الربانيّة تخلق الرجال
نوفمبر 19, 2023عالم رباني فقدته الأمة
د . محمد مصطفى عبد القدوس الندوي *
هو العالم الشريف الرباني الكبير ، المربي الحكيم البارع ، الأديب الأريب الألمعي النحرير ، الأستاذ العطوف الشفوق ، المعلم المجرّب الناجح ، المحاضر العبقري العصامي ، المفكر الديني الواقعي ، المؤرخ الناقد الواعي ، التذكار الحي للسلف الصالح ، رائد من رواد البعث الإسلامي المعاصرين ، داعية إسلامي ، قائد ديني ، علم من أعلام الفكر الإسلامي البارزين ، خبير بأحوال الأمم والشعوب ، كاتب إسلامي قدير ، راسخ متقن في الأدب العربي قديماً وحديثاً ، صاحب اطلاع تام في الفنون الأدبية ، ناقد مؤرخ في الأدب العربي ، متفضل بخدماته العلمية المتنوعة الجليلة المخلصة ، ذو التصانيف الأنيقة الكثيرة ، المؤسس ورئيس تحرير صحيفة الرائد الأول ، صاحب الآثار الأدبية الغزيرة ، أحد كبار علماء الهند المرموقين الربانيين ، رئيس هيئة قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لعموم الهند ، نائب الرئيس لرابطة الأدب الإسلامي العالمية ، الرياض – المملكة السعودية العربية ، العضو الرئيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ، إداري خبير ، مدير عام لدار العلوم التابعة لندوة العملماء بلكناؤ – الهند ، ابن أخت سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله وخليفته ، سماحة الشيخ العلامة السيد محمد الرابع الندوي الحسني ، الذي وُلد في 6 من جمادى الأولى عام 1348هـ المصادف2/ أكتوبر عام 1929م في دائرة الشيخ علم الله الحسني تكية كلان ببلدة رائى بريلي في ولاية أترابراديش بشمال الهند ، وأتاه الأجل المسمّى المحتوم في تاريخ 21/ رمضان سنة 1444هـ المصادف 13/ أبريل 2023م يوم الخميس ، إنا لله وإنا إليه راجعون .
ومن سعادة حظي أني درست على فضيلة الشيخ أربعة كتب خلال دراستي في دار العلوم التابعة لندوة العلماء بلكناؤ من 1985م إلى 1992م ، وهي : جغرافية جزيرة العرب ، والأدب العربي بين عرض ونقد ، وتهذيب سيرة ابن هشام ، والمعلقات السبع . وفي تلك الفترة قد نهلت من معين علمه الفياض ، ورأيته من قريب ، واكتسبت من حياته المشرقة كثيراً ، ولا شك أنه كان يجمع في شخصيته صفات متنوعةً ومزايا مختلفةً ، وإني أريد أن أسجل منها ما يحمل دروساً ورسالات للطلاب والعلماء والقادة وعامة المسلمين أيضاً ، وهو على ما يأتي :
(1) وكان على جانب عظيم من حسن الخلق النبيل ، والعفة والعفاف ، وعف اللسان ، والورع ، والخشونة ، والأمانة ، وتصفية الأعمال ، وصدق النية ، وغير ذلك من الصفات الحميدة ، وكان على حظ وافر من الصلاح والتقوى ، وأعمال البر والخير ، والمحافظة على تلاوة القرآن الكريم والأذكار والأوراد اليومية ، وكان على نصيب كبير من التواضع والأدب الرفيع ، والفراسة الإيمانية ، والحماسة الدينية الإسلامية ، والفكر النير المشرق ، والصوت الرخيم العذب ، وكان بعيداً من الاغتياب والكذب والحسد والحقد والتعييب والبحث عن الخلل في شخص .
وهذه الصفات الحميدة والخصال الطيبة العالية التي إذا تحلّى الإنسان بها فارتفعت منزلته في نظر الله ورسوله والمؤمنين والمؤمنات ، منها الوصف العظيم الخاص : ” التواضع ” الذي دخل في طبيعته وأصبح عادةً له ، الذي يرفع منزلة الإنسان ، وينوّه شأنه ويفوّقه على أقران زمانه ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ما تواضع أحد إلا رفعه الله ” ( أخرجه مسلم في البر والصلة ، باب استحباب العفو والتواضع ، برقم : 2588 ) . هذا هو السر والوجه كما رأت أعين الناس في صلاة الجنازة عدداً مدهشاً من الناس الذين جاؤا من مختلف البلدان من داخل الهند . هذا دليل واضح على تلقيه القبول والإعجاب المدهش على وجه الأرض ، ويقال : إن فضيلة الأستاذ كان يعدّ في خمس مأة شخص عظيم أصحاب منزلة رفيعة للغاية في العالم كله ؛ فينبغي لنا أن نزيّن أنفسنا بتلك الخلات النبيلة الحسنة ، وننوّر حياتنا ونجمّلها ، فليس بمستبعد أن ننال أيضاً تلك العزة والقبول لدى الخالق وخلقه ، ( وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ ) [ إبراهيم : 20 ] .
(2) وكان زاهداً في الدنيا وراضياً بالكفاف من القوت ومتجنّباً من الفضول ؛ فكان لا يأخذ من الرواتب المادية شيئاً ، غير أنه وقف حياته كلها لندوة العلماء وأعمالها ، ولا يقبل الهدايا إلا بعد الإصرار ، ثم لا يمسكها عنده مدةً ؛ لكي ينفقها على نفسه ، بل سرعان ما يقسمها على المتوسلين أو يدفعها إلى ندوة العلماء . وكان مثالاً واقعياً للسلف الصالح .
وهذه الحقيقة التي لا تنكر أن الاستغناء لا بدّ أن يكون في العلماء ويتحلّوا به كما كان ذلك شعاراً للسلف الصالح دائماً ، فليعلم الأصدقاء وليحفظوا أن الاستغناء من العباد خصلة محمودة محبوبة ، والاستغناء من الله تعالى تكبر مذموم ، والتكبر يوصل صاحبه إلى الخسران ويُلقيه في الهلكة في الآخر .
(3) وكان رجلاً كريم النفس ، صافي الطبع ، حلو الشمائل ، عذب اللسان ، معتدل المزاج ، رحب الصدر ، كل من زاره أو لقيه أو سمع كلامه تأثر به ، وإذا تحدث أحداً تحدث مبتسماً ، وكان يصل الرحم ويحترز عن كل ما يخارق العدالة ويضادّ المروءة .
وهذه الصفات الحسنة التي يُفتح بها قلوب الناس ويتيسر بها النفوذ في نفوسهم ، كما ترون فضيلة الأستاذ قد اكتسب حب الناس وجلبه إلى نفسه وتبوأ مكانةً مرموقةً في قلوبهم ببركة تلك الصفات الجميلة التي كان متحلّياً بها ، يدل على ذلك حضور الناس في صلاة الجنازة دلالة واضحة ؛ فينبغي لنا أن نأخذها ويصبغ حياتنا بصبغتها كي يصيبنا الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة جميعاً .
(4) وكان الناس يأتون إليه للاستشارة في الأمور المهمة والاتعاظ منه ، فكان يستمع إليه بالعناية ثم يشير عليه وينصحه بالإخلاص والأمانة ، كأنه يعمل بهذين الحديثين الشريفين : ” المستشار مؤتمن ” ( أخرجه الترمذي برقم : 2526 ، وأبو داود برقم : 5128 ، وابن ماجه برقم : 3745 ) ، و ” خير الناس أنفعهم للناس ” ( المعجم الوسيط للطبراني برقم : 6026 ) .
ولنا في ذلك درس ورسالة أن نُكوّن أنفسنا أنفع للناس ما أمكن ونسعى في قضاء حاجاتهم وكشف كربهم وتفريج همهم ودفع حرجهم عنهم ما في وسعنا ، وإن لم يمكن لنا أن ننفع الناس بوجه ، فلا نؤذيهم على الأقل ، وإن لم يمكن لنا أن نُدخِل الفرح والبهجة في نفوسهم ، فلا نلحقهم بالهم والحزن ، وإن لم يمكن لنا أن نعينهم على البر والتقوى والأمور المباحة ونشجعهم ونحثّهم عليه فلا نكسر علو همتهم ولا نذيب عزمهم الأكيد .
ولا شك أنه كان قائداً دينياً ومرشد الأمة الإسلامية الهندية ؛ فقد رأس الجامعة الإسلامية الكبيرة الموقرة ندوة العلماء بلكناؤ ، وقاد هيئة قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لعموم الهند في وقت واحد ، ونجح في قيادته وإدارته بلا شك من جهات شتى ، وأشرف على هيئة التعليم الديني لولاية أترابراديش بالهند ، وفي تلك المؤسسات كانت مشوراته قيّمةً سديدةً ناجحةً ، وتنال عناية الأعضاء ، وتعتبر أقضيته مبرمة ، وكانت ميزته أنه لا يحكم ولا يستعجل بالمشورة والحكم ولا يفزع بالأوضاع السيئة مهما كانت خطيرةً أو مشكلةً معقدةً ، ولا تزلّ قدمه فيها ولا تزلزل همته ، بل كان يواجهها بالقوة متوكلاً على الله عز وجل ، وتكون قوته وصلابته مثل الجبل تجاهه ، وعلو همته مثل السماء قدامه ، وكان يقدم حلولاً إيجابيةً دون سلبية دائماً .
وترك فضيلة الأستاذ لنا خاصةً للرعاة والمسؤولين قدوةً في المشكلات والمعضلات لمواجهتها بالهمة مع ثبات القدم ، وطلب حلول ناجحة إيجابية بالتفكر والتأمل . وعدم الاستعجال بالقضاء المبرم والمشورة السديدة الناجحة .
وكان من علماء الهند الربانيين البارزين الذين طوروا اللغة العربية وآدابها وعلومها ، وقاموا بجهود جبارة مضنية مكثفة في تعزيزها وتوسيعها في شبة القارة الهندية ، وكان من الكتاب الممتازين الذين لهم مشاركات قيّمة ومشهودة في العصر الحديث ، ولهم إسهامات كبيرة فعّالة في الأدب العربي بمؤلفاتهم القيّمة وكتاباتهم الأدبية المهمة بأسلوب رائع خلّاب متين رشيق .
وكان من أبناء ندوة العلماء البارزين ، الذين لهم جهود مشكورة طيبة في تطوير اللغة العربية الفصحى من مختلف جهات ، ولهم جولة وصولة وخدمات جليلة في هذا الميدان ، وميزتهم أنهم استخدموها كآلة للدعوة الإسلامية والإرشاد الجميل ، والموعظة الحسنة ، وإيقاظ الشعور الديني والحماسة الإيمانية في المسلمين .
وأما فضيلة الأستاذ فكانت له القدرة الكاملة على اللغتين العربية والأردوية على السواء ، وكان متقناً مجيداً فيهما نطقاً وكتابةً ؛ لذا توجد كتاباتهم ومقالاتهم فيهما ، كان يكتب بأسلوب سهل سلسال هادئ رزين خال عن التعقيد ، وأسلوب دعوي تربوي توجيهي . وفي ألفاظه وتراكيبه وجمله متانة وجمال وصفاء وارتفاع معناها ، وكان يغلب فيها الجّدية دون العاطفية والحماسية .
ومن ميزاته جمال التعبير واستيعاب المعاني الغزيرة في المباني الموجزة ، وله ذوق لطيف في الفروق بين الكلمات المفردة . قال فضيلة الشيخ الدكتور سعيد الأعظمي الندوي –حفظه الله ورعاه – : ” وكان أسلوب أستاذنا أسلوباً جميلاً رائعاً ، حينما يشرح الكلمات والمفردات فيخوض في فقهها وباطنها ” .
وأما الإنجازات العلمية فقد ترك وراءه ثروةً أدبيةً قيمةً ضخمةً ، وأعماله العلمية الكثيرة وخدماته الجليلة في شتى الميادين ، فمازالت تفتخر المكتبة الإسلامية وتعتز بها على الدوام ، وقد تجاوز عدد مصنفاته حول مواضيع متنوعة من علمية فكرية توجيهية وأدبية وتربوية ، ومن أشهرها في الأدب العربي وغيره ما يأتي :
- تاريخ الأدب العربي ( العصر الإسلامي ) .
- الأدب العربي بين عرض ونقد .
- منثورات من أدب العرب .
- الأدب الإسلامي وصلته بالحياة .
- معلم الإنشاء ( الجزء الثالث ) .
- مختار الشعر العربي ( الجزءان ) .
- في ظلال السيرة .
- جغرافية جزيرة العرب .
- الهداية القرآنية سفينة نجاة للإنسانية .
وما عدا ذلك كثير من المقالات التربوية والتوجيهية والفكرية والأدبية ، التي نشرت في مجلة : ” البعث الإسلامي ” و ” الرائد ” وغيرهما من المجلات والصحف والجرائد ، لو جمعت لأصبحت كتباً عديدةً قيّمةً . هذه الكتب والمقالات الكثيرة لسماحة الشيخ تفيدنا أنه لا بدّ أن تكون لكل عالم علاقة وثيقة بالعلم مهما كان شغله حتى لو كان تاجراً ، أو إماماً ، أو إداريّاً ، أو أميناً عاماً أو مديراً للمؤسسة .
* عميد كلية البحث والتحقيق ، جامعة العلوم غرها – غجرات ( الهند ) .