العالم الرباني الشيخ عبد القادر الرايفوري
ديسمبر 15, 2020السلطانة : زنوبيا أو الزباء أو زينب
ديسمبر 15, 2020دراسات وأبحاث :
علم فريد لم ينصفه جيله
( المفكر الإسلامي والأديب الموسوعي الأستاذ أنور الجندي )
( الحلقة الأولى )
الأستاذ محمد خالد ضياء الصديقي الندوي *
يعدّ القرن العشرون من أخصب القرون الماضية رجالاً وأعلاماً ، آثاراً وأعمالاً ، حركات ومؤسسات ، إنتاجات وإنجازات . ولعل السبب في ذلك أن القرن العشرين كان محاطاً بالأخطار من كل جانب ، ومحفوفاً بالمشاكل والأزمات على الصعيد الدولي ، ولذا قيض الله لهذا القرن رجالات وأعلاماً يتصدون لها .
وممن أنجبه القرن العشرون المفكر الإسلامي الكبير والأديب الموسوعي العملاق ، ورائد الأصالة والتنوير ، وقائد الكتيبة الإسلامية للمقاومة الفكرية الأستاذ الزاهد المتجرد أنور الجندي رحمه الله .
الأستاذ أنور الجندي كان واحداً من دعاة الإسلام المخلصين المتحمسين ، الذين عاشوا للإسلام وبالإسلام ، زاهدين في الشهرة والأضواء ، بعيدين عن جمع المال والثراء . كان ممن اصطفاهم الله في هذا القرن مدافعين عن الإسلام ، متنزهين عن كل الإغراءات ، ورافضين جميع المناصب ، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ” الله يصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكة رُسُلاً وَّمِنَ النَّاسِ ” .
ميلاده ونشأته :
وُلد الأستاذ أنور الجندي في سنة 1335هـ – 1917م بقرية ديروط التابعة لمركز أسيوط بصعيد مصر . ويمتد نسبه لعائلة عريقة عرفت بالعلم والأدب والثقافة ، فجده لوالدته كان قاضياً شرعياً يشتغل بتحقيق التراث ، وكان والده مثقفاً يهتم بالثقافة الإسلامية ، ومتابعة الأحداث الوطنية والعالمية ، مع اشتغاله بتجارة الأقطان . وكان بيت الأستاذ الجندي مغموراً بالصحف والمجلات وصور الأبطال من أمثال عبد الكريم الخطابي زعيم الريف المغربي ، وأنور باشا القائد التركي الذي اشترك في حرب فلسطين – والذي كان ذائع الشهرة حينئذ – وباسمه تسمى أنور الجندي من قبل والديه تيمناً وإعجاباً .
درس المناهج التقليدية التي كانت سائدةً بالربع الأول من القرن العشرين ، وحفظ القرآن كاملاً في كتّاب القرية في سن مبكرة ، ثم ألحقه والده بوظيفة في بنك مصر ، بعد أن أنهى دراسة التجارة بالمرحلة التعليمية المتوسطة ، ثم واصل دراسته أثناء عمله ، حيث التحق بالجامعة في الفترة المسائية ، ودرس الاقتصاد وإدارة الأعمال ، إلى أن تخرج في الجامعة الأمريكية بالقاهرة بعد أن أجاد اللغة الإنجليزية ، التي سعى لدراستها حتى يطلع على شبهات الغربيين التي تطعن في الإسلام [1] .
مشواره في الكتابة :
بدأ الأستاذ أنور الجندي الكتابة في مرحلة مبكرة ، حيث نشر في مجلة أبولو الأدبية الرفيعة التي كان يحررها الدكتور أحمد زكي أبو شادي عام 1933م ، وكانت قد أعلنت عن مسابقة لإعداد عدد خاص عن شاعر النيل حافظ إبراهيم ، فكتب مقالةً رصينةً تقدم بها ، وأجيزت للنشر ، وكان يقول : ” ما زلت أفخر بأني كتبت في أبولو وأنا في هذه السن – 17 عاماً – ، وقد فتح لي هذا باب النشر في أشهر الجرائد والمجلات آنئذ مثل البلاغ وكوكب الشرق والرسالة وغيرها من المجلات والصحف ” [2] .
من شجَّعه على الاستمرار في الكتابة ؟
إن أول من شجَّعه على الكتابة المنتظمة ، الإمام الشهيد حسن البنا ، وذلك عندما كان معه في رحلة الحج في الأربعينيات ، ثم طلب منه الأستاذ البنا الشهيد – رحمه الله – أن يكتب خاطرة عن الحج ، فكتب الأستاذ أنور خاطرة ، يقول عنها : أعجب بها البنا أيما إعجاب ، ثم قال لي : لماذا لا تستمر في الكتابة ؟ إن لك قلماً رشيقاً ، ومن الممكن أن يكون من الأقلام القوية إذا مرنته على الكتابة ، واستمر عليها [3] .
والرجل الثاني الذي له دور كبير في تشجيعه علي الكتابة : هو الدكتور أبو شادي ، الذي فتح له صفحات مجلة أبولو الأدبية ؛ ليكتب فيها مقالاته منذ سنة 1933م [4] .
وظل يكتب الأستاذ أنور الجندي مقالات متعددة في مجلة الإخوان المسلمون الأسبوعية ، ثم توالت كتابات الأستاذ الجندي تصدر تباعاً .
نقطة التحول في حياته :
ويعد عام 1940م نقطة تحول في حياة الأستاذ أنور الجندي ، وذلك عندما قرأ ملخصاً عن كتاب وجهة الإسلام لمجموعة من المستشرقين ، هذا الكتاب – كما يقول الأستاذ علاء ممدوح – كان له أثر كبير في تحول حياته من الحياة الهادئة الناعمة إلى حياة مجاهد بالقلم ، يتصدى لما يوجه نحو الأمة من حملات تغريبية . فقد لفت هذا الكتاب نظره إلى التحدي للإسلام وحجم المؤامرة عليه ، وهو يصف ذلك بقوله : ” وبدأت أقف في الصف : قلمي عدتي وسلاحي من أجل مقاومة النفوذ الفكري الأجنبي والغزو الثقافي ، غير أني لم أتبين الطريق فوراً ، وكان عليّ أن أخوض في بحر لجي ثلاثين عاماً … كانت وجهتي الأدب ؛ ولكني كنت لا أنسى ذلك الشيئ الخفي الذي يتحرك في الأعماق … هذه الدعوة التغريبية في مدها وجزرها ، في تحولها وتطورها .
وهكذا بدأ أنور الجندي بميدان الأدب الذي بلغ اختراقه حداً كبيراً ، حيث كان أكثر الميادين غزواً في حينها وأعلاها صوتاً وأوسعها انتشاراً ، فواجه قمم هذا الميدان ، مثل طه حسين ، والعقاد ، وأحمد لطفي السيد ، وسلامة موسى ، وجرجي زيدان ، وتوفيق الحكيم وغيرهم ، وأقام الموازين العادلة لمحاكمة هؤلاء في ميزان الإسلام وصحة الفكرة الإسلامية ، فأخرج عشرات الكتب من العيار الفكري الثقيل يتحري الدقة والإنصاف [5] .
وكان لقاؤه بالإمام الشهيد حسن البنا أهم معلم فارق في حياة أنور الجندي حيث يقول : ” رغم إحساسي بمسئوليتي الكبرى تجاه تراثنا وعقيدتنا ولغتنا ، وبالرغم من كل ما كتبت وسطرت ، كانت دعوة الإمام الشهيد حسن البنا إلى بناء المجتمع الإسلامي على منهج القرآن هي الطريق الذي أخذته وآمنت به ، حيث وجدت حلاً لكل الأسئلة التي كانت غلاً على مشاعري ” [6] .
أعماله وإسهاماته :
يعرف الأستاذ بالكاتب الإسلامي الكبير المعروف بغزارة الإنتاج ، حتى تقارب بحوثه وكتبه على شتى الموضوعات : الأدبية ، والسياسية ، والدينية ، والاجتماعية وغيرها أكثر من ثلاث مأة كتاب ، وبعضها موسوعات ، ولكن كيف تيسر له إخراج هذه الكتب القيمة والدراسات الأصيلة بمفرده ، تعجز عشرات المؤسسات والمجامع أن تأتي بمثلها أو بقريب منها ؟ وكيف قطع هذه الرحلة العلمية والبحثية الطويلة التي تملأها المشقة والمعاناة ؟ هذا سؤال مهم جداً ؛ ولكن نظرة غائرة على حياته الحافلة بالإنتاجات والإنجازات تؤكد أن سر هذا العطاء والإنتاج يكمن – إلى فراغه من شغل الأولاد والأموال ، حيث رزق ببنت واحدة – في الاستمرارية والتواصل في البحث والتنقيب ، والتفرغ الكامل للكتابة والعلم ، وقضاء الحياة والوقت بين أضابير الكتب وملفات الصحف ، يقول عن نفسه مبيناً دأبه في البحث والاطلاع :
” قرأت بطاقات دار الكتب ، وهي تربو على مليوني بطاقة ، وأحصيت في كراريس بعض أسمائها ، راجعت فهارس المجلات الكثيرة الكبرى كالهلال ، والمقتطف ، والمشرق ، والمنار ، والرسالة ، والثقافة ، وأحصيت منها بعض رؤوس موضوعات ، وراجعت جريدة الأهرام على مدى عشرين عاماً ، وراجعت المقطم ، والمؤيد ، واللواء ، والبلاغ ، وكوكب الشرق ، والجهاد وغيرها من الصحف ، وعشرات من المجلات العديدة والدوريات التي عُرف في بلادنا في خلال هذا القرن ، كل ذلك من أجل تقدير موقف القدرة على التعرف على ( موضوع ) معين في وقت ما ” [7] .
وبهذا العمل الشاق الطويل وبهذه الهمة العالية وبهذا الصبر والتضحية في البحث والتنقيب استطاع الأستاذ أنور الجندي أن يقدم للمكتبة العربية المعاصرة – على قول الدكتور حلمي القاعود – مئات الكتب والدراسات ، دفاعاً عن الإسلام ، وشرحاً لمقاصده ، وبياناً لجوهره وغاياته [8] .
وبما أنه أفنى عمره في البحث والتحقيق ، والمراجعة والتنقيب ، فتتميز مؤلفاته وبحوثه بالأصالة والسعة والدقة والشمول ، وتعد مرجعاً أساسياً للفكر الإسلامي المعاصر ، يقول الأستاذ محمود خليل بعنوان ” أنور الجندي … رائد الأصالة والتنوير ” :
” ولقد مثلت مؤلفات أنور الجندي وبحوثه الأصلية مرجعاً رئيسياً لكل من كتب في شئون الفكر الإسلامي المعاصر ، أو عالج إشكاليات الغزو الفكري بجذوره وأبعاده ، وخططه وأهدافه ، وكانت مكتبته مناراً هادياً لكل من قلَّب صفحات التراث من أطرافه إلى أطرافه ” .
ويقول في موضع يبين مدي تأثير كتبه ومؤلفاته على تشكيل الجيل المعاصر وتكوينه الثقافي :
” ولا يستطيع مثقف معاصر أياً كان موقعه الفكري أن ينكر أن الجندي كان صاحب يدٍ عليه في تشكيله وتكوينه الثقافي ، كما أنه لا يستطيع مثقف أو كاتب أو باحث أن يشغب على ريادة الجندي أو إمامته لمفكري العصر في بابه ” [9] .
ثلاثة محاور تركز فيها عطاء الأستاذ الجندي :
كان الأستاذ منبعاً ثراً للعطاء ، وكانت حياته مثمرةً وحافلةً بالجهد والعناء ، أما المجالات والميادين التي تجلت فيها عبقريته ونبوغه فهي كثيره ومتنوعة ؛ غير أن جميع ما ألف وكتب ، أنتج وأبدع يمكن حصره في ثلاثة محاور ، يقول الدكتور خالد فهمي بمقاله : ” أنور الجندي … حياة مثمرة ورحيل هادئ “:
” إن عطاء أنور الجندي رحمه الله تركز في المحاور التالية :
الأول : التعريف بالإسلام نقيا غير مكدر ، والتعريف بمطالب الحركة الإسلامية الوليدة حيث يرى ذلك تكليفاً .
الثاني : مواجهة أفكار الغرب والاستشراق وتابعيه في الداخل ، وتصحيح الأخطاء التي طالما أثارها خصوم الله وأعداء الإسلام والجاهلون بحضارته .
الثالث : التصدي لرموز التغريب في الداخل ، الذين انطلى على كثير من أبناء المجتمعات الإسلامية كتاباتهم بفعل الآلة الإعلامية ” [10] .
بين التنوير والجندية :
بعض الأسماء تنطبق على المسميات تمام الانطباق ، فكانت تؤثر أيما تأثير في أصحابها ، وتكون لها دلالات واضحة على حياة الإنسان وأعماله ومآثره ، فإذا نظرنا في حياة الأستاذ أنور الجندي من هذه الناحية ، وجدنا أن لأعماله نصيباً وافراً من اسمه ، فمعظم إنتاجاته وكتاباته يدور حول ” التنوير والجندية ” . وقد ألقى الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله شعاعاً من الضوء على هذا الجانب بأسلوب بليغ بديع ، فقال :
” كان للأستاذ أنور الجندي من اسمه نصيب أي نصيب ، فكانت حياته وعطاؤه وإنتاجه تدور حول محورين : النور أو التنوير ، والجندية . فقد ظل منذ أمسك بالقلم يحمل مشعل ( النور ) أو ( التنوير ) للأمة ، وأنا أقصد هنا : التنوير الحقيقي ، لا ( التزوير ) الذي يسمونه ( التنوير ) .
فالتنوير الحقيقي هو الذي يرد الأمة إلى النور الحق الذي هو أصل كل نور ، وهو نور الله تعالى ممد الكون كله بالنور ، وممد قلوب المؤمنين بالنور : نور الفطرة والعقل ، ونور الإيمان والوحي : ” نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِى ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ ” ( النور : 35 ) .
وكان أهم معالم هذا التنوير مقاومة التغريب والغزو الفكري ، الذي يسلخ الأمة من جلدها ويحاول تغيير وجهتها ، وتبديل هويتها ، وإلغاء صبغتها الربانية : ” صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً ” ( البقرة : 138 ) ، وكان واقفاً بالمرصاد لكل دعاة التغريب ، يكشف زيفهم ، ويهتك سترهم ، وإن بلغوا من المكانة ما بلغوا ، حتى رد على طه حسين وغيره من أصحاب السلطان الأدبي والسياسي .
وقال الجندي يوماً عن نفسه حين سئل من أنت ؟ :
” أنا محام في قضية الحكم بكتاب الله ، ما زلت موكلاً فيها منذ بضع وأربعين سنة ، حيث أعد لها الدفوع ، وأقدم المذكرات ، بتكليف بعقد وبيعة إلى الحق تبارك وتعالى ، وعهد على بيع النفس لله ، والجنة – سلعة الله الغالية – هي الثمن لهذا التكليف ” إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ ” ( التوبة : 111 ) ” .
كان النور والتنوير غايته ورسالته ، وكانت الجندية وظيفته ووسيلته ، لقد عاش في هذه الحياة ( جندياً ) لفكرته ورسالته ، فلم يكن جندي منفعة وغنيمة ، بل كان جندي عقيدة وفكرة …… كان يحرص على أن يكون جندياً يعمل في الصفوف الخلفية ، لا يسعى لأن يكون قائداً يشار إليه بالبنان ، وكان همه أن يكون ( جندياً مجهولاً ) يعمل حيث لا يراه الناس ، بل حيث يراه الله ، فهو وليه ونصيره ، وكفى بالله ولياً ، وكفى بالله نصيراً ” [11] .
خصائصُ أسلوبه وكتاباته البارزة :
ولكل كاتب وأديب طبيعة في الكتابة تختلف عن طبيعة الآخر ، فبعض الكتاب يعنَون بالأفكار والمعاني ، وبعضهم يعتنون بالأشكال والصور ، ومنهم من يجمعون بين الفكرة والصورة اللفظية معاً ، وكذلك لكل من الكتاب والأدباء أسلوب يتميز به ، وطريقة للكتابة تمتاز عن غيرها ، فبعض منهم يميلون إلى الإيجاز والاختصار ، وبعض منهم يميلون إلي الإطناب والتبسيط ، وبعض منهم يؤثرون الغموض والالتواء ، وبعض منهم يحبون الوضوح والفصاحة .
أما الأستاذ أنور الجندي فكان كاتباً نقي الأسلوب ، واضح الفكرة ، فصيح العبارة ، وجميع كتاباته تتميز بالأسلوب الأدبي الرفيع ، والبيان البديع ، والحرارة الصادقة في العاطفة ، وتمتاز بحسن السبك ومتانة الحبك ، وغزارة المواد وسعة المعلومات ، وإشباع الموضوع .
يقول الدكتور يوسف القرضاوي مبيناً سمات أسلوبه البارزة :
” كان الأستاذ أنور الجندي يميل في كتاباته إلى التسهيل والتبسيط ، وتقريب الثقافة العامة لجمهور المتعلمين ، دون تقعر أو تفيهق أو جنوح إلى الإغراب والتعقيد ، فكان أسلوبه سهلاً واضحاً مشرقاً ” [12] .
ويقول الأستاذ إبراهيم عثمان عبد الرحيم :
” أسلوب الكاتب والمفكر أنور الجندي في كتاباته تلج به في رحاب الأدب الإسلامي ، الذي يتصف بنظافة وبراءة الأدب من فاحش الكلام ، ويبتعد عن الأدب الذي يصف العورات ، ويثير الشهوات ، ويستبيح الحرمات ” .
ويضيف قائلاً : ” يبحث في كتاباته عن الحق والوصول إلى فكر إسلامي يدحض آراء المستشرقين ويبددها ” [13] .
قد أتى على أسلوبه وكتاباته أدوار مختلفة ، ولها أثر بالغ في كتاباته ، فيقول الأستاذ إبراهيم عثمان عبد الرحيم : ” ولقد اتسم أسلوبه في الفترة من 1940م حتى 1950 بنقد المجتمع … وتدرج في معالجة الواقع في كتاباته من عام 1950م حتى عام 1964م ، وفي عام 1964م بدأ في كتاباته بتصحيح المفاهيم حيث تصدى للدفاع عن ثقافة الأمة وحضارتها ، وأدبها وتاريخها ، ومواجهة الاستشراق ، والتغريب في تلك الفترة ” [14] .
ومما يمتاز به الأستاذ الجندي أنه إذا أراد أن يكتب على موضوع ، استوعب أولاً ما يريد أن يكتبه ، ثم كتب ، فإذا كتب بعد ذلك ، أشبع وأفاض ، أفاد وأجاد ، وهذا هو شأن الكاتب الشاعر بالمسؤولية والملتزم بقواعد الكتابة ، والمحترم لثقافة القارئ ، فالذي يكتب بدون الإعداد المسبق ، وبدون المعرفة التامة بالموضوع الذي يريدالكتابة حوله ، لا يعود ما يكتب بفائدة كثيرة .
وعن هذا الجانب المهم والخصيصة الغالية يقول الأستاذ عصام تليمة بقوله : ” إنه لا يقدم على كتابة كتاب إلا إذا رأى فائدةً ترجى من ورائه ، وكان لا يقدم على كتابة موضوع ، أو إبداء رأي إلا إذا كان ملمّاً به إلماماً كاملاً ” [15] .
ومن خصائص كتاباته أنها اهتمت بكشف الزيف والأباطيل التي راجت وانطلت على الكثير من المثقفين ، فالأستاذ حذر من كتب طفحت بالسموم والزيف ، ومن كتب لا يعتمد عليها في التاريخ ولا في الدين ، كما حذر من كتّاب اشتهروا بيننا بالكتابات الإسلامية ، وبين الدعاة الأصلاء من الدخلاء ، وكذلك حذر من رموز سياسية أحاطتهم الأمة بهالة من التوقير ، فكشف موقفهم من الإسلام وقيمه [16] .
موقفه من اللغة العربية الفصحى :
كان الأستاذ من الكتاب والأدباء الذين اعتزوا باللغة العربية الفصحى واعتبروها جزءاً من الإسلام ، ودافعوا عن الفصحى دفاعهم عن الإسلام ، وقاوموا العامية مقاومةً شديدةً ، ويمكن أن ندرك مدى غيرته على العربية الفصحى بالحوار الذي أجراه معه الأستاذ صلاح رشيد في أخريات أيامه ، فلما سأل : ما هي القضايا الثقافية التي ينبغي أن تكون هي الشغل الشاغل لأدبائنا ومثقفينا في الوقت الراهن ؟ قال :
” على الأدباء والمثقفين عامةً أن يدركوا أنهم على بر الأمان ، ولا خوف عليكم ما تمسكوا بالعربية ” لغة القرآن ” ، لغة أكثر من ألف مليون مسلم ، وليس مأة مليون هم الغرب وحدهم ؛ لأنه ما تزال قوى التخريب وفلول الاستعمار والأحقاد والغزو الثقافي تطارد اللغة العربية الفصحى مطاردةً شديدةً ، وهناك اتجاه تغريبي يرمي إلى هدم الفصحى وعزلها والمبالغة في أهمية اللهجات العامية والعناية بدراستها باعتبارها اللغة المستعملة ، ولقد اعتقد المسلمون –واعتقادهم حق – أن لغتهم جزء من حقيقة الإسلام ؛ لأنها كانت ترجماناً لوحي الله ، ولغة لكتابه ، ومعجزة لرسوله ، ولساناً لدعوته ، ثم هذبها الدين بانتشاره ، وخلدها القرآن بخلوده ، والقرآن لا يسمى قرآناً إلا بها ، والصلاة لا تكون صلاةً إلا بها ، فلكل لغة منهجها الفكري القائم على معانيها ومضامينها ” [17] .
انتقاده الشديد على الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي :
وقد جاء فيما سبق أن الأستاذ الجندي كان كاشفاً لزيوف دعاة التغريب ، وهاتكاً أستارهم غير مبال بما يحملون من شهادات عالية ، وألقاب سامية ، ومكانة سامقة ، وشهرة واسعة ، كان يعتبر نفسه حارساً أميناً لقلعة الإسلام من المغيرين عليه من جميع الأعداء : المكشوفين والمقنعين ، وكان الدكتور طه حسين ممن حاولوا تشويه صورة الإسلام النقية ، وطمسوا معالمه المشرقة ، وهدموا أساسه المتين ، وكل ذلك في لبوس المسلمين ، فأدى الأستاذ الجندي واجبه ودوره نحو الإسلام ، ونفى عنه تحريف الدكتور وانتحاله ، وتأويله وتلبيسه ، وهتك ستره ، وكشف خبيئته ، وهدم عمادته للأدب العربي حين تناوله بنقد شديد لاذع في نفس الحوار الذي سبق ذكره في السطور المذكورة ، فقال فيما قال في الحديث عن طه حسين :
” هل يمكن أن يكون طه حسين عميداً للأدب ، وهو يزدري الأدب والأدباء ؟! أو قائداً لثقافة أمة ، وهو منكر لمفاهيمها ، ولا يدين لها بالولاء ؟! كيف يمكن أن يكون موضعَ القيادة وموضعَ الثقة من يقول : ” إن الإنسان يستطيع أن يكون مؤمناً وكافراً في وقت واحد ، مؤمناً بضميره ، وكافراً بعقله ” ؟
هذا مفهوم كنسي غربي مسيحي يرفضه الإسلام وينفر منه ، ذلك أن الإسلام هو دعوة التوازن بين الروح والمادة ، والعقل والقلب ، دين الطمأنينة والسكينة الروحية والالتقاء بين القيم على هدى وبصيرة ” [18] .
أنصف الأستاذ الجندي أقواماً وكشف آخرين :
يذكر للأستاذ الجندي بحروف من نور أنه الرجل الذي أسس مدرسة الأصالة الفكرية المعاصرة في الأدب ، فأنصف أقواماً وكشف آخرين ، ففي الاجتماع كشف زيف فرويد ، وماركس ، ودارون ، ودوركايم ، وفي الفلسفة أنصف الغزالي ، وابن رشد ، والفارابي ، وابن سينا ، والخيام [19] .
آثاره ومؤلفاته :
يعرف الأستاذ بغزارة الإنتاج وكثرة المؤلفات ، فلقد ترك 350/ مؤلفاً – ما بين موسوعة ، وكتاب ورسالة – في الآفاق المختلفة : من الدين والأدب ، والسياسة والتاريخ ، والاجتماع والفلسفة ، والسير والتراجم . يقول الأستاذ الدكتور حلمي القاعود :
” امتاز أنور الجندي – رحمه الله – بالقدرة على التأليف الموسوعي والمعجمي ، وإعداد الكتب الضخمة الممتدة التي تتناول جزئيات كثيرةً ، وفروعاً شتى ، ولذا يجد القارئ في مؤلفاته موسوعات متنوعةً ، تتناول أصول الإسلام ، ومناهج العلوم والأدب العربي ، والتاريخ الإسلامي ، والدعوة الإسلامية ، وأعلام العرب والمسلمين المعاصرين منهم والقدامى ، والصحافة الحديثة والمعاصرة ، والتبشير ، والاستشراق ، والتغريب ” [20] .
من أهم كتبه ومؤلفاته في الآفاق المختلفة :
- اليقظة الإسلامية في مواجهة التغريب .
- تصحيح المفاهيم الإسلامية .
- سموم الاستشراق والمستشرقين .
- محاكمة فكر طه حسين .
- الوجه الآخر لطه حسين .
- هل غيَّر الدكتور طه حسين آراءه في سنواته الأخيرة ؟
- أخطاء المنهج الغربي الوافد .
- نقد مناهج الغرب .
- تاريخ الصحافة الإسلامية .
- تميز الأدب الإسلامي وأصالته .
- جولات في الأدب والفن والحياة .
- الفصحى لغة القرآن .
- أضواء على الأدب العربي المعاصر .
- أدب المقاومة والجهاد .
- آفاق جديدة في الأدب .
- الشباب المسلم : قضاياه ومشكلاته .
- آفاق جديدة للدعوة الإسلامية في عالم الغرب .
- الإسلام في معركة التغريب .
- الإسلام والدعوات الهدامة .
- الشبهات والأخطاء في الفكر الإسلامي .
- أضواء على تاريخ الإسلام .
- الحضارة في مفهوم الإسلام .
- أخطاء في كتابة التاريخ الحديث .
- أخرجوا من بلادنا .
- استعمار أم استغراب ؟
- الزعامة والحكم في الإسلام .
- الدرة المغتصبة بعد ثلاثين عاماً ” فلسطين ” .
- الرسول الخاتم ، المثل الأعلى والقدوة الحسنة .
- حسن البنا الداعية الإمام والمجدد الشهيد .
- أعلام لم ينصفهم جيلهم .
- الأئمة الأربعة .
- أعلام القرن الرابع عشر الهجري .
- أحاديث إلى الشباب المسلم .
- الأخطار التي تواجه الأمم .
- التربية وبناء الأجيال في ضوء الإسلام .
- أضواء على الحياة .
- أخطاء الفلسفة المادية .
- التأصيل الإسلامي والخروج من التبعية .
- إعادة النظر في قضايا الفلسفة المادية .
ومن أهم موسوعاته :
- مقدمات المناهج والعلوم ( 10جزءاً ) .
- دائرة الضوء ( 50 جزءاً ) .
- معلمة الإسلام ( 50 جزءاً ) .
- على طريق الأصالة الإسلامية ( 20 رسالة ) .
- موسوعة رسائل إلى الشباب المسلم ( 10 جزءاً ) .
- موسوعة معالم الأدب العربي المعاصر ( 17 مجلداً ) .
- الموسوعة الإسلامية العربية ( 25 كتاباً ) .
( للبحث صلة )
* الباحث بمركز الإمام البخاري للبحوث والدراسات الإسلامية ، بعلي جراه ، بأترابراديش ، بالهند .
[1] أنور الجندي ، ويكيبيديا ، الموسوعة الحرة ، وموقع إسلام أون لاين .
[2] ويكيبيديا السابق .
[3] موقع إسلام أون لاين .
[4] alwatanvoice.com بعنوان : ” مع أنور الجندي في دفاعه عن الفكر العربي والإسلامي ” .
[5] ويكيبيديا ، الموسوعة الحرة .
[6] www.alarabnews.com بعنوان : ” أنور الجندي .. رائد الأصالة والتنوير ” .
[7] موقع إسلام أون لاين ، بعنوان : ” أنور الجندي … الزاهد الرباني الدؤوب ” .
[8] صحيفة رأي اليوم ، بعنوان : ” الزاهد – في صحبة الأستاذ أنور الجندي ” .
[9] www.alarabnews.com
[10] موقع الإسلاميون ، بعنوان : ” أنور الجندي … حياة مثمرة ورحيل هادئ ” .
[11] في وداع الأعلام : 17 – 18 ، الدكتور يوسف القرضاوي ، الطبعة الأولى : محرم 1424هـ /مارس 2003م ، دار الفكر المعاصر ، بيروت .
[12] نفس المصدر : 15 .
[13] صحيفة روز اليوسف ، بعنوان : ” أنور الجندي رائد من رواد الأدب الإسلامي ” .
[14] نفس المصدر .
[15] موقع إسلام أون لاين بعنوان : ” أنور الجندي … رجل بكته الأرض والسماء ” .
[16] راجع نفس المقال على الموقع ذاته .
[17] موقع إسلام ويب ، بعنوان : ” حوار مع المفكر الراحل أنور الجندي ” .
[18] موقع إسلام ويب ، بعنوان : ” حوار مع المفكر الراحل أنور الجندي ” .
[19] موقع إسلام أون لاين ، بعنوان : ” أنور الجندي ، الزاهد الرباني الدؤوب ” .
[20] الزاهد ….. في صحبة الأستاذ أنور الجندي : 48 .