48/ سنةً في ظلال تربية الإمام العلامة أبي الحسن الندوي ( الحلقة الثانية )
مارس 15, 2022تزكية النفوس من أهم مقاصدالبعثة المحمدية
أبريل 20, 2022في مسيرة الحياة :
48/ سنةً
في ظلال تربية الإمام العلامة أبي الحسن الندوي
( الحلقة الثانية )
بقلم : سعيد الأعظمي الندوي
تعريب : الأخ معصوم علي الندوي
فكرة ندوة العلماء وتأسيسها :
كان تأسيس ندوة العلماء في الهند منحةً من الله لمسلمى هذه البلاد أفاءها عليهم عن طريق نخبة من العلماء المخلصين ، الذين ألهموا فكرتها ، وذلك في ظروف عصيبة جداً في عام 1310هـ حينما كانت مطامع الاستعمار الإنجليزي قد صبَّت جام غضبها على المسلمين في الهند ، لأنهم كانوا حرباً ضد الإنجليز ، ولما تأكد الاستعمار الإنجليزي بعد ما جال وصال كثيراً أن المسلمين لا يمكن صرفهم عن عداوتهم ما داموا متمسكين بحبل الإسلام ، عزم على قطع صلتهم عن هذا الدين من وراء ستار ، وبحكمة خفية لا يتفطن إليها أحد .
ولكي يحقق هذا الغرض الخبيث أشرف على توزيع المسلمين بين طائفتين منفصلتين تستبد كل واحدة منهما بآرائها ونظرياتها ، طائفة العلماء التي لا علاقة لها بأي شأن من شئون الدولة ولا بالسياسة والعلوم التي ليست لها صلة مباشرة بالدين ، وطائفة المثقفين بالثقافة العصرية التي ترى إلى العلماء بنظرة ملؤها ازدراء ، وتعتبرهم أئمة المساجد ، وأحلاس المدارس ، ولا تسمح لهم بالخروج عن نطاقهم المحدود .
نجح الاستعمار الغربي في الاحتيال لهذا التقسيم المشين وتحبيبه إلى المسلمين ، وهكذا استطاع إضعاف فكرة الإسلام من كلا الجانبين : الدين والدولة جميعاً ، وفعلاً سبب ذلك ضعف المسلمين ، وبعث فيهم يأساً من قبل دينهم ، وأقنع كل واحد من الفريقين على حظه من الحياة ، فهذا خُلق للدين ، وذلك جاء للدنيا فقط ، ولا لقاء بينهما في أي حال .
هذه هي المكيدة التي اكتيد بها المسلمون في هذه البلاد ، ولولا أن رجالاً من أهل العلم والبصيرة وأولي الغيرة الدينية قاموا ضد مكايد الأعداء لكانت قد ابتلعت المسلمين دينياً وأخلاقياً ، ولم يكن لهم أي ذاتية إسلامية ، بل وكانوا انذابوا في ملح اللادينية ، وانجرفوا مع تيار الحيرة والضلال .
ولسد هذه الفجوة التي أحدثها أعداء الإسلام ، ولقمع الفتنة التي نسجوا خيوطها في الظلام ، قام نخبة من العلماء الأعلام وعلى رأسهم العالم الرباني الكبير الشيخ فضل رحمن الكنج مرادآبادي الذي أعد تلميذه النابغة الشيخ محمد علي المونغيري لمقاومة هذه الفتنة التي كانت تهدد كيان المسلمين في هذه البلاد وبالتالي في جميع العالم الإسلامي .
ومن ثم نالت فكرة ندوة العلماء اهتمام الجميع ، وهي فكرة جامعة شاملة تستهدف إثارة الطريق الواضح المستقيم الذي يضمن سعادتي الدنيا والآخرة ، ويجمع بين الوسائل والغايات ، والعقل والقلب والروح والمادة على السواء ، مصداقاً لقوله تعالى : ( رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) .
تأسست ندوة العلماء على هذا المبدء الجامع ، على يد المصلح الكبير الشيخ محمد علي المونغيري في عام 1310هـ .
ونالت فكرتها ترحيباً واسعاً من جميع أوساط العلم والدين ، غير أنها واجهت بعض المعارضة من بعض الجهات ، ولكن كان مصدرها التسرع في الحكم أوعدم الإحاطة بالأهداف والأسس التي قامت عليها .
وقيض الله لندوة العلماء رجالاً عاملين مخلصين ، وفي مقدمتهم العلامة شبلي النعماني الذي وقف نفسه لخدمة أهداف الندوة وأشرف على مهمة التعليم والتربية التي كانت من أهم أهداف الندوة وأشرف غاياتها ، ولكن هذا الغرض الشريف لم يكن ليتحقق ما لم تكن هناك دار علوم أوجامعة تقوم بهذه المهمة .
كان تأسيس ندوة العلماء تجربةً فريدةً وناجحةً في مجال العلم والتربية والدعوة إلى الله تعالى ، حيث عرفها الناس كحركة علمية ودعوية تتصف بالوسطية .
أسباب تأسيس ندوة العلماء :
الأهداف التي تنشط لها حركة ندوة العلماء هي على ما يأتي :
- الإصلاح الأساسي في المقررات للعلوم الإسلامية وإعدادها وفق مقتضيات العصر .
- إعداد جماعة من العلماء المطلعين على الأوضاع الراهنة وتقلباتها بالمعرفة الواسعة الشاملة للكتاب والسنة .
- نشر روح الوحدة والأخوة الإسلامية ، وإنهاء الخلافات الداخلية بين المسلمين .
- نشر التعاليم الإسلامية والقيم الدينية ، وخاصةً لتوعية غير المسلمين بمحاسنها وفضائلها .
تدريس اللغة العربية وآدابها :
رفعت ندوة العلماء من أول يومها لواء اللغة العربية ، وأصرت على تعليمها كلغة حية نابضة بالحيوية والروح ، ولتحقيق هذا الهدف السامي أعد مسئولوها مقرراً جامعاً وشاملاً لا يساعد الطالب على الحوار والكتابة فحسب ، بل يجعله يشعر بحرارتها ومرارتها ، ويتذوق بذوقها ، ويلمس بوجدانها ، ويعيش في بيئتها ، وهذه حقيقة لأن البراعة في أي لغة لا تحصل حتى يكون للمتعلم همة عالية ، وإرادة قوية لإفناء الذات في سبيلها ، واللغة العربية لها مكانة مرموقة بين اللغات ، لذلك يتطلب لنيل مراده الجدَّ والاجتهاد ، وبهذا المفهوم العالمي الشامل ركز ندوة العلماء عنايتها البالغة على اكتساب اللغة العربية ، وكان النظام التعليمي السائد في الهند يجعل الطالب يفهم العبارات العربية ، لكنه لا يجعله يستخدمها بكل سهولة ، ويتحدث بها بكل طلاقة في شعب الحياة المختلفة .
قام رجال ندوة العلماء وجعلوا منهجاً جديداً للتعليم الديني ، وجعلوا اللغة العربية هي لغة تدريس المواد العلمية وخاصةً أنقذوا الأدب العربي من ذلك الحصار الضيق المظلم الذي كان محبوساً فيه بين ” المقامات الحريرية ” و ” نفحة اليمن والعرب ” و ” ديوان المتنبي ” . إنهم أخرجوه لأول مرة إلى الجو الواسع حيث تنفس الصعداء ، ونال مجالاً واسعاً جداً للتطور والتقدم والتوسع ، فخرج من أساليب السجع والقوافي والتصنيع المشين إلى أسلوب طبعي أصيل ، ودخل في جميع أصناف العلم والفن ، وعرف الناس أن الأدب العربي ليس كما كانوا يزعمون محصوراً بين عدة كتب لا يمكن أن يتجاوزها إلى غيرها من الشئون الحيوية والثقافات المتنوعة ، وأن اللغة العربية أصعب اللغات لا يمكن التكلم بها والتعبير بها عن ذوات الصدور .
ولكن أخرجتها ندوة العلماء من نطاقها الضيق المظلم وجعلها جزءً من الحياة نابضةً وعُملةً في سوق عكاظ حاليةً ، وأنجبت رجالاً كانوا نسيج وحدهم في خطابة اللغة العربية وكتابتها ، وكان لعلماء العرب فضل كبير وسهم كثير الذين دعوا لتشكيل ذوق صالح للأدب والبلاغة ، ومن بينهم : الشيخ محمد الطيب المكي ، والشيخ خليل العرب ، الشيخ محمد تقي الدين الهلالي المراكشي ، والشيخ محمد العربي المغربي وغيرهم ، نشأ الجيل الذي أنتجه هؤلاء الأساتذة العرب ، وسلك مسلكهم ، وتابع خططهم في ترويج اللغة العربية وآدابها في عموم الهند .
أول خطبة سمعتها في ندوة العلماء :
عاد الإمام الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي من رحلته الدعوية للشرق الأوسط ، فتشرفت بلقائه وزيارته بعد صلاة العصر في جامعة ندوة العلماء ، وأخبرت باسمي ، فسُرّ به ، ودعاني إلى مركز الدعوة والتبليغ بأمين آباد ، حيث كان ينزل فيه ، فبدأت أذهب إلى أمين آباد للاستفادة منه ، وكانت له دروس للقرآن كل يوم الأحد بعد صلاة المغرب ، فأحضر هذه الدروس ، أستمعها وأستفيد منها ، وبعد انتهاء الدرس أذهب إلى غرفته ، وأجلس في زاوية منه ، وأستفيد منه كذلك ، وكان في مجالسه بهذه الأيام ذكر رحلته الدعوية للشرق الأوسط ، وقد قدّم شيخنا الندوي في هذه الرحلة فكرة ندوة العلماء أمام شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت ( 1893م – 1963م ) فأعجب بها ، واعترف بكل أريحية قائلاً بأننا لم نسمع عن هذه الجامعية بين الدنيا والدين .
فأول خطبة سمعتها في دار العلوم لندوة العلماء هي خطبة شيخنا الندوي في ذي القعدة 1371هـ ، المصادف 1952م بمناسبة بدء العام الدراسي في دار العلوم أمام أساتذتها وطلابها ، فإنه نصح الطلبة بنصائح غالية وركز على الإخلاص والاختصاص ، كما قدم أمامهم جوانب مشرقةً للشخصيات الإسلامية ومآثرها العلمية مع عناية خاصة باغتنام الأوقات ، وقد التحق بدار العلوم هذا العام طالبان فقط ، فأبدى سروره وإعجابه بهما .
إنشاء المنتدى الأدبي :
وقع بصري مرةً على خبر نشرته صحيفة ” قومي آواز ” اليومية بلكناؤ ، وكنت طالباً في دارالعلوم لندوة العلماء آنذاك أن برنامج النادي العربي سينعقد في مكتب ” قومي آواز ” ، فاشتقت الحضور فيه ، وقد سمعت أن رئيس تحرير الصحيفة الأستاذ حياة الله الأنصاري قد سافر إلى مصر ، واستفاد هناك من جهابذة العربية ، ثم عاد بعواطف عربية قراءةً وكتابةً ونطقاً وحواراً ، وقد أنشأ جمعيةً باسم النادي العربي ، ومن أعضائها الأستاذ عبد الله عباس الندوي ، والأستاذ السيد محمود الحسن الندوي ، والأستاذ السيد واضح رشيد الحسني الندوي والدكتور محمد راشد الأعظمي الندوي وعلماء وأدباء آخرون من مدينة لكناؤ ، فحضرت أحد برامجه ، وقد قدم الأستاذ السيد عبد الله عباس الندوي مقالته حول ” سائق الركشا ” ، وقدم الآخرون مقالاتهم ، ولكن هذه الجمعية كانت نتيجة عاطفة موقتة ، فلم تستمر نشاطاتها ، ولم تعقد برامجها من بعد ، كأن الصمت قد خيّم على نشاطاتها اللغة ، إذ فاجأني أخي الأستاذ محمد الحسني بأنه أنشأ جمعيةً أخرى باسم : المنتدى الأدبي ، وأنا عضو في هذا المنتدى ، حينما سمعت هذه البشرى ، فكأنني وجدت ضالتي المفقودة .
وكان المنتدى الأدبي نقطة بداية لنشاطاتنا العلمية والأدبية ، فتوثقت به العلاقات بين أعضائه ، وكان حافزاً على قراءة الصحف والجرائد العربية ، والمؤلفات الأدبية ، فجعلت تُعقد حفلات المنتدى الأدبي أسبوعياً وتقدم فيها المقالات الأدبية والعلمية .
ومما يجدر بالذكر أن الأستاذ الشيخ السيد أبا بكر الحسني ( رئيس القسم العربي بالإذاعة الهندية سابقاً ) زميل شيخنا الندوي رأى شغفنا بالعربية واهتمامنا بها ، فأمرنا بكتابة المقالات القصيرة للنشر من الإذاعة ، فكتبنا عدة مقالات بالعربية ، وبعد ما التحق الأستاذ السيد واضح رشيد الحسني الندوي بالإذاعة كلفنا كذلك لكتابة المقالات العربية ، وكان من فضل الله أني انتخبت في السنة الثانية من التخصص في الأدب العربي أميناً عاماً للنادي العربي بدار العلوم لندوة العلماء ، فكان ذلك مجالاً فسيحاً للتمرن على التكلم والكتابة باللغة العربية ، فكنا نعقد كل أسبوع حفلات النادي العربي ، ونبدي فيها انطباعاتنا وعواطفنا باللغة العربية .
في قسم التكميل بدار العلوم :
وفي عام 1954م التحقت بالسنة الدراسية المعروفة بتكميل الأدب حسب مشورة شيخنا الندوي ، فإنه أعد فهرساً للدراسة والمطالعة غير المنهجية ، ومن هذه الكتب البيان والتبيين ، والكامل للمبرد ، وخزانة الأدب للبغدادي والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني والبداية والنهاية ، ومؤلفات تاريخ الأدب العربي ، وفيض الخاطر ورسائل الرافعي وعبقريات عباس محمود العقاد ، وللتمرين والإنشاء العربي رنات المثالث والمثاني ، وحياتي لأحمد أمين ، والعبرات والنظرات للمنفلوطي ، وعلى هامش السيرة لطه حسين ، ومرآة الإسلام ، ومن الكتب العلمية والفكرية ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، والعدالة الاجتماعية لسيد قطب ، و ” الإنسان بين الإسلام والمادية ” لمحمد قطب ، ومن كتب التفسير : تفسير القرآن لابن كثير ، وفي ظلال القرآن لسيد قطب ومن كتب اللغة : السلسلة الكاملة لكامل الكيلاني .
وفي هذا العام كانت لي بعض حصص دراسية : أربع حصص أولاً ، ثم خمس أو ست حصص ، وكان من زملائنا في تكميل الأدب الأستاذ وجيه الدين الندوي ، وكنا في غرفة واحدة في جنب جمعية الإصلاح برواق شبلي ، قضينا هذا العام بجهد وجد ، وكان الأستاذ وجيه الدين الندوي رجلاً صالحاً ، مجتهداً في القراءة ، وكانت له أيضاً حصص تعليمية ، عُين أستاذاً للعلوم الشرعية بدار العلوم ، وكان مشرفاً على الرواق ، انتقل إلى رحمة الله عام 1979م ، وكان من مديرية هردوئي ، بأترابراديش ، وفي عام 1955م انتخبت أستاذاً للغة العربية بدار العلوم ، وكان راتبي آنذاك خمسين روبية هندية ، وفي هذا العام عين المقرئ محمد إسلام أستاذاً بقسم التجويد ، كانت لي كل يوم ست حصص ، وكنت مشرفاً على الرواق الصغير ، وكان المشرف الأعلى لشئون الطلاب الأستاذ عبد الماجد الندوي ولكنه انتقل إلى إذاعة جدة بالقسم الشرقي وأصبح مؤظفاً في قسم الإذاعة الخاصة باللغة الأردوية ، وهناك توفي في عام 1985م .
وفاة جدي رحمه الله :
انتقل إلى رحمة الله جدي العلامة الشيخ محمد صابر بن محمد أحمد شيخ العلوم الإسلامية في جامعة حيدرآباد ومدرسة خاصة بحكامها في مايو عام 1955م ، فأحزنني هذا النبأ كثيراً ، وقد كان يعتني بتعليمي وتربيتي ، وكانت نتيجة دعائه أنني التحقت بالتعليم العربي ، وتيسرت لي سبل الحصول عليه ، وكان جدي عالماً وشيخاً ربانياً من سكان بختاور غنج بمديرية مئو ، أترابراديش الهند ، ومن أجدادنا الشيخ ملا محمد جيون الذي ينتهي نسبياً إلى الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري ، ومن مشائخ أسرتنا الشيخ عصمة الله الذي خاض في تفنيد حركة القاديانية مع العالم الكبير الشيخ محمد علي المونغيري مؤسس ندوة العلماء ، وقد كتب العلامة السيد عبد الحي الحسني رحمة الله عليه ترجمته في كتابه نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر ، الذي طبع حديثاً باسم ” الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام ” .
وبعد وفاة جدي رحمه الله أرسل شيخنا الندوي رسالة تعزية إلى والدي الجليل المحدث محمد أيوب الأعظمي رحمه الله ، وقد زار شيخنا الندوي جدي رحمه الله في رحلته الدعوية إلى مئو وأعظم جراه ، في مقره هناك عام 1954م ، وكان جدي رحمه الله آنذاك طريح الفراش ، فعاده وشرف منزلي بقدومه الميمون . ( يتبع )