حفلات التعازي على وفاة
نوفمبر 19, 2023شخصية أعجبتني :
غوادي مزنة ، أثنى عليها السهل والأوعار
محمد فرمان الندوي
قرأنا في المثل العربي : ” كن عِصامياً لا عظامياً ” ، معناه أن موظفاً متواضعاً كان في بلاط النعمان بن منذر ملك الحيرة ، وكان يعمل كل عمل بجدية وإتقان ، لا يتكاسل ولا يتباطئ ، وكان يواصل الليل بالنهار ، والنهار بالليل ، حتى أصبح من المتزلفين لدى الملك ، ونال عنايةً كبيرةً منه ، فاشتهر صيت عصام عند الخاصة والعامة ، حتى قال عنه الملك : إن عصام بن شهبر الجرمي يقدَّر عندنا بألف جندي ، وبدأ يُضرب المثل : كن عصامياً لا عظامياً ، أي افتخر بنفسك ، ولا تفتخر بعظام آبائك وأجدادك ، ذكر الإمام الشيخ السيد أبو الحسن على الحسني الندوي رحمه عن العبقري العصامي في كتابه : ” الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية ” ، وذكر بعض صفاته ، وقال في الأخير : ” هذا هو العبقري العصامي الذي لا يزال مفقوداً في صفوف القادة والزعماء في العالم الإسلامي على كثرتهم وتنوعهم ، وهذا هو العملاق حقاً ، الذي يبدو في جانبه القادة المقلدون المطبقون صغاراً متواضعين كالأقزام ” .
إذا درسنا حياة وأعمال الإمام المفكر الإسلامي الشيخ أبي الحسن على الحسني الندوي رحمه الله عرفنا في شخصيته مصداق هذه العصامية التي يتوخاها من خلال هذه الكلمات ، ووجدنا ضالتنا المفقودة ، واكتشفنا العصامي الذي أصبح الناس حيارى في البحث عنه ، فإن شخصية الإمام الندوي توافق مأة في المأة هذه العصامية ، وهي أجل من أن تذكر ، وأعظم من أن يثنى عليها ( والبيت يعرفه والحل والحرم ) ، وورث هذه العصامية شيخنا المفكر الإسلامي ، المصلح الكبير ، المؤرخ العظيم ، الداعية المثالي ، المعلم الناجح ، القائد الحكيم ، المؤلف القدير ، الأديب الناقد ، الجغرافي النابغة ، الصحافي المحنك الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي ، هذه الصفات العشر تبرز جوانب عصاميته ، ونواحي عبقريته ، فإنه عاش بين الناس متواضعاً ، فخفي عن الناس جوهره وقيمته الحقيقية ، لكن مشاهد جنازته رفعت اللثام عن هذه المزايا وخبايا زواياها ، وكان عبد الله بن أحمد يقول : سمعت أبي رحمه الله يقول لأهل البدع : بيننا وبينكم يوم الجنائز ( سؤالات السلمي للدار قطني : 361 ) ، وأضف إلى ذلك مرجعيته ، وكونه نقطة وحدةٍ بين الناس ، رغم تأليفاته التي تبلغ إلى أكثر من ستين ، ومناصبه العالية وعضويته لعشرات من الهيئات والمؤسسات والجمعيات ، وتدريسه إلى 75/ عاماً ، وقيادته الحكيمة للأمة الإسلامية الهندية من منبر هيئة قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لعموم الهند ، وهلم جراً .
ميزتان بارزتان :
(1) إن أهم ما تمتاز به شخصية شيخنا رحمه الله هي الاستقامة في سبيل الدين ، ونشر التعليم الإسلامي ، والاستقامة كلمة جامعة تشمل جميع جوانب الدين ، وهي لزوم طاعة الله وسلوك الصراط المستقيم ، والاستقامة فوق الكرامة ، وما أكرم إنسان بكرامة ، خيراً من الاستقامة ، فإن شيخنا رحمه الله عاش عمراً طويلاً بحمد الله وفضله ، وركز في هذا العمر على جانب واحد ، وهو أن تعلو كلمة الإسلام ، وينتشر السلام والهدوء في أرجاء المعمورة ، وكان شيخنا رحمه الله بعيداً عن ضوضاء الناس ، وصخب الأسواق ، فكان يؤثر الجو الهادئ ، ويستوحش من إثارة الخلافات والنزاعات ، فإنه فطر على تحمل المشاق والصبر والمصابرة ، وكان يلقي نفسه في حرج ، لكنه لا يحدث صعوبة للآخرين ، فبالاستقامة جعل الله له قبولاً في الدنيا بين الناس ، وهو مكرم ومبجل عند الله في الفردوس الأعلى بمشيئة الله تعالى ، وهذه بشرى من الله أن كل من استقام على الحق وثابر عليه قدَّر الله له الخير ، ووفقه لما يحبه ويرضاه .
(2) يشهد دارسو سيرة شيخنا رحمه الله أنه اعتنى طول حياته بتربية الأفراد وإعداد الرجال ، لا شك أن إعداد الرجال موضوع الساعة وحاجة الزمان ، ويحتل مكاناً رفيعاً في المجتمعات الإنسانية ، فإن هناك رجالاً يصنفون الكتب ، ويؤلفون المؤلفات ، ويثرون المكتبات الإسلامية بدراساتهم وتحقيقاتهم النادرة ، لكن يندر وجود رجال يكبون على إعداد الرجال وصناعة الأجيال بصمت وخفاء ، وقد روى الإمام الحاكم في المستدرك أن سيدنا عمر رضي الله عنه جلس إلى جماعة من أصحابه ، فقال لهم : تمنوا ، فقال أحدهم : أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به ، ثم قال : تمنوا ، فقال رجل : أتمنى لو أنها مملوءة زبرجداً وجوهراً ، فأنفقه في سبيل الله وأتصدق ، ثم قال عمر رضي الله عنه : تمنوا ، فقالوا : ما ندري يا أمير المؤمنين ! فقال عمر رضي الله عنه : أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وحذيفة بن اليمان ( رقم الحديث : 5005 ) ، اشتغل شيخنا في دار العلوم لندوة العلماء تدريساً وتربيةً نحو 75 عاماً ، وقام خلال هذه المدة بإعداد آلاف مؤلفة من الدعاة والعلماء ، والمؤلفين ، والمصلحين ، والربانيين ، وهم يشتغلون بالأعمال الدينية ، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ، ولا شك أن هذا العمل مبارك يُغتبط به ، فإنه وإن لم يؤلف مآت من الكتب ، ( وإن كان ما ألفه ليس بقليل ) ، لكن جانب تربية الرجال وإعدادهم لا يشق غباره فيه ، ولا يوجد له نظير في تاريخ ندوة العلماء .
بين الوسيلة والغاية :
هذا ما له علاقة بسيرته العامة ، أما حياته العلمية والأدبية فهي حافلة بكثير من الإنجازات الهامة ، والمآثر الجليلة ، ظلت اللغة العربية هوايته وشعاره ، اشتغل بهذا الفن طوال حياته ، وبدأ حياته العلمية بتدريس اللغة العربية والأدب العربي ، وقد أتحف هذا الموضوع بعدة كتب منهجية وغير منهجية أمثال منثورات من أدب العرب ، ومعلم الانشاء ، والأدب العربي بين عرض ونقد ، وتاريخ الأدب العربي ( العصر الإسلامي ) ومختار الشعر العربي والأدب الإسلامي وصلته بالحياة ، والأدب الإسلامي : فكرته ومنهاجه ، وأضواء على الأدب الإسلامي ، والغزل الأردي : محاوره ومكانته في الشعر ، لكنه لم يكن غافلاً عن الغاية الأساسية ، والمهمة الكبرى ، وهي أن تعلم اللغة العربية ليس إلا لفهم الكتاب والسنة ، والتعمق في معاني القرآن الكريم والحديث النبوي ، واستخراج النكت التفسيرية والدقائق الفنية ، فإنه ظل يدرِّس تفسير القرآن الكريم في دار العلوم لندوة العلماء إلى مدة ، وكان من تلامذته النبغاء الدكتور يسين مظهر الصديقي الندوي ، فإنه شهد بعلو كعبه في هذا الموضوع ، وكان يدرس تفسير القرآن الكريم في الحلقات الرمضانية في زاوية الشيخ علم الله الحسني ، فيأتي بنكت نافعة ولطائف إصلاحية ، ومعان علمية ، ويكفي لمعرفة غزارته في الموضوع دراسة مؤلفاته : الهداية القرآنية سفينة نجاة للإنسانية ، والمجتمع الإنساني : حدوده وآدابه ، وتأملات في سورة يوسف ، والحياة الإيمانية في سورة الأنبياء ، وشعائر الله وتعظيمها ، وكثيراً ما كان يبين النكت التفسيرية في مجالسه العامة ، فإنه مرةً ذكر عن سورة العاديات أن الله تعالى أقسم بخمس صفات للخيول في بداية السورة ، ومعلوم أن الخيول كانت أحب الحيوانات إلى العرب ، فكان يُجاع لها العيال ولا تجاع ، وأراد الله أن يستلفت نظر العرب إلى موضوع شكر النعم والعرفان بالجميل ، فتمثل بالخيول أنها تسرع في الجري ، حتى تضبح ، وتخرج النار من حوافرها ، وتغير صباحاً على الأعداء ، وتثير الغبار ، وتتوسط في الجمع ، لماذا تتكلفها الخيول ؟ لا يتكلفها إلا لإرضاء مالكها ، لكن الإنسان الذي أسبغ الله عليه نعمه ظاهرةً وباطنةً يكفر بها كل وقت ، ولا يقدرها حق قدرها ، فقال الله بعد هذه الأقسام حينما صغت إليه أسماع العرب : إنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّه لَكَنُود ( لكفور ولجحود ) وَإنَّه عَلَى ذَلكَ لَشَهِيْد .
هذا نموذج لاطلاعه الواسع على كنه العربية ، كذلك أخذ شيخنا رحمه الله علم الحديث من عباقرة الفن في عصره أمثال الشيخ المحدث حليم عطاء السلوني والمحدث الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي ، وقد قام بتدريس كتاب رياض الصالحين للإمام النووي في دار العلوم لندوة العلماء سنوات ، فطبع بعض دروسه ، كما درَّس جزءاً من صحيح البخاري في السنة النهائية في دار العلوم لندوة العلماء ، وقرأ عليه أعلام العلماء في العالم الإسلامي ، واستجازوا منه شهادة الحديث ، وقد أقيمت لها دروس خاصة وحضرها آلاف من الطلبة وأهل العلم ، كما قدم لكثير من كتب الحديث ، ولا سيما لثمانية مؤلفات الشيخ الدكتور المحدث تقي الدين الندوي ، فإن هذه المقدمات تدل على اشتغاله بهذا الفن ، ومعرفته التامة ، وكان في آخر السنة الدراسية في دار العلوم لندوة العلماء يجيز الطلاب المتخرجين برواية حديث : المسلسلات ، وتقرأ عليه أوائل الكتب الستة ، وأما موضوع السيرة النبوية فألف في هذا الموضوع كتاباً قيماً باسم : سراجاً منيراً ( سيرة خاتم النبيين ) وهذا الكتاب فريد من نوعه ، ومبتكر في بابه ، لأنه يقدم السيرة النبوية كصورة إنسان مثالي يمكن لكل إنسان في ضوئه أن يتبعه ويسير على منواله ، وقد كان دأب أصحاب السير من قبل أنهم يتناولون بذكر المعجزات كثيراً ، فتأتي صورة النبي صلى الله عليه وسلم كشخصية خارقة للعادة ، لا كإنسان يسهل للناس اتباعهم ، فصدر هذا الكتاب من قلم شيخنا رحمه الله ، وأثر في المجتمع الإنساني لا على المسلم فقط ، ونقل إلى لغات كثيرة ، كما أن له كتاباً باسم ” في ظلال السيرة ” ، وهو مجموعة مقالاته حول السيرة النبوية ، التي قدمت في الندوات العلمية أو كتبت في الجرائد والصحف .
جمع شيخنا رحمه الله بين الوسيلة والغاية ، فإنه ما تعلم اللغة العربية ليُعرف بين الناس لغوياً وأديباً وخبيراً بالمعاجم والقواميس ، بل درس اللغة العربية والأدب العربي ، ليعرف الكتاب والسنة والسيرة النبوية في أسمى معانيها .
رباني الأمة :
تقدّر قيمة الإنسان من كلماته وأحاديثه التي تجري بين حين وآخر ، وهي مرآة صادقة لنفسيته ، ولوحة صافية لانطباعاته ومشاعره ، وكلما كان باطن الإنسان نقياً كانت كلماته تأخذ بمجامع القلوب ، وتقع من النفوس كل موقع ، وإذا كان الأمر بالعكس ، فإنها لا تحمل أي قيمة ولا تأثير ، وصدق من قال : ” كل ما خرج من القلب ، وصل إلى القلب ، وكل ما خرج من اللسان لا يجاوز الآذان ” .
كان شيخنا الجليل السيد محمد الرابع الحسني الندوي شخصيةً لها جوانب متعددة ، ومناح بارزة ، كل جانب من جوانبه يحمل أهميةً كبرى ، وميزةً جُلى ، لا يمكن لدارس سيرته أن يتغاضي عنه ، ويبتعد عنه ، ولا يمكن أن يحاط بجميع هذه الجوانب ، فإلى القراء دُرراً ولالئ صدرت من لسانه ، ووقعت في قلوب الناس ، فغيرت من مناهج حياتهم ، وأساليب عيشهم ، وكان يتميز بين علماء عصره بميزة التربية والإصلاح ، فكان مربياً حكيماً ، ومصلحاً مثالياً ، يقوم بإصلاح الاعوجاج والخلل من دون إشعار به ، فيستقيم الإنسان ويمشي على الصراط المستقيم على هدى من ربه ، وقد استقى هذه الفكرة من مشكاة النبوة التي وراءها مشكاة أكثر إضاءةً للناس في دياجير الظلام ، وقد حدث معي مرتين بوجه أخص : مرةً أنه قال : ” إنك ما تعمل من عمل الدعوة والإصلاح في مكتب المجلة ” ، فانتبهت لهذه الجملة ، وكنت أظن أني أخدم اللغة والفكر الإسلامي ، لكنه بجملته اليسيرة صرف عنايتي من العربية إلى عمل الدعوة والإصلاح ، ومعلوم أن الدعوة ليست لها طرق خاصة ، وأشكال محدودة ، بل كل ما يكون من عمل لنشر رسالة الإسلام يعتبر دعوةً وإصلاحاً ، ومرةً أخرى قال : وكنت أشتغل بنقل كتابه حول القرآن الكريم إلى العربية ، فقال : ” إن القرآن الكريم كلام الله ، وكل ما يمت إلى الله بصلة له وزن وقيمة عنده ، فعمل الترجمة للكتاب حول القرآن ليس عملاً هيناً ، بل هو عمل القرآن مباشرة ، تقبل الله عملك ” ، بهذه الكلمات البسيطة نقلني رحمه الله من المادية إلى المعنوية ، ومن الأرض إلى السماء .
كثيراً ما رأيتُ أن لفظة أو كلمة خرجت من لسانه غيرت حياة شاب ، أو رجل انزعج من علائق حياته ، أو أصيب بمشاكل حياته ، فينال شفاءً روحياً ، ويطمئن قلبه ، ويرجع فرحاً مسروراً ، ويذهب إلى بيته مبتهجاً مرتاحاً ، هكذا كان دأبه كل يوم ، يزدحم عنده الناس ، فلا يبالي بضعفه ونقاهته ، ولا ينظر إلى أمراضه ، بل يطيل الجلوس معهم ، وكان يقول : ليس عندي ما أمنحهم ، سوى أن أشاطر همومهم وأحزانهم ، فكل من زاره وجد عنده طمأنينةً نفسيةً وراحةً قلبيةً ، وزالت عنه المتاعب والمشاق ، كذلك يكون أولياء الله الذين تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عنهم : من ذكَّركم بالله رؤيته ، وزادكم في العلم منطقه ، وذكَّركم بالآخرة عمله ( مسند أبي يعلى : 8/29 ، عن عبد الله بن عباس ) .
الحمد لله على نعمة الإسلام :
كان رحمه الله يشكر الله دائماً على آلائه الجسيمة ، ونعمه الكثيرة ، وكان يقول : لسنا أحق بهذه النعم التي نتمتع بها ، لكن الله تعالى أسبغها علينا بمنه وكرمه ، وأجل هذه النعم هي نعمة الإسلام والإيمان، ينبغي أن تكون ألسنتنا رطبةً بحمده وثنائه على هذا الفضل ، وكان يقول نظراً إلى توقيره واحترامه من الناس : أخشى أن يقال لنا يوم القيامة : قد أكرمك الناس كثيراً ، فليس لك جزاء هنا ، وكان يوصي طلبة المدارس الدينية : اشكروا الله على هذه النعمة على أنكم تتعلمون في معاهد علم النبوة ، وتدرسون العلوم الشرعية ، وهناك كثير من الشباب يدرسون في الكليات والجامعات التي أنشأها الملاحدة والفساق ، فيختارون ثقافتهم ويصطبغون بصبغتهم ، وبلغ الأتراك في اعتزازهم وفخرهم بالإسلام إلى أنهم يقولون : الحمد لله على نعمة الإسلام ، فالإسلام ليس حضارةً أو ثقافةً كعامة الحضارات والثقافات ، بل هو دين ودنيا ، قول وعمل ، معرفة وتطبيق ، لا يحسن أن يأ خذ الإنسان بعضه ويترك بعضه ، بل هو مطالب بأن يعيش فيه مأةً في المأة من العقائد والعبادات والأخلاق ، والمعاملات والشئون الاجتماعية .
أكبادنا تمشي على الأرض :
كان شيخنا رحمه الله يركز كثيراً على تربية الأجيال الناشئة ، ويشجِّع الأعمال والجهود التي تبذل في هذا السبيل ، ويبارك ويهنئ الرجال الذين يشتغلون ببناء الكتاتيب والمدارس لتربية النشء الجديد ، فإن الأطفال هم أكباد الإنسان وفلذات قلبه ، تمشي على الأرض ، وكان يقول : التربية في البيت هي الأساس في حياة الطفل ، فإذا كانت بيئة البيوت دينيةً ، وإيمانيةً ، ولا يزال فيها ذكر وتلاوة ، ودعاء ومناجاة ، فهذا يؤثر في حياة الأولاد ، ويكوّن أذهانهم ، ويصوغ نفسيتهم على خلال طيبة ، فالمرحلة الأولى في التربية هي بيئة البيوت ، ثم ربطهم بالمساجد وبيوت الله تعالى ، وأخيراً اعتيادهم واختلافهم إلى الكتاتيب الدينية ، هذا الذي يمنعهم من الانصياع في السيل المادي الجارف ، ويتمثل في ذلك بحياة الداعية الإسلامي الشهيد سيد قطب الذي كان أديباً محضاً في بداية حياته ، لكنه أصبح فيما بعد شخصيةً كبيرةً ، وضحى في سبيل الله تعالى ، إنه ألف تفسير في ظلال القرآن ، وذلك بتأثير بيئته وتربية أمه في الصغر ، فيقول في مقدمته :
” إليك يا أماه أرفع هذا الكتاب !
لطالما تسمعت من وراء ” الشيش ” في القرية للقراء يرتلون في دارنا القرآن ، طوال شهر رمضان ، وأنا معك ، أحاول أن ألغو كالأطفال ، فتردني منك إشارة حازمة وهمسة حاسمة ، فأنصت معك إلى الترتيل ، وتشرب نفسي موسيقاه ، وإن لم أفهم بعد معناه – لقد رحلت عنا – يا أماه ، وآخر صورك الشاخصة في خيالي ، جلستك في الدار أمام المذياع ، تستمعين للترتيل الجميل ، ويبدو في قسمات وجهك أنك تدركين بقلبك الكبير وحسك البصير مراميه وخفاياه ” . ( مقدمة التصوير الفني للقرآن ) .
وثار غضب الله :
إن شيخنا رحمه الله كان يعمِّق جذور الإيمان ، وركائز جلال الله تعالى بقصص دينية وحكايات مؤثرة ، هذه القصص تؤثر في النفوس ، وتعمل عملها ، فترتدع النفوس عن غيها ، وتنزجر عن انحرافها ، وقد ذكر الله تعالى في القرآن قصص الأنبياء والرسل لتثبيت دعائم الإيمان ، وهناك مؤلفان لشيخنا رحمه الله : أحدهما : منثورات من أدب العرب ، ذكر فيه أنواعاً منوعةً من القصص ، واستنبط منها النتائج والعبر ، إما نثراً وإما شعراً ، وثانيهما معلم الإنشاء الذي يعلِّم التعبير عما في الضمير ، وكتابة الجمل العربية ، لكنه لم يتغافل عن هذا الجانب المهم ، وتناول بذكر القصص والحكايات للترجمة والتدريب على الكتابة العربية ، ولا تخلو مجالسه عنها كذلك ، فنذكر هنا قصتين مؤثرتين ، ذكرهما الشيخ في أحد مجالسه :
(1) قال الله تعالى : قُلْ أَرَأَيتُم إنْ أَصْبَحَ مَاؤكُم غَوْرَاً ، فَمَن يَأتِيْكُم بِمَاء مَعِين ، قرأ رجل هذه الآية ، فقال بكل وقاحة : إذا نقص الماء في مكان ، أحفر بئراً في مكان آخر ، وأخرج الماء ، فثار غضب الله ، فجف ماء عينه وعمي ، قال صاحب الجلالين : معين معناه جار تناله الأيدي والدلاء كمائكم أي لا يأتي به إلا الله تعالى ، فكيف تنكرون أن يبعثكم ؟ ويستحب أن يقول القارئ : عقب معين : الله رب العالمين ، كما ورد في الحديث ، وتليت هذه الآية عند بعض المتجبرين ، فقال : تأتي به الفووس والمعاول ، فذهب ماء عينه ، وعمي ، نعوذ بالله من هذه الجراءة على الله وعلى آياته ( تفسير الجلالين ، تفسير آخر آية من سورة الملك ) .
(2) كان ذباب ، مرةً ظن أن الناس كم عجزوا عجزاً ، بحيث لا يستطيعون أن يطيروا في الفضاء ، وليسوا أحراراً ، يفعلون ما يشاءون ، وهم مضطرون ، وأنا حر طليق ، أعيش كيف أشاء ، وأجلس حيث أشاء ، ولم يمض وقت ، إذ جاءت طير فأكلته ، فهذا مثال للكفران بالنعمة ، والإعجاب بالنفس ، فالذباب وما قيمة الذباب ؟ لكنه أصيب بالكبر ، واحتقر الجميع وازدراهم ، حتى أشرف المخلوقات ، فأهلكه الله تعالى .
أربعة أشياء تربط الأرض من السماء :
أصبح التكالب على حطام الدنيا موضة الناس وديدنهم في هذا العصر ، وقد جعل الغرب كلمته : لا إله إلا البطن والمعدة ، فكل يفكر في زيادة ميزانيته ، ولا يكترث في ذلك بالحلال والحرام ، والطيب والخبيث ، بل يحاول أن ينال مبلغاً كبيراً من المال ، ويضيفه إلى رصيده في البنوك ، رغم أن السلف الصالح كانوا يحبون أن يفارقوا الدنيا ، وليس عليهم تبعة ولا مسئولية ، وكانوا يقولون : لا علي ولا لي ، وقد عبر عنه القرآن الكريم بالتكاثر ، أي يتفكر الإنسان في استكثار المال والأولاد حتى ذهب إلى المقابر ، ذكر شيخنا رحمه الله عن المفكر الإسلامي محمد أسد أنه مرةً كان يسافر في قطار ، فرأى جواً من الصمت والكآبة قد خيم على المسافرين ، كأن حادثاً حدث ، أو مصيبةً وقعت ، فألزمت السكوت على الناس ، وصل محمد أسد إلى بيته ، وفتح القرآن الكريم ، وقرأ في القرآن الكريم سورة التكاثر ، فكأنه وجد ضالَّته ، وأدرك بغيته ، وانكشف أمامه هذا الواقع أن حب المال هو رأس كل بلية ، وأس كل فساد ، ثم ذكر شيخنا رحمه الله أن خالي الأكبر الشيخ عبد العلي الحسني رحمه الله كان طبيباً ، مرةً جاء إليه رجل للمعالجة ، فوصف له دواءً توكلاً على الله ، وأكل فأصبح معافىً في بدنه ، ثم جاءه في اليوم الثاني رجل آخر، وكان يشكو نفس المرض الذي أصيب به رجل أمس ، فوصف له أيضاً خالي الدواء نفسه ، لكنه لم يبرأ من مرضه ، ثم بين سبب ذلك قائلاً : وصفت الدواء للرجل الأول ثقةً بالله ، فشفي ، ولكن منحت نفس الدواء للرجل الثاني ثقةً بالدواء ، فلم يشف هذا الرجل من مرضه ، سبحان الله ! هكذا يكون تأثير للنيات في الأعمال ، وما أحسن ما قال الإمام الدهلوي في حجة الله البالغة : إن هناك أربعة أشياء تربط الأرض من السماء : القرآن ، والكعبة ، والصلاة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، لولا هذه الأشياء لانفصلت السماء من الأرض ، ولا تكون بينهما علاقة وصلة ، وقد ألف شيخنا رحمه الله لكشف هذه الحقيقة كتاباً مستقلاً باسم : شعائر الله : عظمتها وأهميتها ، طبع الكتاب من المجمع الإسلامي العلمي باللغة العربية ، وهو يكشف عن الداء الدوي الذي ألم بالمجتمع الإنساني ، فوصل به إلى هاوية من النار .
هذا ما لمسته من خلال تلمذتي على شيخنا رحمه الله وزيارتي له ، وقد وفقني الله للقراءة عليه والنهل من نميره الفياض ورؤيته عن كثب ، ندعو الله تعالى أن يتقبل منا أعمالنا ، ويغفر لشيخنا السيد محمد الرابع الحسني الندوي مغفرةً تامةً ، ويدخله في جنات النعيم .