فأما الزبد فيذهب جفاء

شتان بين مؤتمر ومؤتمر
أغسطس 3, 2024
أعمال المؤمنين والكافرين وعاقبتهم في الآخرة
نوفمبر 22, 2024
شتان بين مؤتمر ومؤتمر
أغسطس 3, 2024
أعمال المؤمنين والكافرين وعاقبتهم في الآخرة
نوفمبر 22, 2024

صور وأوضاع :

فأما الزبد فيذهب جفاء

محمد فرمان الندوي

رأت الدنيا في مدة قريبة كثيراً من الحوادث والوقائع ، وأنواعاً من الكوارث والنكبات ، بل كل يوم تطلع فيه الشمس نرى عجباً في دنيا العلوم والتكنالوجيا ، ونشاهد استغراباً في عالم الفكر والعمل ، وكل حادث يحدث في أي قارة من القارات السبع يُسمع له صدى ، وترتج له بيئة في قارة أخرى ، إما ظاهراً ، وإما باطناً ، وهذه ظاهرة ملموسة أن بريق الحوادث ولمعانها أحياناً يبهر العيون ، ويخرس الألسن ، لكن سرعان ما ينكشف الغبار ، فيتضح أكان هناك فرس أو حمار .

الناس أتباع من غلب :

إن سياسة العالم المعاصرة التي يخوضها الخبراء المحنكون ، والقادة الدبلوماسيون تحمل تناقضات كثيرةً ، إنهم يبررون كل شيئ لمصالحهم ومنافعهم متى شاءوا ، لكنهم يفرضون الحظر على من يعاندهم أو يعارضهم ، كأن سياستهم أصحبت مصداقاً لهذا المثل السائر :  ” الناس أتباع من غلب ” ، لكن التاريخ الإنساني يشهد أن أمثال هذه السياسات لا تستمر إلى أمد بعيد ، إنها تكون سراباً خادعاً أو حباباً زائلاً بين عشية وضحاها ، ثم تنكمش هذه السياسة ، وتنهزم ، وتُطوى في صفحات التاريخ ، فلا تبكي عليها عين ، ولا يرثي لها شاعر ، إن تحليلاً دقيقاً لهذه السياسات المستبدة يدل على أنها لا تحمل قيماً دينيةً ، ولا مثلاً إنسانيةً ، وهي تشكو خواءً روحياً ، وتفقد زاداً داخلياً ، وكانت طينتها قد اختمرت من الانتهازية والاستعباد ، وعُجنت طبيعتها باستغلال المواهب والقدرات ، فلا توجد فرصة من الفرص أو مناسبة من المناسبات إلا وتظهر فيها أنانياتها الشريرة ، ونزعاتها الخطيرة ، وهي تقضي على كل حرث ونسل ، وتأتي على كل رطب ويابس ، فلا يعيش إنسان في هذه السياسات مطمئن الفؤاد ، ولا هادئ البال ، ولا قرير العين ، ولا مثلوج القلب .

أرادوها جنةً ، فانقلبت جحيماً :

وقد ظهرت نماذج ذلك في عدة دول أوروبية وآسيوية ، جرت الانتخابات في المملكة المتحدة لعام 2024م ، وكان هناك حزبان : حزب العمال الذي كان يقوده كير ستارمر ، وحزب المحافظين الحاكم بقيادة رئيس الوزراء السابق ريشي سوناك ، وكان يُتوقع أن الحزب الحاكم سيفوز بأرقام قياسية ، وتلحق بحزب العمال خسارة فادحة ، لكن أسفرت النتائج عن عكس ذلك ، فيقول المحللون : إن ريشي سوناك قد استعجل عن إعلان عقد الانتخابات قبل الموعد ، وكانت الانتخابات الماضية في شهر ديسمبر عام 2019م ، لكن رئيس الوزراء السابق قد انزعج من غلاء الأسعار ، وخطة المغادرة العنصرية ، وصراعات داخلية في حزبه ، وفقد حزبه شعبيته العامة بأقضيته الجائرة ونظامه المستبد ، فكان يسوده كابوس فقدان الثقة الكاملة بحزبه ، ففض البرلمان قبل الوقت رغم اختلاف الزعماء المعارضين ، وقد جرت الانتخابات من 22/ مايو إلى 26/ يوليو 2024م ، وتم الإعلان عن النتائج في يوليو ، فكانت النتائج كما توقع الشعب نظراً إلى إجراءات ريشي سوناك التي صدرت خلال رئاسته للوزارة ، ونال الحزب المعارض من بين المقاعد الخمسين والست المائة نحو 411 مقعداً ، وكانت النتيجة فوزاً ساحقاً لحزب العمال ، وأدى كير ستارمر اليمين الدستورية ، وأصبح رئيس الوزراء الجديد لبريطانيا ، وليعلم أن ريشي سوناك يرجع أصله إلى الهند ذات الحضارات المتعددة الجوانب ، الممثلة للوحدة في التنوع والتعدد ، لكنه خرق هذا المنهج ، وظهرت زمن حكمته بوادر وأمور مجحفة ، وقد خاض في قضية غزة خالعاً لباس الحشمة والوقار ، وقام بتمويل إسرائيل بالأسلحة الفتاكة والقنابل المدمرة ، بل إنه زار إسرائيل مرات عديدةً جالساً في طائرة الأسلحة ، وهنّأ نتنياهو على مبادرته القاسية وضيّق الخناق في بلاده على المتظاهرين بغزة وأدخلهم في المعتقلات والسجون رغم أنهم من بني جلدته ، فاستاء منها الشعب ، وأنزله من سرير العرش ، فلا بقاء ولا دوام لنظام لا يقوم على صالح الإنسانية ، وخير البشرية .

كذلك كان الوضع في فرنسا التي جرت انتخاباتها في زمن قريب من بريطانيا ، فإن الحزب الحاكم لم يكتسح الفوز المرجو الذي كان يتوخاه رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون ، ولم يكن هناك موعد الانتخابات أيضاً ، وكانت هذه المدة تكتمل إلى عام 2027م ، لكنه أصدر قراراً رسمياً لإجراء الانتخابات من قبل ، واستعجل في حل البرلمان الذي كان يشتمل على 577 مقعداً ، ففي المرحلة الأولى لحق بحزب ماكرون فشل ذريع ، وكان حزبه في الدرجة الثالثة ، ولكن في المراحل الأخرى لم يتمكن كذلك من إحراز الأغلبية الساحقة ، فتكونت جبهة موحدة مكونة من أحزاب أخرى ، هنا ارتاع إيمانويل ماكرون من أشباح الأحزاب المساندة أنها إذا سحبت تأييدها انفض البرلمان ، ولا تستمر رئاسته ، الواقع أنه استعجل في إجراء الانتخابات ، فأصبحت غصةً في حلقه ، وحسرةً في قلبه ، وصدق الأديب الموهوب الأستاذ محمد الحسني رحمه الله في مقال له حينما قال : أرادوها جنةً ، فانقلبت جحيماً ، وقد سرى تيار اليأس والقنوط في اليهود ، وقالوا : لا مستقبل لليهود بعد هذه الانتخابات في فرنسا ، لأنهم ما رأوا من النتائج ما كانوا يرجون .

ليس كل بيضاء شحمةً :

جرت الانتخابات البرلمانية في الهند ، لعام 2024م من 19/ أبريل إلى 1/ يونيو ، وكان الحزب الحاكم يحكم الهند منذ مرحلتين مستمرتين ، وكان يدعي أنه سيفوز بأغلبية ساحقة في هذه المرحلة ، وينال أكثر من أربع مائة مقعد ، لكن نتائج الانتخابات حينما ظهرت ، فلم تتحقق له أمنيته المعسولة ، وانحصر الحزب في مائتين وأربعين ، واضطر إلى طلب المساندة والكُدية من الأحزاب الأخرى ، وقام المحللون بتحليل هذا الواقع المرير للحزب الحاكم ، فكان فحواه أنه قد ركز جل عنايته على القضايا الطائفية ، والأمور الهامشية ، ولم تعتن اعتناء ما إلى الفقر المدقع الذي استشرى في جميع شعب الحياة ، وأثار القضايا الطائفية في طول البلاد وعرضها ، ولم يتناول الشئون الأساسية التي تكون عموداً فقرياً للبلاد ، وأطبقت العيون عن الشباب المعاصر الذي يكون معقد آمال الناس في كل أمة ، فلم يجد المواطنون الراحة والاستقرار في هذه الحكومة ، وصوتوا في مراكز الاقتراع والتصويت ضد الحزب الحاكم ، فخابت مساعيه ، ولم ينجح في آماله التي كان يرجو تحقيقها منذ فترتين ، وعرف بنفسه أنه ” ليس كل بيضاء شحمةً ” .

” الحق أبلج والباطل لجلج ” :

وليست أوضاع بنجلاديش ببعيدة عنا ، فإنها كانت على فوهة بركان قبل أيام ، وقد حكمتها رئيسة وزرائها السابقة شيخ حسينة البالغة من العمر 76 عاماً ، وكانت هذه المرحلة لرئاستها مرحلةً خامسةً ، وكان نظام الحكومة في زمنها جائراً ومستبداً ، وكانت مثالاً للظلم والاضطهاد على العامة والخاصة ، فقد أصدرت أوامر لإعدام عدد من العلماء والقادة الإسلاميين ، وضغطت أصوات الأحزاب المعارضة وقامت بتكميم أفواهها ، حتى زجت بأعضائها في السجون ، وكان الأمر على هذا ، إذ ثارت احتجاجات الطلاب ومظاهراتهم في بنجلاديش نحو تخصيص مقاعد في الوظائف الرسمية ، وامتدت الصراعات بين الحكومة والطلاب من أول يوليو إلى بداية أغسطس 2024م ، واشتعلت نارها ، وتأججت حتى ذهب ضحيتها حوالي ألف طالب كما أفادت الأنباء ، فاضطرت الرئيسة السابقة إلى تقديم استقالتها إلى من يهمهم الأمر ، ولاذت بالفرار إلى الهند ، وهي ما زالت حتى الآن في منفى .

وأما ما يجري على أرض فلسطين من ظلم واعتداء ، وقتل وتشريد من إسرائيل الغاشمة ، منذ سنة كاملة ، فليس بخاف على العالم الإنساني ، فكما أن نتائج الانتخابات ظهرت خلاف ما تتصوره الحكومات ، كذلك بدأت نتائج هذا العدوان السافر المدعم من الدول الأوربية بالأسلحة المدمرة والقنابل السامة تظهر على أرض فلسطين ، ويلوذ الاحتلال بالفرار ، ولم يحقق أهدافه التي بدأ لأجلها هذه الحرب الضارية ، فأهلك الأطفال والنساء والمرضى ، ودمّر البيوت والمنازل وخرّب المشافي والمستوصفات إشباعاً لغرائزه ، ولا يزال يخسر في كل الجبهات ، لأنه لا يقوم على أسس ثابتة ، بل يستمر عمله على الغطرسة والكبر والخيلاء والغرور الذي مقته الله تعالى مقتاً شديداً ، فزواله وانهزامه وانسحابه عن أرض غزة وفلسطين عاجلاً بإذن الله كالشمس في رابعة النهار ، وقال الشاعر :

وما من يد إلا يد الله فوقها وما ظالم إلا سيُبلى بظالم

هذه بعض أمثلة على أرض الواقع ، يشاهدها كل من له بصير وبصيرة ، ولا تزال تتجلى أمثال هذه الأمثلة على مرأى ومسمع من الناس ، وهي برهان ساطع على أن لا قرار للباطل وإن كان مزركشاً ومزخرفاً ، فإنه غثاء كغثاء السيل ، وجفاء كجفاء الفيضان . فالحق أبلج والباطل لجلج . فليعتبر منها من يعتبر ، وينزجر منها من ينزجر ، وما يلقاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . قال الله تعالى : ( فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً ، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ ) [ الرعد : 17 ] .