عبادة العباد

حفظ الفروج – وقاية صحية
نوفمبر 22, 2024
حب النبي صلى اللّه عليه وسلم
ديسمبر 23, 2024
حفظ الفروج – وقاية صحية
نوفمبر 22, 2024
حب النبي صلى اللّه عليه وسلم
ديسمبر 23, 2024

الدعوة الإسلامية :

عبادة العباد

الدكتور أشرف شعبان أبو أحمد *

سجل لنا التاريخ الإسلامي أن حواراً دار بين الصحابي الجليل ربعي بن عامر ورستم قائد الفرس ، عن الأفكار العامة للإسلام ، قال فيها ربعي بن عامر رضي الله عنه : لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، فمن قبل ذلك منا قبلنا منه ، وإن لم يقبل قبلنا منه الجزية ، وإن رفض قاتلناه حتى نظفر بالنصر . وقوله : ابتعثنا الله تدل على أنه ابتعثنا مثل الرسل ، فالله سبحانه وتعالى كلفنا بمهمة ، كان الرسل مكلفين بها ، وبما أنه لم يعد هناك أنبياء ورسل ، فنحن الذين نتحمل هذه المهمة إلى يوم القيامة . ثم قال : لنخرج العباد ، كل العباد في مشارق الأرض ومغاربها ، على اختلاف الأزمنة والأمكنة ، ثم قال : من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .

فأهل فارس لم يكونوا يعبدون كسرى ، وأهل الروم لم يكونوا يعبدون قيصر ، لكن كان هؤلاء الزعماء كسرى وقيصر ومن كان على شاكلتهم ، يشرع لقومه ، ويضع قوانين مخالفةً لما أمر الله عز وجل به ، فهذا التشريع هو عبادة لهم . والمسلمون لهم مهمة في منتهى الوضوح ، وهي إخراج العباد من عبادة العباد ، إلى عبادة رب العباد . ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، وهذه المهمة التي كان يفهمها الصحابي الجليل الذي خاطب رستم في موقعة القادسية ، وكان يفهمها كل الصحابة ، هي مسئولية كل المسلمين في كل وقت وحين . وعندما سمع عدي بن حاتم قوله تعالى : ( ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [ سورة التوبة : 31 ] ، قال : يا رسول الله ! إنا لسنا نعبدهم . فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : أليسوا يحلون ما حرم الله فتحلونه ، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ قال : بلى . قال عليه الصلاة والسلام : فتلك عبادتهم ، تبين الآيات أن أحبار اليهود ، ورهبان النصارى ، شرعوا لأتباعهم من كلا الفريقين ، ما يحلون به ما حرم الله ، ويحرمون ما أحله ، فأطاعوهم ، فكانت تلك عبادتهم       لهم ، وبتشريعهم هذا اتخذوهم أرباباً من دون الله ، وينطبق هذا على كل من أطاع مشرعاً في استحلال ما حرم الله وتحريم ما أحل الله ، سواءً كان هذا المشرع عالماً أو حاكماً أو مجلساً من المجالس التشريعية التي تشرع وتسن من القوانين ما هو مخالف لما شرع الله . وعن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : ” تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش إن أعطى رضي وإن منع سخط ” ، فالرضا والسخط عنده مرتبط بالأخذ والمنع ، أي بمدى منفعته واستفادته الشخصية ليس إلا . قال الإمام ابن تيمية : فالمحبوبات المعظمة ، لغير الله ، قد أثبت الشارع فيها اسم التعبد ، كما ورد في الحديث السابق . وهذه الأربعة على سبيل المثال لا الحصر ، فمن أحب شيئاً ، وتعلق قلبه ونفسه وجوارحه به ، وسخر حياته له ، وكان شغله الشاغل ، وكان غاية قصده ومراده ، يتفانى في جمعه إن كان متاعاً أو مالاً ، وفي رضاه والتذلل والخضوع والتملق والإخلاص له إن كان شخصاً أو سلطةً ، يعمل له ، لا لله ، يوالي لأجله ، ويعادي لأجله ، ويرتكب ما لا يجوز وما لا يصح مرضاة له ، يذعن له ويطيعه فيما أمر ونهى ، يهابه ويخشى نقمته وغضبه ، يعتقد بأن بيده حياته أو مماته ، وفقره أو غناه ، ونفعه أو ضره ، وضحكه أو بكاءه ، يتوكل ويعتمد عليه ، وإليه يدعو ويرجو ، وفيما عنده يرغب ، ولا يستعين أو يستغيث إلا به ، لا يتوانى عن شكره والثناء عليه ، والتغني بفضله وعظمته ، فإن كان هذا هو حاله ، فقد صار عبداً له ، وإن لم يصل له ، ولم يسجد له ، أو كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام ، عبداً تعساً له . وصار ذلك معبوده وإلهه ، وإن لم يكن كما يظن ويعتقد ، وإن لم يمنحه ما يطمح فيه .

نخلص مما سبق إنه يمكن للإنسان أن يتخذ معبوداً له من دون الله ، سواء كان على دراية بذلك أم لم يكن ، وسواء كان مكرهاً على ذلك أو طائعاً مختاراً ، وسواء كان هذا المعبود بشراً ، أم أحد المحبوبات المعظمة للنفس ، كالتي سبق ذكرها ، وطالما أن عبارة         ” عبادة العباد ” التي قالها ربعي بن عامر رضي الله عنه ، لم ينكرها عليه ممن عاصره ، ولا ممن تناقلوها عنه ، ولا ممن تناولوها وتداولوها عبر كتب التاريخ على مر العصور ، لذا يمكن إطلاقها ، كلما تواجدت الأحداث والوقائع الدافعة لقولها ، وسواء كان هذا الملك أو القائد أو الرئيس أعجمياً أو عربياً ، وسواء كانت هذه الدولة أو البلد مسلمةً أو غير مسلمة .

وعلى مدار التاريخ تعددت المعبودات في حياة البشرية ، وقد اختارها الإنسان ظناً منه إنها ترزقه أو تحميه أو تقيه شر الطبيعة والظواهر الطبيعية أو من الحيوانات المفترسة أو تحل له مشاكله وتشفيه من الأمراض أو إنها تلبي له احتياجاته وإشباع غرائزه وشهواته ، فمنهم من عبد الشمس أو القمر أو الكواكب ، ومنهم من عبد النار ومنهم من عبد البقر ومنهم من عبد الملائكة أو الأشجار أو الأحجار أو القبور أو الأضرحة أو الأصنام .

وفي مجال عبودية البشر ، نجد التشريعات التي هي سبب العبودية ومرجعها الأول والأخير ، اتسعت في كثير من الأحيان ، لتشمل حياة البشر منذ ولادتهم حتى مماتهم ، ومنذ استيقاظهم حتى منامهم ، فمن الناس من يخيل له أنه أرقى جنساً ، وأسمى عنصراً من سائر البشر ، وأنه ما خلق إلا ليقود ويسود ، وأن غيره ما خلقوا إلا ليقتادوا ويساسوا ، وهم مسخرون ومقهورون ، وسواء كان هذا التخيل لفرد أو لطبقة أو لجماعة أو لهيئة أو لدولة ، وتخيله هذا يدفعه للتحكم في مصائر ما تحت يديه ، ومن يخضعون لسلطته من البشر ، يوجههم كيفما شاء ، يقرر لهم تعليماً لا يزيدهم إلا جهلاً وأميةً ، ويلزمهم بوظائف لا تتناسب مع إمكانياتهم وقدراتهم ، يفرض عليهم دخلاً يحقق أدنى مستوى معيشي ، يتساوى فيه من يجتهد ، ومن لا يجتهد في العمل ، يوجب عليهم الزواج والإنجاب أو يحظره عليهم ، يعين لهم ما يشاهدون وما يسمعون وما يقرأون وما يفكرون فيه ، وليس لهم الخيرة في أي أمر من أمور حياتهم ، بل إليه يرجع الأمر كله . وعلى الجانب الآخر ، نجد من الناس من يعلو بهذا الشخص فوق منزلته ، ويضيف عليه هالة من القدسية ، ويحكي عنه وينسب إليه من المعجزات والأساطير ، ما لا يتقبلها عقل أو يصدقها حدس ، مما ترفعه لمنزلة الإله ، كالتي تقوم به بعض الأجهزة والهيئات ، من تأليه الطواغيت ، وجعلهم فوق البشر ، تنفخ وتلمع فيهم ، وتنزههم عن الخطأ وعن الزلل ، فهذا هو القائد الفذ ، والعبقري الملهم ، وصانع الحاضر والمستقبل ، خطواته هي المعروف بعينه ، ولسانه ينبوع الحكمة ، لا يوجه له نقد ولا قدح ، ولا يسأل عما يفعل ، حتى ولادته وسيرته فإنها خارج نواميس البشر ، وملامحه مميزة لا يمكن رسمها أو وصفها ، ولا يتشابه فيها مع أحد ، فينصاع لها البسطاء والجهلاء وأصحاب الذمم والضمائر المباعة والمنتفعون والمأجورون ، فيؤدون له كافة فروض الطاعة والولاء طائعين مختارين .

وقد ضرب القرآن الكريم مثلاً بفرعون ، فقد اعتبر نفسه مرشداً ، فقال كما نصت سورة غافر الآية 29 ( مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ ) فضلاً عن أنه كان يدعي أنه هو حاكم هذا الشعب بشريعته وقانونه ، وإنه بإرادته وأمره تمضي الشئون وتقضى الأمور ، وقد أصيب بجنون العظمة ، فقال ( يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِي ) [ الزخرف : 51 ] ، ثم انتقل لمرحلة متقدمة في الألوهية ، وقال ( أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ ) [ النازعات : 24 ] ، ثم اختص نفسه وحدها بالألوهية ( مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِى ) [ القصص : 38 ] ، ولم يكن لفرعون أن يستخف قومه فيطيعوه ، لو لم يكونوا فاسقين ، عن دين الله ( فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ) [ الزخرف : 54 ] وفي مصر أيضاً ، مظهر آخر للنظرة الدنيوية للبشر ، عندما قال الخديوي توفيق للزعيم أحمد عرابي : كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها ، وإني ورثت هذه البلاد عن آبائي وأجدادي ، وما أنتم إلا عبيد إحساننا . أي أنتم رهن بما نحسن به منا عليكم من عطايانا . فرد عليه عرابي : نحن خلقنا الله أحراراً ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً ، فوالله الذي لا إله إلا هو ، إننا لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم .

وترجع عبودية البشر ، لما جبلت عليه البشرية منذ قديم الأزل ، وما تأصل في ثقافات العديد من الشعوب القديمة ، فالمصادر التاريخية تخبرنا بأن الرق كان أمراً سائداً عند الأمم السابقة ، فقد كان منتشراً عند قدماء المصريين والبابليين والبراهمة والفرس والروم والعرب ، وأقرته اليهودية والنصرانية واعترف به فلاسفة اليونان وفقهاء القانون ، وخلال القرون الطويلة الغابرة من العبودية ، وبمقدار عطنها في التاريخ ، تأصلت في طبائع هؤلاء البشر ، وانطبعت أفعالهم وأقوالهم ببعض الصفات والنعوت ، استحكمت في نفوسهم ، وتعمقت في وجدانهم ، والتصقت بحياتهم ، وبعد مماتهم أصبحت إرثاً يتوارثونه جيلاً بعد جيل ، وهو الذي دفع أبناءهم وأحفادهم وذريتهم وسائر أعقابهم ، خلف عن سلف ، إلى تحسسها والتماسها والبحث عنها أينما وكيفما وجدت ، ومع إلغاء شبه تام لتجارة العبيد والعبودية ، في شتى دول العالم الغربي والعربي ، تشكلت أنواع متنوعة ، في تعاملات البشر بعضهم لبعض ، لا تخرج عن كونها تكريساً لمفهوم العبودية القديم ، المتعارف عليه والمعتاد عليه ، ولكن بصور حديثة توأم العصر ، مع اختلاف أن عبيد الماضي كانوا يدركون أنهم عبيد ، ويعرفون من هو سيدهم ، أما عبيد اليوم فهم يجهلون من هو سيدهم ، وهل هو فرد أو أكثر ، وهل هو شخص بعينه أو شخص اعتباري ، فهم مغيبون ولديهم صورة مبهمة عما هم عليه . ينطبق عليهم قول المتنبي :

لا تحسبوا رقصي بينكم طرباً   فالطير يرقص مذبوحاً من الألم

ويبين لنا الإسلام أن الله عز وجل خلق الإنسان حراً ، وأمده بمستلزمات البقاء على حريته ، من عقيدة يؤمن بها ، تؤكد على عدم عبوديته لغير الله ، وشريعة تحمي وتصون حريته ، وتكفل له الدفاع والاستماتة للحفاظ عليها . أما إذا حاد الإنسان عن هذا ، واتخذ من دون الله آلهةً ، أو أرباباً أو أنداداً أو أولياء ، وأشرك في عبوديته لله ، واعتقد أن هناك من بيدهم أجله ورزقه ، وجوعه وشبعه ، ومرضه وشفاه ، وعزته وذلته ، وأمنه وفزعه ، أو من اتخذ هواه إلهاً ، وصيرت حياته للجاه والمال والحسب والنسب لذاتهم لا لله ، أو لم يفعل من ذلك شيئاً ، ولكنه استسلم لمن غزاه في داره وسلب ماله واغتصب أرضه وهتك عرضه وتملك فكره ورأيه ومقدراته ، فقد وقع أسيراً للعبودية . روى الطبراني عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ” من أصبح وهمه الدنيا فليس من الله في شيئ ، ومن لم يهتم بالمسلمين فليس منهم ، ومن أعطى الدنية أي ” رضي بالذل والخضوع للظالمين ” من نفسه طائعاً غير مكره فليس منا ” ، فالمسلم لا يقبل الذل ولا يقيم على الضيم ولا يصبر على الهوان ولا يستسلم للمكروه . كما سجل التاريخ للفاروق عمر رضي الله عنه ، رفضه لاستعلاء واستكبار فرد على آخر ونظرته الدنيوية إليه ، ولو كان هذا من ابن والٍ أو أمير على بلد ما ، ففي تلك الحادثة التي قيلت فيها عبارة ” متى استعبدتم الناس ” ، والتي كان أحد الخصمين فيها قبطياً غير مسلم ، أما الخصم الآخر فلم يكن مسلماً وحسب بل كان ابن عمرو بن العاص أمير مصر في ذلك الوقت ، لكن ذلك لم يمنع أمير المؤمنين ، من إنصاف الرجل القبطي ، الذي جاء من مصر صحبة أبيه ، ليشتكي له ، من أن ابناً لوالي مصر ، قد ضربه بالسوط ، لأنه سبقه في سباق للخيول جرى بينهما ، وهو يقول له : أتسبقني وأنا ابن الأكرمين ؟ فدفع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لاستدعاء عمرو ابن العاص وابنه إلى المدينة المنورة ، وأتى بالقبطي وأعطاه سوطاً ، ودفعه ليضرب ابن الأمير قصاصاً لنفسه ، فضرب القبطي ابن عمرو حتى استوفى حقه ، ثم التفت عمر رضي الله عنه للقبطي وقال له : لو ضربت عمرو بن العاص ما منعتك ، لأن الابن إنما ضربك لسلطان أبيه ، ثم نظر إلى عمرو بن العاص وقال : ” متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ” . كما قال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لولده الحسن ، رافضاً لعبودية البشر : لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً . وفي هذه المقولة مخاطبة موجهة للعبد وليس للمستعبد ، مخاطبة للضعيف وليس للقوي ، فالضعيف هو الذي يخلق القوي ، والخانع هو الذي يخلق المتجبر ، وليس العكس ، فالمشكلة إذن ليست في المتكبر ولا في الفاعل بل في المستضعف والمفعول به ، اللذين رضيا بما هما عليه . لأن الإنسان عندما يخضع لغيره ، فإن معنى ذلك أنه لا يعيش ذاته ، ولا يعيش إنسانيته في ما خلقها الله وفي ما أرادها سبحانه وتعالى ، فغيره الذي يريد وهو يخضع ، وغيره الذي يفرض عليه موقفه وانتماءه وهو يخشع له ، لذا من سنن الله في الأمم ، ألا يغير ما بها من ضعف وذل واستعباد ، حتى يغيروا ما بأنفسهم ، فيأخذوا بأسباب القوة والعزة والحرية ، قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) [ الرعد : 11 ] .

كما نهى الإسلام عن الغلو في تعظيم الأشخاص وتقديسهم ونفي كل شائبة عنهم ، وإضافة كل مأثرة أو فضيلة أو محمدة لهم ، ونعتهم بما لا يتصف به إلا الله ، أو رفعهم عن منزلتهم التي أنزلهم الله إياها ، فعندما قال بعض الناس : يا رسول الله ! يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا . قال عليه الصلاة والسلام : ” يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله ، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل ” ، رواه أحمد والنسائي . فقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يمدحوه بهذه الألفاظ ، أنت سيدنا أنت خيرنا ، أنت أفضلنا ، أنت أعظمنا ، مع أنه أفضل الخلق وأشرفهم على الإطلاق ، لكنه نهاهم عن ذلك ، وأرشدهم أن يصفوه بصفتين وهما عبد الله ورسوله . ولما قال له بعض أصحابه أنت سيدنا فقال : ” السيد الله تبارك وتعالى ” ، ولما قال أحد : ما شاء الله وشئت فقال : ” أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده ” . كما قالت امرأة في زمنه وهي تمدحه : وفينا نبي يعلم ما في غد . فنهاها صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن علم الغيب من خصائص وصفات الله . فلا يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغيب إلا ما علمه الله ، ولا يستغاث به ولا يمدح بالكذب ، كما مدحه بعضهم بأن القمر انشق ، ونزل يسلم عليه ، فانشقاق القمر حدث معجزة له ، ولكن ما نزل ليسلم عليه ، ولا يقترن مدحه بمحظور ، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مجاوزة الحد في مدحه فقال : ” لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ” متفق عليه ، ومعناه : لا تزيدوا في مدحي ولا تمدحوني بغير الحق .

ومع إباحة الإسلام تملك العبيد ، فيما أخذ عن طريق الجهاد المشروع ، لكنه حرم استرقاق الأحرار من غير أسرى الحرب ، وأكد على الإحسان لهم وتعليمهم وتأديبهم وإكرامهم ، وحض على إعتاقهم ، ورغب في ذلك ترغيباً ظاهراً ، وأكثر من مجالات العتق ككفارة الحنث باليمين ، والظهار ، والقتل الخطأ ، والجماع في نهار رمضان ، وفرض نصيب في الزكاة لتحريرهم ، فالعتق قربة ومن أفضل القرب إلى الله ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : ” أيما امرئ مسلم أعتق امرأً مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار ” ، متفق عليه ، فكان من أعتق رقبة من العبودية كمن أعتق نفسه من النار .

ختاماً يجب على الإنسان أن لا يستعبد نفسه ولا فكره ولا مواقفه لشخص آخر أو لجهة أخرى ، وأن يكون فكره منطلقاً من حركة عقله ، فيما يقبله وفيما يرفضه ، وموقفه من خلال قناعاته ، بأنه الموقف الحق ، وإرادته منطلقة من التزامه ، بأن ما يريده هو الإصلاح والصلاح ما استطاع إليه سبيلاً ، واختياره هو الاختيار الموفق بفضل الله وتوفيقه ، وهذا لم يمكن حدوثه ما لم يسر على هدي من الله وسنة نبيه عليه أفضل الصلاة وأتم السلام .

* جمهورية مصر العربية .