عالم يتعجل إعدامه ليلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم

48/ سنةً
يناير 9, 2023
مريم جميلة ( مرجريت ماركوس )
مارس 15, 2023
48/ سنةً
يناير 9, 2023
مريم جميلة ( مرجريت ماركوس )
مارس 15, 2023

رجال من التاريخ :

عالم يتعجل إعدامه ليلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم

الدكتور غريب جمعة – جمهورية مصر العربية

يقص علينا التاريخ الأمين الصادق أروع القصص عن العلماء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وباعوا أنفسهم له جل جلاله فضربوا أروع الأمثلة في الإيمان القوي الذي لا تزعزعه الشدائد وإن عظمت والصبر الجميل على المكاره وإن أوجعت ، والاستهانة بالتضحية ولو كانت بالنفس ما دامت في سبيل الله .

وهيأ بنا نتعرف – بإيجاز – على واحد من أولئك العظماء الذين صاروا كالنجوم يهتدي بها المدلجون والغيث الذي ينتجعه الظامئون .

إنه العالم الجليل الشيخ عاطف الاسكليبي الذي لا يعرفه إلا القليل بل ربما أقل من القليل . فمن هو هذا العالم المجاهد الذي تعجل إعدامه ليلحق بحبيب الله صلى الله عليه وسلم .

الاسم والنشأة والتعليم والمناصب التي تولاها :

اسمه : محمد عاطف ويطلق عليه عاطف أفندي أو عاطف خوجة وكلتا الكلمتين ( أفندي وخوجة ) تعني عالم الدين بالتركية .

ولد – يرحمه الله – عام 1876م في قرية طونجا التابعة لاسكليب في منطقة الأناضول في بيت عرف بالعلم والخلق الكريم وعلو النسب .

وقد بدأ تعليمه الأولي عام 1891م في اسكليب ثم انتقل إلى استانبول عام 1893م فأنهى دراسته الدينيه وعمره ستة وعشرون عاماً .

ثم حصل على إجازته العلمية عام 1902م ثم التحق بكلية الإلهيات التابعة لجامعة استانبول وتخرج فيها بتفوق عام 1905م ، وعُين معلماً في جامع الفاتح وهكذا بدأ حياته الوظيفية بالتدريس ولكنه لم يقف عنده فقط بل شارك بمقالاته في مجلتي ” بيان الحق ” و ” صراط مستقيم ” وكانتا من أشهر المجلات في الدولة العثمانية في وقتها .

بل إنه حينما أجريت الانتخابات في عهد الاتحاد والترقي اختاره أهل جوروم نائباً عنهم في البرلمان التركي فانتقد حكم الاتحاد والترقي بكل جرأة وصراحة .

ثم عُين مديراً عاماً للمدرسة الداخلية باستانبول فنهض بها نهضةً كبيرةً جعلتها محط رحال طلبة العلم وكذلك المسلمون الوافدون إلى استانبول من تركيا ومن كل جهات العالم حيث كان الشيخ مرجعاً للفتوى في أمور دينهم ولم يرد قاصداً فزاده الله علماً ورفع شأنه بين المسلمين .

ولم يكن عمله مديراً للمدرسة سالفة الذكر ليحول بينه وبين التدريس في أماكن أخرى فقد قام بتدريس مادة التفسير بالقسم العالي بمدرسة دار الخلافة ومادة حكمة التشريع في مدرسة القضاء في استانبول .

كما اتجه إلى خدمة المجتمع الذي يعيش فيه فقام بتأسيس جمعية ( تعالى إسلام ) أي رفعة الإسلام التي كانت أول من احتج على عدوان اليونان على منطقة أزمير وطالبت برد هذا العدوان .

فكر الشيخ :

من حق ذلك العالم الجليل أن نتعرف على فكره لنعرف كيف كان فهمه للإسلام ، وذلك من خلال مؤلفاته ، وقد أورد الكاتب التركي الكبير نجيب فاضل قائمة بمؤلفات عاطف أفندي في كتابه بعنوان : ” المظلومون من الإسلاميين في العهد الأخير ، الذي أصدره في استانبول عام 1977م وهي كالتالي وكلها باللغة التركية :

  1. مرآة الإسلام
  2. طريق الإسلام
  3. دعوة الإسلام
  4. المسكرات في الإسلام
  5. القوات البرية والبحرية في نظر الشريعة
  6. تقليد الفرنجة والقبعة . وكان هذا الكتاب سبباً للحكم عليه بالإعدام شنقاً كما سيأتي في الصفحات التالية .

يقول الشيخ في كتابه ” مرآة الإسلام ” : ” مذهب أهل السنة والجماعة هو الحق وما عدا ذلك فهو باطل ، واعتقاد أهل السنة هو الطريق الحق المستقيم والذي بينه الله تعالى في القرآن الكريم والذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الشريفة وليس في اعتقاد من اتبع هذا أي اعوجاج ” .

ثم يعرف الخليفة بأنه هو خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومهمته ولاية الأمور الدينية والدنيوية وهو الرئيس العام الذي يدير كل هذه الأمور بشرط أن يكون مسلماً حراً ذكراً بالغاً قادراً على إدارة أمور الأمة وعلى الحفاظ على البلاد وعلى تنفيذ أوامر الدين .

ثم يبين أن على الرعية مسلمين وغير مسلمين إطاعة أوامر الخليقة التي تتفق مع الشريعة الإسلامية وأن يكونوا جنوداً يطيعونه ولا يعصونه ولا يقومون ضده ، أما تنفيذ أوامره التي تخالف الشريعة فحرام .

ثم يوضح مسئولية الأمة تجاه شرع الله فيقول : ” أيتها الأمة إذا كنتم تريدون التخلص من الظلم وإذا كنتم تريدون التحرر من الأسر فاكسبوا انفسكم القدرة على الوفاء بواجباتكم الشرعية ، لا تقبلوا أي ظلم ولا أي عمل يخالف الدين ” .

تلك شذور من فكر الرجل تبين مدى فهمه للإسلام وجهاده لتعريف الناس على الوجه الصحيح .

محنة الشيخ :

قام حزب الاتحاد والترقي بخلع السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909م وهو حزب تسيطر عليه عناصر الحركة الماسونية مع الدعم العالمي بتحريض من اليهود وهو حزب يختلف فكره مع الفكر الإسلامي جملةً وتفصيلاً بل إنه يكره الإسلام ويحاربه حرباً لا هوادة فيها ، وهو أيضاً ضد الجامعة الإسلامية .

ولم يكن الشيخ عاطف بالذي يخفي على رؤساء هذا الحزب الذين دبروا له المكائد ولفقوا له التهم حتى زج به في السجن وتعرض للنفي بعد السجن وذلك على مدى أربع سنوات عجاف حيث أبعدوه عن استانبول إلى سنوب ثم جوروم ثم إلى بوغازليان ثم إلى سنقرلو ثم أطلق سراحه بعد هذه المعاناة الشديدة التي لا يتحملها إلا أولوا العزم من الرجال .

ومضت بضع سنوات ثم كانت الطامة الكبرى في فبراير عام 1924م حيث قام مصطفى كمال أتاتورك ( معنى أتاتورك : أبو الأتراك ) قائد الانقلاب وأعوانه بإصدار ثلاث قرارات في غاية الخطورة وهي :

  1. إلغاء الخلافة
  2. توحيد التعليم
  3. إلغاء وزارة الأوقاف والأمور الشرعية

وفي الثالث من مارس من نفس العام تم تنفيذ قرار الجمعية الوطنية ( مجلس الأمة التركي ) بإلغاء الخلافة وطرد جميع آل عثمان خارج البلاد وتم تنفيذ ذلك ليلة صدور القرار .

وفي عام 1925م صدر قانون الملابس في تركيا والذي يحتم لبس القبعة على الرأس ويحرم لبس الطربوش وكان الشيخ عاطف قد ألف رسالته قبل صدور هذا القرار بستة عشر شهراً حول هذا الموضوع بعنوان : ” تقليد الفرنجة والقبعة ” .

وقد أنحى فيها باللائمة على الأمة الإسلامية التي تقلد الغرب تقليداً أعمى بأخذ القشور وكان ينبغي على المسلمين أن يأخذوا ما ينفعهم فقط من المدنية الغربية وعليهم أن يطوروا أنفسهم دون التنازل عن أخلاقهم ومقدساتهم ونقول ( أي الشيخ ) لا تفريط في الأخلاق الإسلامية ولا تنازل عن الدين في سبيل التطور المادي ولا تقليد للغرب .

واستجاب الناس للرجل لإخلاصه وعلمه وتقواه وجرأته في نفس الوقت .

وكان أتاتورك يرى التخلص من الطربوش نهائياً حتى قال في  ذلك : ” إذا أردنا أن تكون شعباً متمدناً فينبغي أن نرتدي ثياب المتمدنيين الدولية أما الطربوش فهو رمز للجهل ” .

ولكن جماهير الشعب التركي لم تتلق هذا الكلام بالقبول والارتياح ، فلم يجد أتاتورك أمامه إلا أن يفرضه بالقوة الغاشمة فأصدرت الجمعية الوطنية ( مجلس الأمة التركي ) بناءً على أوامره قانوناً يحرم ويجرم ارتداء الطربوش ويعاقب من يضعه على رأسه .

وبعد يومين من صدور هذا القانور أخذ رجال الشرطة يتعقبون المواطنين في الشوارع لينتزعوا الطرابيش من على رؤوسهم .

وتم تشكيل محاكم أطلق عليها محاكم الاستقلال في أنقرة وفي ربوع تركيا لمحاكمة المتمردين الغاضبين من هذا القانون وقد يصل حكمها إلى السجن أو الإعدام شنقاً أو بالرصاص .

محاكمة الشيخ :

وفي اليوم السادس والعشرين من يناير عام 1926م تم القبض على الشيخ الجليل وقدم للمحاكمة لأول مرة أمام محكمة الاستقلال لأنه أول من كتب ضد القبعة قبل أن يصدر قانون تغيير الأزياء ولبس القبعة بستة عشر شهراً كما مر بك .

وكان تقديم الشيخ للمحاكمة نتيجة حادث يقول عنه الكاتب الكبير نجيب فاضل : ” إن هذا الحادث مدبر أسوأ وأحقر أنواع التدبير ” .

وذلك أن شخصاً مختل العقل قام بالصياح بأعلى صوته في مدينة كيراسون التي يقيم بها الشيخ بأنه لن يلبس القبعة لأنه أرسل خطاباً إلى عاطف أفندي يسأله عن حكم ذلك فرد عليه بخطاب حول القبعة وأفتاه بتحريم الشريعة لها .

وتم القبض على هذا المختل ولما سألته الشرطة عن خطاب عاطف أفندي أجاب بأنه فقده .

بعد أن تم القبض على الشيخ أرسل إلى محكمة الاستقلال في كيراسون ثم محكمة الاستقلال بالعاصمة أنقرة .

ولما مثل الشيخ أمام المحكمة وسأله القاضي عن الخطاب الذي يزعم ذلك المختل أنه أرسله إليه أجاب الشيخ : ” بأن ذلك كذب وأن الرجل لم يرسل إليه أي خطاب وبالتالي لم يكتب إليه أي شيئ رداً على هذا الخطاب المزعوم . وقد طالب المدعي العام بالحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات وعندئذ طلب منه القاضي أن يكتب دفاعاً عن نفسه ليعرضه على هيئة المحكمة في اليوم التالي .

رؤيا حق وصدق تظهر معونة الله لأوليائه في الشدائد :

بدأ الشيخ عاطف يكتب دفاعه عن نفسه ولكن إغفاءة أخذته أثناء الكتابة ، استيقظ بعدها مشرق الوجه منفرج الأسارير رابط الجأش ثم مزق الورقة التي يكتب فيها دفاعه عن نفسه .

وفي اليوم التالي سأله القاضي عن دفاعه ، فأجاب : بأنه لا حاجة لي في دفاع لأنني لم أرتكب ذنباً يستوجب الدفاع عن نفسي .

وصدر الحكم بعد ساعة واحدة وهو : الإعدام شنقاً !! .

ونعود إلى معرفة سبب تمزيق الشيخ ورقة الدفاع عن نفسه وثقته بأن الحكم عليه سيكون الإعدام حيث يذكر الأستاذ نجيب فاضل في كتابه سالف الذكر :

” حدثني الشيخ طاهر المولوى بنفسه عام 1930م وكان يحاكم أمام نفس المحكمة قائلاً : جلس الشيخ عاطف أفندي في السجن بعد صلاة العشاء وأخذ يكتب دفاعه عن نفسه كما طلب منه القاضي ثم أغفى قليلاً بعد أيام طويلة لم يذق النوم فيها طمعاً ، أغفى وفي يده ورقة الدفاع الذي لم يكمله ولم يستمر نومه طويلاً وفجأةً فتح عينيه وارتسمت على وجهه ابتسامة عميقة ورقيقة وعجيبة . وسألته : ماذا حدث يا فضيلة الشيخ ؟ ولماذا استيقظت سريعاً ؟ قال الشيخ : حصل المراد من النوم !!! . يعني رأيت الرؤيا التي كنت أنتظرها .

فسألته : ماذا رأيت ؟

اعتدل الشيخ في مجلسه وقال : رأيت فخر الكائنات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقول لي : ” يا عاطف اتشغل نفسك بالدفاع عن نفسك ولا تريد اللحاق بنا ” .

قال طاهر المولوى للشيخ : بماذا تفسر هذه الرؤيا ؟

قال عاطف أفندي : سيعدمونني وسألحق بحبيب الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .

طاهر المولوى : لا شك في صدق الرؤيا قط . إلا أن المدعى العمومي لم يطلب لك إلا ثلاث سنوات !! .

عاطف أفندي : سترى أنهم سيعدمونني ولا أفهم إلا أن الأمر يأتي من أكبر الأبواب .

طاهر المولوى : ليس لدي ما أقوله .

صحيح لم يعد للكلام جدوى وهاهي ذي الورقة التي لم أتم كتابة دفاعي بها أمزقها لألحق بحبيب الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .

وفي اليوم التالي حكمت المحكمة على عاطف أفندي بالإعدام شنقاً على أن ينفذ الحكم فوراً فتم التنفيذ في فجر اليوم التالي ورحل المجاهد العظيم وكأنه يتمثل قول بلال رضي الله عنه : ” وا طرباه غداً ألقى الاحبة محمداً وحزبه ” .

رحم الله الشيخ عاطف رحمةً واسعةً وألحقه بحبيبه صلى الله عليه وسلم ورفع درجته في عليين مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً .