شتان بين مؤتمر ومؤتمر
أغسطس 3, 2024صور وأوضاع :
فأما الزبد فيذهب جفاء
محمد فرمان الندوي
رأت الدنيا في مدة قريبة كثيراً من الحوادث والوقائع ، وأنواعاً من الكوارث والنكبات ، بل كل يوم تطلع فيه الشمس نرى عجباً في دنيا العلوم والتكنالوجيا ، ونشاهد استغراباً في عالم الفكر والعمل ، وكل حادث يحدث في أي قارة من القارات السبع يُسمع له صدى ، وترتج له بيئة في قارة أخرى ، إما ظاهراً ، وإما باطناً ، وهذه ظاهرة ملموسة أن بريق الحوادث ولمعانها أحياناً يبهر العيون ، ويخرس الألسن ، لكن سرعان ما ينكشف الغبار ، فيتضح أكان هناك فرس أو حمار .
الناس أتباع من غلب :
إن سياسة العالم المعاصرة التي يخوضها الخبراء المحنكون ، والقادة الدبلوماسيون تحمل تناقضات كثيرةً ، إنهم يبررون كل شيئ لمصالحهم ومنافعهم متى شاءوا ، لكنهم يفرضون الحظر على من يعاندهم أو يعارضهم ، كأن سياستهم أصحبت مصداقاً لهذا المثل السائر : ” الناس أتباع من غلب ” ، لكن التاريخ الإنساني يشهد أن أمثال هذه السياسات لا تستمر إلى أمد بعيد ، إنها تكون سراباً خادعاً أو حباباً زائلاً بين عشية وضحاها ، ثم تنكمش هذه السياسة ، وتنهزم ، وتُطوى في صفحات التاريخ ، فلا تبكي عليها عين ، ولا يرثي لها شاعر ، إن تحليلاً دقيقاً لهذه السياسات المستبدة يدل على أنها لا تحمل قيماً دينيةً ، ولا مثلاً إنسانيةً ، وهي تشكو خواءً روحياً ، وتفقد زاداً داخلياً ، وكانت طينتها قد اختمرت من الانتهازية والاستعباد ، وعُجنت طبيعتها باستغلال المواهب والقدرات ، فلا توجد فرصة من الفرص أو مناسبة من المناسبات إلا وتظهر فيها أنانياتها الشريرة ، ونزعاتها الخطيرة ، وهي تقضي على كل حرث ونسل ، وتأتي على كل رطب ويابس ، فلا يعيش إنسان في هذه السياسات مطمئن الفؤاد ، ولا هادئ البال ، ولا قرير العين ، ولا مثلوج القلب .
أرادوها جنةً ، فانقلبت جحيماً :
وقد ظهرت نماذج ذلك في عدة دول أوروبية وآسيوية ، جرت الانتخابات في المملكة المتحدة لعام 2024م ، وكان هناك حزبان : حزب العمال الذي كان يقوده كير ستارمر ، وحزب المحافظين الحاكم بقيادة رئيس الوزراء السابق ريشي سوناك ، وكان يُتوقع أن الحزب الحاكم سيفوز بأرقام قياسية ، وتلحق بحزب العمال خسارة فادحة ، لكن أسفرت النتائج عن عكس ذلك ، فيقول المحللون : إن ريشي سوناك قد استعجل عن إعلان عقد الانتخابات قبل الموعد ، وكانت الانتخابات الماضية في شهر ديسمبر عام 2019م ، لكن رئيس الوزراء السابق قد انزعج من غلاء الأسعار ، وخطة المغادرة العنصرية ، وصراعات داخلية في حزبه ، وفقد حزبه شعبيته العامة بأقضيته الجائرة ونظامه المستبد ، فكان يسوده كابوس فقدان الثقة الكاملة بحزبه ، ففض البرلمان قبل الوقت رغم اختلاف الزعماء المعارضين ، وقد جرت الانتخابات من 22/ مايو إلى 26/ يوليو 2024م ، وتم الإعلان عن النتائج في يوليو ، فكانت النتائج كما توقع الشعب نظراً إلى إجراءات ريشي سوناك التي صدرت خلال رئاسته للوزارة ، ونال الحزب المعارض من بين المقاعد الخمسين والست المائة نحو 411 مقعداً ، وكانت النتيجة فوزاً ساحقاً لحزب العمال ، وأدى كير ستارمر اليمين الدستورية ، وأصبح رئيس الوزراء الجديد لبريطانيا ، وليعلم أن ريشي سوناك يرجع أصله إلى الهند ذات الحضارات المتعددة الجوانب ، الممثلة للوحدة في التنوع والتعدد ، لكنه خرق هذا المنهج ، وظهرت زمن حكمته بوادر وأمور مجحفة ، وقد خاض في قضية غزة خالعاً لباس الحشمة والوقار ، وقام بتمويل إسرائيل بالأسلحة الفتاكة والقنابل المدمرة ، بل إنه زار إسرائيل مرات عديدةً جالساً في طائرة الأسلحة ، وهنّأ نتنياهو على مبادرته القاسية وضيّق الخناق في بلاده على المتظاهرين بغزة وأدخلهم في المعتقلات والسجون رغم أنهم من بني جلدته ، فاستاء منها الشعب ، وأنزله من سرير العرش ، فلا بقاء ولا دوام لنظام لا يقوم على صالح الإنسانية ، وخير البشرية .
كذلك كان الوضع في فرنسا التي جرت انتخاباتها في زمن قريب من بريطانيا ، فإن الحزب الحاكم لم يكتسح الفوز المرجو الذي كان يتوخاه رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون ، ولم يكن هناك موعد الانتخابات أيضاً ، وكانت هذه المدة تكتمل إلى عام 2027م ، لكنه أصدر قراراً رسمياً لإجراء الانتخابات من قبل ، واستعجل في حل البرلمان الذي كان يشتمل على 577 مقعداً ، ففي المرحلة الأولى لحق بحزب ماكرون فشل ذريع ، وكان حزبه في الدرجة الثالثة ، ولكن في المراحل الأخرى لم يتمكن كذلك من إحراز الأغلبية الساحقة ، فتكونت جبهة موحدة مكونة من أحزاب أخرى ، هنا ارتاع إيمانويل ماكرون من أشباح الأحزاب المساندة أنها إذا سحبت تأييدها انفض البرلمان ، ولا تستمر رئاسته ، الواقع أنه استعجل في إجراء الانتخابات ، فأصبحت غصةً في حلقه ، وحسرةً في قلبه ، وصدق الأديب الموهوب الأستاذ محمد الحسني رحمه الله في مقال له حينما قال : أرادوها جنةً ، فانقلبت جحيماً ، وقد سرى تيار اليأس والقنوط في اليهود ، وقالوا : لا مستقبل لليهود بعد هذه الانتخابات في فرنسا ، لأنهم ما رأوا من النتائج ما كانوا يرجون .
ليس كل بيضاء شحمةً :
جرت الانتخابات البرلمانية في الهند ، لعام 2024م من 19/ أبريل إلى 1/ يونيو ، وكان الحزب الحاكم يحكم الهند منذ مرحلتين مستمرتين ، وكان يدعي أنه سيفوز بأغلبية ساحقة في هذه المرحلة ، وينال أكثر من أربع مائة مقعد ، لكن نتائج الانتخابات حينما ظهرت ، فلم تتحقق له أمنيته المعسولة ، وانحصر الحزب في مائتين وأربعين ، واضطر إلى طلب المساندة والكُدية من الأحزاب الأخرى ، وقام المحللون بتحليل هذا الواقع المرير للحزب الحاكم ، فكان فحواه أنه قد ركز جل عنايته على القضايا الطائفية ، والأمور الهامشية ، ولم تعتن اعتناء ما إلى الفقر المدقع الذي استشرى في جميع شعب الحياة ، وأثار القضايا الطائفية في طول البلاد وعرضها ، ولم يتناول الشئون الأساسية التي تكون عموداً فقرياً للبلاد ، وأطبقت العيون عن الشباب المعاصر الذي يكون معقد آمال الناس في كل أمة ، فلم يجد المواطنون الراحة والاستقرار في هذه الحكومة ، وصوتوا في مراكز الاقتراع والتصويت ضد الحزب الحاكم ، فخابت مساعيه ، ولم ينجح في آماله التي كان يرجو تحقيقها منذ فترتين ، وعرف بنفسه أنه ” ليس كل بيضاء شحمةً ” .
” الحق أبلج والباطل لجلج ” :
وليست أوضاع بنجلاديش ببعيدة عنا ، فإنها كانت على فوهة بركان قبل أيام ، وقد حكمتها رئيسة وزرائها السابقة شيخ حسينة البالغة من العمر 76 عاماً ، وكانت هذه المرحلة لرئاستها مرحلةً خامسةً ، وكان نظام الحكومة في زمنها جائراً ومستبداً ، وكانت مثالاً للظلم والاضطهاد على العامة والخاصة ، فقد أصدرت أوامر لإعدام عدد من العلماء والقادة الإسلاميين ، وضغطت أصوات الأحزاب المعارضة وقامت بتكميم أفواهها ، حتى زجت بأعضائها في السجون ، وكان الأمر على هذا ، إذ ثارت احتجاجات الطلاب ومظاهراتهم في بنجلاديش نحو تخصيص مقاعد في الوظائف الرسمية ، وامتدت الصراعات بين الحكومة والطلاب من أول يوليو إلى بداية أغسطس 2024م ، واشتعلت نارها ، وتأججت حتى ذهب ضحيتها حوالي ألف طالب كما أفادت الأنباء ، فاضطرت الرئيسة السابقة إلى تقديم استقالتها إلى من يهمهم الأمر ، ولاذت بالفرار إلى الهند ، وهي ما زالت حتى الآن في منفى .
وأما ما يجري على أرض فلسطين من ظلم واعتداء ، وقتل وتشريد من إسرائيل الغاشمة ، منذ سنة كاملة ، فليس بخاف على العالم الإنساني ، فكما أن نتائج الانتخابات ظهرت خلاف ما تتصوره الحكومات ، كذلك بدأت نتائج هذا العدوان السافر المدعم من الدول الأوربية بالأسلحة المدمرة والقنابل السامة تظهر على أرض فلسطين ، ويلوذ الاحتلال بالفرار ، ولم يحقق أهدافه التي بدأ لأجلها هذه الحرب الضارية ، فأهلك الأطفال والنساء والمرضى ، ودمّر البيوت والمنازل وخرّب المشافي والمستوصفات إشباعاً لغرائزه ، ولا يزال يخسر في كل الجبهات ، لأنه لا يقوم على أسس ثابتة ، بل يستمر عمله على الغطرسة والكبر والخيلاء والغرور الذي مقته الله تعالى مقتاً شديداً ، فزواله وانهزامه وانسحابه عن أرض غزة وفلسطين عاجلاً بإذن الله كالشمس في رابعة النهار ، وقال الشاعر :
وما من يد إلا يد الله فوقها وما ظالم إلا سيُبلى بظالم
هذه بعض أمثلة على أرض الواقع ، يشاهدها كل من له بصير وبصيرة ، ولا تزال تتجلى أمثال هذه الأمثلة على مرأى ومسمع من الناس ، وهي برهان ساطع على أن لا قرار للباطل وإن كان مزركشاً ومزخرفاً ، فإنه غثاء كغثاء السيل ، وجفاء كجفاء الفيضان . فالحق أبلج والباطل لجلج . فليعتبر منها من يعتبر ، وينزجر منها من ينزجر ، وما يلقاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . قال الله تعالى : ( فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً ، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ ) [ الرعد : 17 ] .