لا يصدقه العقل ، فيخرج الوالد مع ولده النجيب الحبيب ، ذلك ليذبح ولده ، وهذا يطيع ربه ووالده ، وكلاهما مطيع للرب ، مستسلم لأمره ، وعرض لهما الشيطان – ذلك الذي تكفل بالضلال ، ومنع الإنسان السعادة – فحاول صرفهما عن التنفيذ ، وزيَّن لهما العصيان ، ورغبهما في الحياة ، فاستعصيا عليه ، وأبيا إلا أن ينفذا أمر الله ، وهنا يقع ما تضطرب له الملائكة ، ويفزع له الإنس والجن ، فينتصب الولد للذبح ، ويضع الوالد السكين على حلقومه يحاول جهده للذبح ، ووقع ما أراده الله ، فلم يكن المقصود ذبح إسماعيل ، إنما كان المقصود ذبح الحب الذي ينازع الحب الإلهي ، ويقاسمه ، وقد ذبح بوضع السكين على الحلقوم ، إنما ولد إسماعيل ليعيش ، ويزدهر ، وينسل ، ويولد في ذريته آخر الأنبياء ، وسيدهم ، فكيف يذبح ، وكيف يموت ، قبل أن يتحقق ما أراده الله ؟! وفدى الله إسماعيل بكبش من الجنة يذبح مكانه ، وجعلها سنةً باقيةً في عقبه وأتباعه ، يذبحون أيام النحر ، ويجددون ذكرى هذا الذبح العظيم ، ويضحون في سبيل الله ما يشترونه بحرِّ أموالهم :

( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى ٱلآخِرِينَ . سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ) [ الصافات : 103 – 109 ] .

وخلّد الله تمثيل قصة الشيطان مع إبراهيم عليه السلام ، وجعل رجمه بالحصى في الأمكنة التي اعترض فيها لإبراهيم ينهاه ويصرفه عملاً يتكرر كل عام ، وقصةً تمثل في أفضل الأيام إثارةً لبغض الشيطان ، وإظهاراً للتمرد عليه والعصيان ، وهي حركة يشعر فيها المؤمن بلذة ، وحياة وعاطفة ؛ إذا صح فيه الإيمان، واستقام فيه الفهم ، وكمل الانقياد للأوامر ، ويعرف أنه في صراع دائم مع قوى الشر ، ومعركة مع إبليس وجنوده ، وأنه ليس له نصيب منه إلا الرجم والهوان .

ويدور الزمان دورته ، وإسماعيل الصغير شاب قوي ، أكرمه الله بالنبوة والسيادة ، وقد أثمرت دعوة إبراهيم ، وتوسعت وانتشرت ، وكان لا بد لها من مركز تأوي إليه ، وتعتمد عليه ، وكثرت القصور للملوك ، والمعابد للطاغوت يطاع فيها الهوى ، ويعبد فيها الشيطان ، وليس لله على أرضه مسجد يخلص لعبادته ، ويطهر لقاصديه وعابديه ، فيؤمر إبراهيم بعد ما قام الدين على قدمه وساقه ، وظهرت نواة الأمة المسلمة الحنيفية لبناء بيت الله تعالى ، يكون مثابةً للناس وأمناً ومعبداً لله وحده ، فيتعاون الوالد والولد في بناء هذا البيت البسيط المتواضع في مظهره ، العميق الرفيع في عظمته ، فينقلان الحجارة ، ويرفعان البناء ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ) [ البقرة : 127 – 128 ] .

وقام البيت على أساس من إيمان وإخلاص ليس لهما نظير في الدنيا ، وتقبله الله بقبول حسن ، وقضى ببقائه ، وكساه الجمال والجلال ، وعطف إليه القلوب والنفوس ، وجعله مهوى الأفئدة ومغناطيس القلوب ، يود الناس لو يسعون إليه على رؤوسهم ، ويصلون إليه ببذل مهجهم ونفوسهم ، مع تجرده عن كل ما يستهوي القلوب ، ويستلفت الأنظار ، ووقوعه في بلد بعيد عن جمال الطبيعة وبهرج المدنية ، ولما كان ذلك نودي إبراهيم عليه السلام : ( وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ . لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ ) [ الحج : 27 – 29 ] .


[1] اقرأ الآيات من 51 إلى 70 من سورة الأنبياء .

[2] الثمد : الماء القليل يتجمع في الشتاء ، وينضب في الصيف ، أو الحفرة يجتمع فيها ماء  المطر ، جمعه : ثماد .