الموضوعات المشتركة بين فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي والشيخ محمد واضح رشيد الندوي : دراسة مقارنة
مارس 31, 2021أصول تحقيق المخطوطات ومنهجه
مايو 3, 2021دراسات وأبحاث :
صفات شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه القيادية
بقلم : الدكتور علي إبراهيم الجمالي *
الملخص :
هذه الدراسة الوجيزة تهدف إلى تسليط الضوء على الصفات القيادية الممتازة التي امتلكها سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وتذكر عن صفات شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذي القيادة العظيمة والذي كان له الدور الأبرز في تثبيث الأسس الإدارية للدولة الإسلامية الجديدة . وأيضاً تثبت صفات عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجسدية والأخلاقية وأسلوبه في القيادة . وتوصلت هذه الدراسة إلى نتائج وعبر مفيدة ليس لقادة المسلمين وحدهم بل لجميع القواد والرؤساء حول العالم كافة ليسلكوا بمسلك عمر رضي الله عنه المرموق .
الكلمات المفتاحية :
عمر بن الخطاب رضي الله عنه – صفات جسدية – صفات أخلاقية – أسلوب عمر في القيادة .
المقدمة :
إن من المسلّم به استحالة إيقاف عجلة الزمن ، بيد أن المستقبل في حقيقته ليس إلا امتداداً للماضي ، وأن شجرة لا يمكن أن تمتدّ في الهواء إلا بمقدار ما تضرب جذورها في باطن الأرض ، ومن البدهي أن المجتمعات الحاضرة هي تعكس تاريخها الاجتماعي وإن اختلف ظروف كل منها ، لذا كان من المتحتم عليها الاستفادة من تجاربها من أجل التغلّب على مشكلاتها الحاضرة .
من أجل ذلك فقد ارتأى الكاتب إنهاء هذا المبحث بالتعريف ببعض شخصيات قيادية كان لها أثر بارز في التاريخ الإسلامي ، وإن من يقلب صفحات التاريخ لا بد من أن تستوقفه مواقف لكبار القادة المسلمين في مجال السياسة والإدارة لكن لوفرة هؤلاء فقد اقتصر الكاتب على ذكر شخصية عظيمة أثرت تراث عصره بشكل لافت ، لعل ذلك أن يكون بداية لدراسات تالية لشخصيات أخرى .
ففي هذه الرسالة سيتم تناول شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه صاحب الشخصية الفذة والذي لعب دوراً هاماً في تثبيت الدولة الإسلامية . وإنّ الهدف الأساسي من تدوين سيرة عمر بن الخطاب ، والتركيز على المواطن المهمّة في حياته هو إعطاء أمثلة واقعية لكل قائد أينما كان موقعه في سلّم القيادة ، كيما يضع سيرة عمر نصب عينيه ، ويتخذ من سلوكه وخلقه وشدة اهتمامه بشؤون الرعيّة ودأبه في العمل مثالاً يُحتذى به في إدارته وأسوب قيادته ، فحياة أمثال هؤلاء الرجال شهادات مملوءة بالعبر التي تُبيّن كيفيّة نجاحهم وتحتم علينا حسن الاستفادة منها .
الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
إن المتتبع للتاريخ الإسلامي منذ نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحتى يومنا هذا ، سيقف وقفة إعجاب وإكبار أمام شخصية قيادية فذة ، قلّ أن يجود الزمان بمثلها ، يعني : الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فهو شخصية إسلامية فذة ، دفعها الإسلام إلى القمّة ، فأدّت دوراً خطيراً في تثبيت الأسس الإداريّة للدولة العربية الإٍسلامية الجديدة . شخصية ندر أن ينساها من عرفها رغم صعوبة تحليلها وسبر أغوارها ، شخصية رجل تولى إمرة المؤمنين ، فكان لها تاجاً ، ولهم أباً وأخاً وراعياً وحامياً وحاكماً ، عمر بن الخطاب الذي إذا ذكر العدل اقترن اسمه به ، وإذا ذكرت الرحمة اتجه الفكر إليه ، وإذا ذكر البأس كان هو الغاية فيه [1] .
ولقد تمثّلت عظمة عمر رضي الله عنه بإيمانه الراسخ بدين الله ، واجتهاده المبتكر وإدارته الحكيمة العادلة لمواجهة الحياة الجديدة بعد التوسّع الإسلامي والفتوحات الإسلامية ، فكان إدراكه ووعيه لأهمية بناء نظام سياسي واجتماعي تتوافر فيه الحرّية والمسؤوليّة والعدالة .
تعريف بالخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
هو عمر بن الخطاب بن نُفيل بن رَزاح بن عَدي بن كعب بن لُؤي بن غالب بن فهر [2] القرشي ، وبنو عدي بطن من بطون قريش ، اشتهروا بالشرف والمجد ، وقد كنّاه الرسول صلى الله عليه وسلم أبا حفص لما رأى فيه من الشدة والحزم في الحق . وروى الطبري أن عمر ولد بمكة قبل حرب الفِجار الأعظم بأربع سنوات [3] ، وروى ابن الأثير أنه ولد بعد عام الفيل ( العام الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ) بثلاث عشرة سنة [4] ، أي عام 584م .
الخطوط الأساسيّة لصفات شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
وتلزم للقيادة الفعّالة مجموعة من الصفات بعضها خُلقي موروث ، وبعضها مكتسب ، وأن الإلمام بهذه الصفات هو مفتاح الدراسة بالنسبة للقائد الفعّال ، وفيما يـأتي عرض لصفات عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما فصلتها كتب التاريخ والأدب :
1 . صفات عمر رضي الله عنه الجسدية :
تولّى عمر الخلافة وسنّه حول الخمسين ، وهي سن تكفل النضج العقلي ، والمحافظة في الوقت ذاته على قوى الجسد وسلامة الحواسّ خصوصاً إذا ما كانت البنية الجسديّة سليمة كما كانت عليه عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وإذا رجعنا إلى المؤلّفات التي تناولت عمر رضي الله عنه بالوصف ، وجدناها تذكر أنه كان : ضخم الجُثة ، فارع القامة ، يمشي فيشرف على الناس كأنه راكب دابة حسن الخدين والأنف والعينين ، مشرباً بحمرة ، غليظ القدمين والكفّين ، مجدول اللحم ، قوياً شديداً إذا مشى أسرع ووطئ الأرض وطئاً شديداً جهوري الصوت يصيح الصيحة فيكاد من يسمعها يصعق ويُغشى عليه . وكان أروح ، إذا مشى تباعدت صدور قدميه وتداني عقباه ، وكان أعسر أيسر ، أي : يعمل بيديه جميعاً .
ولقد مكنت هذه الصفات الجسديّة عمر رضي الله عنه من أن يمارس هوايات لا يصلح لها إلا من كان قوي البدن سليم الحواس ، ومن ذلك : المصارعة ، وركوب الخيل ، كما مكّنته من القيام بأعمال البطولة في الحرب ، سواء في الجاهليّة أو في الإسلام حيث أصبح لما أسلم كالدرع الواقية لكل مسلم ضعيف ، وتميز به المسلمون وظهروا بعد أن كانوا متخفين ، فاستحقّ أن يسمّيه الرسول صلى الله عليه وسلم ” الفاروق ” كما مكّنته هذه القوة الجسدية من القيام على شؤون المسلمين العامّة والخاصّة عن كثب ، فكان بحق : القويّ الأمين .
2 . صفات عمر رضي الله عنه الأخلاقية :
إن الصفات الجسديّة وحدها لا يمكن أن تبلغ بصاحبها تلك المرتبة التي بلغها عمر رضي الله عنه إذا لم تصاحبها صفات خلقية ونفسية على المستوى عينه من القوّة والمتانة ، وهو ما أجمع عليه جميع الكُتاب بالنسبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه . ويمكن إجمال الصفات الخُلقية الأساسية لعمر رضي الله عنه بما يأتي :
أ – الإحساس الكامل بالمسؤولية :
إنّ إحساس عمر رضي الله عنه بمسؤوليته تجاه الرعيّة يمكن إرجاعه إلى إيمانه العميق وعقيدته الراسخة التي ملكت عليه شغاف قلبه ، والتي شهد له بها الجميع وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالعقيدة وحدها هي التي تبلغ بالمرء هذا المستوى وتجعل منه رقيباً على نفسه في جميع حركاته وسكناته ، ولن تغني عنها أي رقابة أخرى . وإنّما ذكر في هذه الرسالة صفات جليلة كان لها أثر عظيم في حياته قائداً إداريّاً وسياسياً .
ب – شدة عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
اشتهر عمر بالصلابة والشدة ، سواء في الجاهلية أو بعد إسلامه ، فعمر قبل إسلامه كان من أشدّ الناس غلظةً على المسلمين الأوائل ، وعمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان يميل دائماً إلى الحلول الجذرية التي تتسم بالشدة ، وكذلك كان شأنه في خلافة أبي بكر رضي الله عنه . وثمة وقائع كثيرة مشهورة ثابتة تثبت هذه الشدة ، لكنها كانت شدة بحق ، ولم تكن غاية في حد ذاتها ولكي يُفهم هذا الأمر بلغة العصر ، يمكن توضيحه بما يأتي :
إن التنظيم في جميع العصور يدور حول فكرتين أساسيتين ، هما : فكرة السلطة التقديرية ، والسلطة المقيّدة . فإذا وُضع الحكم وحددت شروط تطبيقه ، فلا بدّ من إعمال الحكم كلّما توافرت تلك الشروط ، وتغدو السلطة في هذه الحالة مقيّدة ، ولكن هذا الأسلوب لا يمكن اتباعه دائماً نظراً إلى تغير الظروف ، وحينئذ يترك للحاكم أن يترخّص طبقاً لمقتضيات الصالح العام ، وهنا تكون السلطة تقديرية ، فيميل بعض الحكام إلى التشدد أو اليسر ، حسب التقدير العام للظروف ولمصالح الناس ( القيادة الموقفية ) . وفي هذا المجال كان عمر رضي الله عنه يميل إلى الشدة ولو وُزنت الأمور بميزان العصر ، لوُجد أن شدة عمر في الظروف التي أحاطت به كانت ضرورة لسلامة الحكم ، فكانت شدّته على أهل الظلم والتعدي على المسلمين . أما أهل السلامة والدين والقصد فكان ألين لهم من بعضهم لبعض ، وفي وصف ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ” أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ ، وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ عُمَرُ ” ( سنن الترمذي : 3790 ) .
ت – فراسة عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
الفراسة هي خليط من الذكاء والإلهام ، ولا غنى عنها لمن يتولّى الأمور العامّة أو الخاصة ، فإذا كانت القاعدة تقرّر وجوب إصدار المدير قراره عن بصيرة وبينة ، وبعد أن تتوافر لديه المعلومات الضروريّة اللازمة للحكم في الأمر موضع القرار ، فإنّ كثيراً من المواقف المتعجّلة قد لا تتيح له فرصة التأني وجمع البيانات ، وحينئذ يكون القول الفصل ، والذي قد ترتبط به أمور مستقبلية مصيرية ، موكولاً إلى حسن تقدير القائد وما يتوافر لديه من فراسة .
وقد كان عمر رضي الله عنه مشهوراً بين معاصريه بالفراسة والظن الصادق والنظر البعيد ، وهي الهبات التي يلحقها علماء العصر بالعبقرية . ولقد استفاد عمر رضي الله عنه من هذه الهبة كثيراً سواء في اختيار قادة الجيوش أو حكّام الأقاليم أو فيما يتعلّق بإبداء الرأي نحو أمور الدولة الكبرى ، وما أبدى رأياً إلا كان فيه الخير ، وهي صورة نادرة لا نكاد نجد لها مثالاً إلا في حالة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ولهذا كان أكثر الصحابة سبباً وموافقةً للتشريع الإسلامي . وتورد كتب السنة كثيراً من موافقاته ، أي : الأحكام التي كان عمر سبباً في تشريعها ، ومن أشهرها : اتخاذ مقام إبراهيم مصلى ، ونزول آية الحجاب ووعظه لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول عمر عن نفسه : وافقت الله في ثلاث – أو : واقفني ربي في ثلاث – : قلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى ، وقلت : يا رسول الله ، يدخل عليك البرّ والفاجر ، فلو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب . قال : وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن ، قلت : إن انتهيتنّ أو ليبدلن الله رسوله صلى الله عليه وسلم خيراً منكنّ حتى أتيت إحدى نسائه ، قالت : يا عمر ، أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ أنت ؟ فأنزل الله تعالى : ( عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ) [5] ( صحيح البخاري : 4483 ) .
وغيرها كثير كنزول آية الخمر وآية الاستيذان ، ولقد كانت هذه المواقفات في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إيذاناً بمولد القائد الإسلامي الكبير الذي واجه مواقف لم يكن لها مثيل أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وبظروف مختلفة ، فكان تدبيرها خير قائد بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى .
ث – عدل عمر رضي الله عنه :
لعلّ هذه الصفة هي أبرز صفات عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى أصبح لفظ ” عمر ” أو ” الفاروق ” عَلَماً على العدل ورمزاً له في جميع العصور التي تلت وفاته . وتذكر كتب التاريخ أن عدل عمر قد أظلّ الجميع ، فلم يميز بين قريب وغريب أو بين عربي وأعجمي بل شمل الجميع ، ولا غرو فعدل عمر يقوم على قواعد الشريعة ، وهو ما تفتقر إليها البشرية في كثير من الدول وبخاصة في عصرنا الحاضر .
فعمر بن الخطاب رضي الله عنه من قبيبلة عدي بن كعب ، وهي قبيلة كانت تمتاز بالدراية والعلم والحكمة ، أما أهلها لوظيفة السفارة والحكم في المنافرات حسب المألوف في قريش من توزيع الوظائف العامّة بين القبائل ، فكان عمر بنسبه وبيئته معدّاً للقضاء والتحكيم . وجاء الإسلام فنمّى في قلب عمر الإحساس والعدل ، لأن العدل هو جماع الفضائل ، وقد تعهد الإسلام نفس عمر الخصبة للعدل ، إذ أتيح له صقلها تحت إشراف الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم كان قاضياً في عهد أبي بكر رضي الله عنه ، ولما ولّي الخلافة وضع دستور القضاء وآدابه ونُظمه .
وقد كان عدل عمر رضي الله عنه مقيّداً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فضلاً عن خشية الله التي ملكت عليه نفسه ، ومن هنا أقام عمر رضي الله العدل الذي أصبح مضرب الأمثال ، ثم اختفى هذا العدل من بين الناس في كثير من فترات الحكم فيما بعد ، حينما ضعف الوازع الديني وغلبت شهوات الدنيا على النفوس .
ج – هيبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
تسجل كتب التاريخ أن عارفي عمر رضي الله عنه كانوا أكثر مهابةً له ممن لا يعرفونه . وقد أحبّ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الخاصّية في عمر رضي الله عنه ، وحرص على تنميتها . وقد كان عمر رضي الله عنه نفسه يعتز بهذه المهابة ، لأن من شأنها أن تجعله أقدر على إدارة شؤون الدولة ، فهيبة عمر رضي الله عنه تلك هي التي يسّرت له محاسبة ولاته وقادته بطريقة لم تستقم إلا له ، وهيبته هي التي جعلته سدّاً منيعاً ضد الفتنة ، ولهذا أتعب عمر رضي الله عنه من بعده كما تنبّأ بذلك معاصروه ، ولم يستطع عثمان بن عفان رضي الله عنه – على جلالته وكثرة مناقبه – أن يكافئ هيبة عمر رضي الله عنه ، وكثيراً ما ضاق بالناس ، وقال لهم : ” إنكم ما كنتم لتقولوا هذا لعمر رضي الله عنه ، أو لتنكروا هذا من عمر رضي الله عنه ” .
ح – علم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وثقافته :
تسنّم عمر بن الخطاب رضي الله – بواسع علمه بشؤون الدنيا وأمر الدين – منزلةً لم يقاربها أحد من بعده من الخلفاء ، وقد ساعده على ذلك ظروف عديدة ، ترجع إلى استعداده الفطري ، وإلى نشأته الأولى قبل الإسلام وإلى سِنّه ( عمره ) المناسب ، سواء يوم أسلم أو يوم آلت إليه الخلافة . وعلاوةً على ذلك كلّه استقرار حكمه مدّة طالت لم ينازعه فيه أحد ، ما أفسح له مجالاً من الاجتهاد في جميع ضروب الحياة ، وخروج علمه من الدائرة النظرية المجردة إلى مجال التطبيق العملي .
وقد بدأ علمه وثقافته قبل الإسلام بتعلّمه القراءة والكتابة في طفولته وصباه ، ولما شب تذوق الشعر ، ثم برز في أنساب العرب ، إذ تلقاها عن أبيه ، وكان جيد البيان حسن الكلام ، ولهذا كان يذهب في سفارات قريش إلى غيرها من القبائل . ولما أسلم لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفقه في شؤون الدين ، كما أنه تمرس في شؤون الحكم ، واستطاع بعبقرية نادرة استنباط تطبيق أسس الشريعة ، بل واستمداد أحكام مستجدّة منها لمواجهة ظروف المجتمع المتغيرة .
إنّ عظمة عمر رضي الله عنه تكمن في قدرته على الموافقة بين العلم النظري والتطبيق العملي ، لقد جمع بين الإيمان الراسخ والمرونة التي تستجيب لحاجات الناس المشروعة ، فهو رجل نادر بما تراه منه العين ، نادر بما تشهد به الأعمال والأخلاق ، نادر في مقاييس الأقدمين والمحدثين ، ولهذا سُمّي عمر ” الفاروق ” .
3 . أسلوب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القيادة :
إنّ قمة نجاح القائد تكمن في قدرته على رسم الأهداف وتخطيطها ، ومن ثم تطبيق هذه الأهداف بطريقة تؤدّي إلى تحقّق نتائج إيجابية . ولقد نجح عمر رضي الله عنه – كما يسجل التاريخ بل قد بلغ قِمة النجاح – في أن يجعل التطبيق في مستوى روعة الأهداف الإسلامية التي تقرّرت في دعوة الإسلام كما فهمها عمر رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن ثم فقد ارتكز أسلوبه في القيادة على عدد من المرتكزات ، ومن أهمّها :
أ – القدوة الحسنة :
نجح عمر رضي الله عنه لأنّه أدرك حقيقة خالدة وبسيطة في الوقت ذاته ، وهي أنه استطاع أن يجعل من حياته الخاصّة والعامّة صورة حيّة للعقيدة التي يدعو إليها ، وكان يقول باستمرار : ” لست معلّمكم إلا للعمل ” . فأدرك عمر رضي الله عنه وأعلن للملأ في أكثر من مناسبة أن الدّولة الإسلامية الناشئة أحوج ما تكون إلى القدوة . ولهذا لم يكن تقشف عمر رضي الله عنه وزهده في الدنيا مجرد عبادة وتقرب إلى الله ، بل أيضاً سياسة إدارية أدرك بفراسته حاجة الدولة إليها ، فكانت مسؤولية مضاعفة ، وكان عليه أن يعلم الناس بأعماله قبل أن يعلمهم بأقواله .
وتفيض كتب التاريخ بأسلوبه في الحياة من حيث المأكل والملبس والمركب وغيرها حتى إن البعض قد يعتبرها اليوم من قبيل المبالغة ، لكنّه بهذا السلوك العمري استطاع أن يحاسب المقصر ، وأن تكون أوامره منفّذة حرفيّاً ، وأن يزرع الأمانة في نفوس تابعيه ، إذ يقول له علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ” إنك عَففت فعفّت رعيّتك ” [6] . وكانت أحكامه يطبقها على الجميع بلا استثناء ، وبذلك كان قدوةً حسنةً لغيره لإدراكه أن استقامته هي استقامة لحكمه ، وصلاحه صلاح لحال رعيّته .
وإذا كانت القدوة الحسنة هي المميز الأساس لأسلوب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القيادة ، فإن هذا الأسلوب – من حيث كونه عُمريا يميزه عن غيره من القادة – لا يستقيم إلا إذا اقترن بميزتين كان لهما أيضاً فضل في تحقيق النجاح الكبير لقيادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وهما : حرصه على الإحاطة بشؤون الرعيّة بنفسه مباشرة في جميع شؤونها ، ثم تطبيقه لمبدأ الشورى ، وفي الفقرتين الآتيتين تفصيل لذلك .
ب – الإحاطة المباشرة بشؤون الرعيّة :
كان أسلوب عمر رضي الله عنه يقوم على الإحاطة بشؤون الرعيّة بنفسه مباشرة ، لا عن طريق وسيط ما وجد إلى ذلك سبيلاً . وهنا أيضاً وضع يده على موطن داء يفتك بالإدارة وأسلوبها ، يتمثّل في احتجاب القائد عن مرؤوسيه ، واكتفائه من أمورهم بما يصل إليه عن طريق معاونيه حيث تنتقل السلطة تدريجياً من القائد إلى معاونيه ، ويتردّد بين الأفراد القول المألوف : ” إن المدير ليس سيّئاً ، ولكن الشر يكمن في معاونيه ، لكن لو كان المدير صالحاً حقاً لما سمح بوجود هذه الطبقة العازلة بينه وبين مرؤوسيه . إن حاجة المدير إلى معاونين أمر لا بد منه ، لكن أن يعزل نفسه عن الآخرين ، وأن يعجز عن الإحاطة بمشكلاتهم ، فذلك أصل لكلّ فساد ” .
وهنا أيضاً نتلمس جانباً مضيئاً من أهم جوانب العبقرية في قيادة عمر رضي الله عنه ، إذ كان يمشي في الأسواق ، ويعسّ بالليل ، ويضع نفسه في الظروف التي تجعله يعيش في الأوضاع نفسها التي تحياها رعيّته ، فأحسّ بمشكلات الناس ، ووضع لها حلولاً حاسمةً كما سمحت له مخالطة الناس أن يعلّمهم ويؤدّبهم بآداب الإسلام . وقد كانت عبقرية عمر تتجلّى في أمرين كان لهما أبلغ الأثر في هذا الخصوص ، وهما :
سياسة الباب المفتوح بالنسبة إلى الرعية .
اتخاذ موسم الحج مؤتمراً عامّاً للولاة .
ت – تطبيقه لمبدأ الشورى :
إن الشورى في الإسلام من المبادئ الثابتة التي وردت في القرآن الكريم في أكثر من موضع ، وقد حثّ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم . وإن المشهور من فعل عمر رضي الله عنه ، أنه لم يكن يُبرم أمراً دون مشورة المسلمين . ومن ثم فقد كان عمر رضي الله عنه يستشير الناس في بعض الأحكام الفقهية ، كما كان يستشيرهم في اختيار الولاة وقوّاد الجيوش ، وربّما أعانهم على حسن المشورة بتحديد الصفات التي يتطلّبها شاغل المنصب كما أن استشارته قد امتدّت إلى تنظيم مرافق الدولة وكيفية الاستفادة من الأموال العامّة .
وإن تبرير عمر رضي الله عنه في عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه يكشف عن موهبة فذة وفن أصيل في القيادة ، فهو يعلم تماماً أن أحداً لن يعصي قراره ، ولا حتى خالد نفسه ، ولكنه يدرك بفطرته الحاجة إلى اقتناع الرأي العامّ ، وأنه لا بد من تفسير مُقنع للقرارات الكبرى التي قد تصادم الرأي العام في شعوره ، وهو أمر لم يُتنبّه إلى أهميته إلا في تاريخ متأخّر في علم الإدارة الحديث .
الخاتمة :
قد تمت هذه الدراسة البسيطة والتي تشتمل على النقطة المركزية لصفات القيادة الفعالة حيث استعرضت صفات القيادة لشخصية عظيمة في التاريخ الإسلامي هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأسلوبه الرائع في القيادة . وتختم هذه الدراسة بوصف عمر رضي الله عنه كما يصف محمد رضا في كتابه : ” الحاكم العادل ، والسياسي الماهر ، والمسلم المتمسك بدينه ، القائد العام لجيوش المسلمين ، المدبّر للخطط ، المختار للقواد ، كان شديداً في الحق ، حافظاً لوقاره وهيبته ، مدافعاً عن الأعراض ، قاطعاً لبذور الفساد ، مطعماً للفقراء ، يطوف على الناس بالليل ليرى ويسمع بنفسه أحوال المسلمين ، فيعطي المحتاج وينصف المظلوم ” [7] .
* الأستاذ المساعد ، قسم اللغة العربية للماجستير والبحوث ، كلية جمال محمد ، تروشي ، الهند . Email: aliibrahimjamali@gmail.com
[1] ابن الجوزي ، عبد الرحمن بن أبي الحسن ، مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1980م ، ص 3 .
[2] يجتمع في نسبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الجد السابع من جهة أبيه ، ويجتمع معه من جهة أمه حنتمة بنت هشام بن المغيرة المخزومي في الجد السادس ، وخاله هو – – أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي . ابن الجوزي ، مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، تحقيق زينب إبراهيم القاروط ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1980م ، ص 9 .
[3] الطبري ، أبو جعفر محمد بن جرير ، تاريخ الرسل والملوك ، دار الفكر ، بيروت ، 1418هـ – 1998م ، ج 5 ، ص 56 .
[4] ابن الأثير ، عز الدين أبو الحسن علي بن محمد ، أسد الغابة في معرفة الصحابة ، دار ابن حزم ، بيروت ، ص 897 .
[5] سورة التحريم : 5 .
[6] ابن عساكر ، علي بن الحسن بن هبة الله ، تاريخ مدينة دمشق ، دار الفكر ، بيروت ، 1995م ، ج 44 ، ص 343 .
[7] رضا ، محمد ، الفاروق عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين ، دار ابن حزم ، القاهرة ، 2009م ، ص 10 – 11 .