أتبين دينيه ( قبل الإسلام ) ناصر الدين دينيه ( بعد الإسلام ) ( الحلقة الثالثة )
يوليو 13, 2021الحج في أدب الرحلات ومكانته في خارطة البحث العلمي
يوليو 31, 2021دراسات وأبحاث :
شمولية اللغة العربية ومعنويتها
ومدى إفادتها من النواحي المتنوعة
( الحلقة الأولى )
البروفيسور مشير حسين الصديقي *
خصائص اللغة العربية :
إن دراسة تاريخ اللغة العربية تؤكد لنا أن اللغة تمر بمراحل التغير والتبدل بشكل خفي ، وهي ناشئة من القوة الثورية لدين من الأديان ، أو أفكار فيلسوف من الفلاسفة ، أو انتصارات عسكرية لقائد من القواد أو ما سوى ذلك من العوامل السياسية والاجتماعية وغيرها ؛ حتى تأخذ ثياباً جديدةً تختلف عن ثيابها الماضية .
وقد مرَّت اللغة العربية بهذه المراحل من التغيير والتبديل ، فأفادت واستفادت ، وأثرت وتأثرت ،أما تطور هذه اللغة واستفادتها من اللغات الأخرى فتاريخها راجع إلى ما قبل الإسلام بقرنين ، عند ما سيطر أهل الحبشة وأهل فارس على اليمن والحجاز .
وتفصيل هذا الإجمال أن ذا نواس اليهودي مَلِكَ اليمنِ أراد تهويد نصارى اليمن بصورة قسرية ، ولما امتنعوا عن هذا قَتَلهم في مقتلة عظيمة ، حتى استعانوا بالأحباش ، فنصروهم ، وأغاروا على اليمن ، وجعلوها مستوطنةً لهم ، وبعد سيطرة الأحباش بسبعين سنةً استعان اليمنيون بكسرى فارس أنوشيروان ، فأخرجوا الأحباش من اليمن ، وفي هذه الفترة الممتدة لسبعين عاماً كثر اختلاط الأحباش بالحجاز ، وما زالت تتعمَّق وتتوثق هذه الصلة حتى أراد ملك الحبشة بسط سيطرته على مكة ، فخرج بجيشه اللجب لفتح مكة في أواخر القرن الخامس الميلادي ، لكنه رجع بفشل ذريع ، وهذا العام يُعرف في التاريخ بعام الفيل ، كما أن هذه القصة تُعرف بقصة أصحاب الفيل ، وبعد سيطرة أهل فارس على اليمن توطَّدت العلاقة بين أهل الحجاز وأهل فارس أيضاً ، وتمثلت في الزواج وتبادل القوافل التجارية بينهم ، وقد أثرت هذه العلاقات المتشابكة في اللغة العربية تأثيراً كبيراً ، فما زالت كلماتها تتغير وفق قواعد الإبدال والقلب ، ودخل كثير من الألفاظ الأعجمية في اللغة العربية .
وعندما ظهر الإسلام كانت اللغة العربية هي لغة الحجاز ، وكانت اللغات قبل ذلك تُعرف بقبائلها ، فكانت لهجات تميم وربيعة ومضر وقيس وهذيل وقضاعة وغيرها تختلف كثيراً في الألفاظ والتركيب والأداء الصوتي .
ومن أظهر نماذج هذا الاختلاف :
- عجعجة قضاعة : وهي تحويل الياء جيماً إن وقعت بعد العين ، نحو الراعج ( الراعي )
- طمطمانية حمير : جعل ” أم ” بدل ” ال ” ، نحو امبر ، ( البر ) ، وامصيام ( الصيام )
- فخفخة هذيل : جعل الحاء عيناً ، أعلّ الله العلال مكان ” أحلَّ الله الحلال “
- عنعنة تميم : إبدال الهمزة في بداية الكلمة من العين ، نحو عمان ( أمان )
- كشكشة أسد : وهي جعل الكاف شيناً ، سلام الله عليش ، مكان ” سلام الله عليك “
- وقطعة طي : حذف آخر الكلمة نحو : يا أبا الحسا ( يا أبا الحسن ) [1] .
ولكن اختلاف اللهجات هذا قد تقلَّص نطاقُه بعد زوال سلطنة حمير ، وانتصار العدنانيين على القحطانيين وازدهار أسواق الحجاز وعموم حج بيت الله تعالى ، حتى عند نزول القرآن الكريم كانت لغة قريش تحتلُّ مكانة ” لسان عربي مبين ” ، وبعد ذلك انتقلت لهجات القبائل إلى اللغة العربية العامية أو الدارجة ، وكانت اللغة القرشية الفصحى هى التي كانت وظلت لغة التواصل في العالم كله .
إن انتشار اللغة العربية مدين للدعوة الإسلامية العالمية ، فالعرب بعد ما أسلموا حملوا راية الإسلام إلى العالم كله ، فجِدار الصين وأهرامُ مصر وصحراء إفريقيا وأنهار الأندلس عادت تعترف بفضلهم ، وتُقبِّل أيديهم وجباههم ، فكانت لهم سيطرة سياسية هناك ، فغلبت لغتهم العربية على لغات الأمم المفتوحة ، فاللغة البهلوية لدولة إيران واللغة السريانية من الشام واللغة البربرية من إفريقيا واللغة الإسبانية من الأندلس كل هذه اللغات خضعت أمام اللغة العربية ، وآل الأمر إلى ما قاله العلامة السيد سليمان الندوي :
من شاطئ نهر السند إلى المحيط الأطلسي كانت هناك لغة وحيدة ، تحكم الدنيا كلها ، وهي لغة القرآن الكريم [2] .
ومن طبيعة اللغات أنها لا تتحمل الاختلاط والدفاع والثورة ، بل تزول أو على الأقل تفقد أصالتها وهيئتها ، أو ترتدي لباساً جديداً مكان لباس قديم ، حتى يكون من الصعب معرفتها ، فكما أن الأمة الحية هي التي تكافح وتثور ، فكذلك اللغة الحية هي التي تكافح التغيرات ، وتلبي حاجات العصر ، واللغة العربية لغة حية بهذا المقياس .
يقول السيد سليمان الندوي : قد نجحت اللغة العربية في ابتلاءاتها ، وستنجح في المستقبل أيضاً ، فقد كانت لها في العصر الجاهلي علاقات ودية مع اللغات اليونانية واللاطينية والحبشية والفارسية ، ولكنها لم تستطع كل هذه اللغات محو اللغة العربية ، وفي العصر الإسلامي قامت العربية لتكافح لغات العالم وتنتصر عليها ، وفي العصر الحاضر نراها تكافح لغات الدول المجاوره ولغات أوربا كلها ، وهي مع هذا حية ، وتدبروا أوضاع اللغات الأخرى ، فما هي حال اللغة السنسكريتية : اللغة الإلهامية للآريين ، وما هو مصير اللغة المقدسة لليهود ؟ وأين اللغة اللاطينية للمسيحية أو رومة الكبرى ؟ وأين ذهبت لغات المجوس والفارس ؟ أين اليوم اللغة القبطية : لغة فراعنة مصر ؟ وأين اللغات الكلدانية والسريانية والفينيقية لأهل بابل والشام والإفنيقيين ؟ فكانت هذه اللغات لغات الأمم الجبارة والأديان العظيمة والدول الراقية ؛ ولكن الدنيا لا تعرف عنها شيئاً [3] .
إن تحليل العلامة السيد سليمان الندوي لتغيرات اللغات يدل على ما تتمتع به اللغة العربية من قوة الطبع وشدة الشكيمة ، الواقع أن اللغة العربية ما زالت تفي بالحاجات الثقافية والحضارية لكل عصر ومصر ما دام القرآن حياً ، ولا شك أن القرآن الكريم دستور رباني لهداية الناس إلى يوم القيامة ، ومن ثم فقد استوعبت وبكل يسر كلَّ العلوم والمعارف والمصطلحات لدى اللغات السريانية والقبطية واليونانية والسنسكريتية والفارسية ، وفي العصر الحديث أيضاً ما ولَّت اللغة العربية أدبارها ؛ بل تواكب هذا العصر وبكل قوة وجراءة ، وتفي بالحاجات العصرية ، فهي من اللغات المعتمد عليها عند هيئة الأمم المتحدة .
فاللغة العربية ليست لغةً تقليديةً فقط ؛ بل هي منذ نزول القرآن الكريم إلى يومنا هذا قد تطوَّرت هذه اللغة اجتماعياً وسياسياً وأدبياً وعلمياً بشكل باهر ، وبعد توفِّر الوسائل الطبيعية أصبحت اللغة العربية تنافس كل لغة عالمية حية في كل مجال .
شعبية اللغة العربية :
إن أهمية وشعبية اللغة – أي لغة كانت – لا يتم إدراكهما بسعة المناطق التي تنتشر فيها ، أو بكثرة الناطقين بها ؛ بل المعيار الحقيقي هي سعة ذيلها وترامي أطرافها ، وعمق معانيها ، ومدى إحكام ووضوح قواعدها النحوية والصرفية ، وعذوبة ألفاظها وجذابية أسلوبها وتأثير لهجتها والتلفظ بها ، ومدى فرص وإمكانيات تعليمها وتعلمها وسذاجتها .
فكل لغة اتسع نطاقها ، وكثر استعمالها ، وعذُبت ألفاظها ، وراقت لهجتها ، وتعمقت معانيها تكون أكثر أهميةً وأشد شعبيةً ، ومن هذا المنظور إذا درسنا اللغة العربية علمنا أنها تتمتع بجميع المحاسن اللغوية ، وبذلك تمتاز من بين جميع لغات العالم ، وهذه الميزات هي التي جعلت سادة قريش يفرضون سيطرة اللغة العربية على وفود العرب لينشغلوا بها عن القرآن الكريم ، خوفاً من دخولهم في الإسلام ، وهذه الميزات هي التي جعلت العربية تمتد ظلالها ويُعقد لواؤها منذ خمسة عشر قرناً ؛ بل جعلتها لغةً مفهومةً ومنطوقةً على نطاق أوسع ، ولغةً راقيةً ، واسعة الانتشار ، تتمتع بالقالب الأدبي الجذاب ، حتى بقيت مرفوعة القامة ، على الرغم من المساعي الهدامة التي تستهدف كيانها ، فهي تملك جميع مؤهلات الحياة والتطور ومسايرة العصر مما يجعلها لغة ذات حيوية وازدهار بكل ما في الكلمة من معانٍٍ .
إن كل لغة من لغات العالم في غالب الأحوال يوجد فيها أسلوب بيان المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة ، وهي التي تسمى في الاصطلاح بالإيجاز ، وبالنسبة إلى الإيجاز تأتي اللغة العربية لغة فريدة ، فهي تحتضن كثيراً من الألفاظ التي يعجز عن شرح معانيها الإطناب ، وعلى سبيل المثال أذكر كلمة الحمد ، التي بها تبدأ سورة الفاتحة ، ويذكر العلماء أن كل أسلوب وضعه الإنسان أو سيضعه أو فكَّر فيه أو سيفكر لأداء الشكر مع الاعتراف بمعاني الفضل والإحسان كل هذه الأساليب مخصوصة بالله رب العالمين ، فهذه الكلمة الوحيدة تسع كل هذه المفاهيم ، وتملك من السعة ما تضيق عن بيانه الدفاتر ، وهذا النوع من الشمول والسعة عام في الكلمات العربية ، فاستعمال الكناية والمجاز لأداء المعنى بالإشارة دون التصريح واستخدام صنائع علم المعاني والبديع ليكون الأسلوب رائعاً وجذاباً مما يميز اللغة العربية عن غيرها من اللغات .
وفي كل لغة توجد ألفاظ عديدة في بيان المعنى الواحد ، وهذا ما يسمى بالمترادفات أو الألفاظ المترادفة ، والعربية في هذا المجال أغنى لغات العالم ، فقد ذكر علماء اللغة أن العربية تمتلك 24 كلمة لبيان معنى العام والسنة ، و 121 كلمة للضوء ، و 52 للظلمة ، و 88 للبئر ، و 170 للماء ، و 350 كلمة للأسد ، و 255 كلمة للناقة ، كما ذكروا ألفاظاً عديدةً لبيان أجزاء الجسد الإنساني وصفات الإنسان ، حيث توجد في العربية 91 كلمة لطول القامة ، و 120 كلمة لقصرها ، كما أن كلاً من صفات البخل والكرم والشرف والدناءة وُضعت لها ألفاظ مختلفة .
قواعد اللغة العربية :
إن القواعد النحوية والصرفية التي وضعت للنطق والكتابة والتعبير عما في الضمير باللغة العربية قامت على أساس شواهد الكتاب والسنة ولهجات القبائل العربية واستعمال النابهين من العلماء والأدباء ، وقد بذل علماء اللغة في وضعها والتدقيق فيها جهوداً جبارةً ، ووضعوا اللمسة الأخيرة بعد بحث وتنقيب ودراسة ، جرتْ لسنوات ، فجاءت متينةً بشكل لا يقبل التغير والتبدل والحذف والزيادة ، ولأجل الخصائص في قواعد اللغة حدث يسر كبير في تعليم اللغة ، فإن القواعد ثابتة ، والشواذ يتم ذكرها في موضعها ، ثم الشواذ قليلة ، ومن هنا أصبحت قواعد العربية فناً مستقلاً ؛ ولكن تعلم اللغة وإتقانها والتعبير بها عما في الضمير لا يحتاج إلى استيعاب فن القواعد بكامله ، ولا التمهر فيه ، فإن استيعاب القواعد والتمهر فيها هي غاية من يريد إتقان علم النحو كفن ، وليس من الضروري أن يكون هذا النحوي أديب العربية أو كاتباً بارزاً في العربية ، كما أن حفظ القواعد بشكل مضبوط لم يكن من واجبات تعلم اللغة والنطق بها والكتابة فيها ؛ بل حفظ بعض القواعد ومراعاتها وقت النطق والكتابة يكفي لذلك ، فقد أثبتت التجارب أن كثيراً من العلماء الهنود الذين قاموا بمراعاة هذه القواعد أصبحوا أدباء العربية وكتابها البارزين وخطبائها المصاقع .
الإعراب في اللغة العربية :
العربية واحدة من اللغات الفريدة التي تتخذ علاماتٍ لبيان أصوات الكلمات ، وفيه دلالة كافية على ما في العربية من سعة وتطور ونزاهة ، فيتم في العربية إبراز الأصوات بعدد من الإشارات والعلامات ، وهذا ما يسمى بالإعراب ، ووُضع لذلك كل من الضمة والفتحة والكسرة ، وأكبر فائدة لذلك أنها تقلِّل الحروف في الكتابة ، وتحفظ الوقت ، وتروي الذوق الأدبي والملكة البيانية ، فإن قواعد اللغة إذا لوحظت تأتي السهولة في قراءة النصوص وفهمها [4] .
( للبحث صلة )
* رئيس قسم اللغة العربية بجامعة لكناؤ ، الهند ، البريد الإلكتروني :
siddiquimusheer1@gmail.com
[1] افتخار أحمد الأعظمي ، مقدمة كتاب تاريخ الأدب العربي ،( لاهور : مطبعة الشيخ عازم علي وبنوه ، ط 1 ، 1961م ) .
[2] الندوي ، السيد سليمان ، نقوش سليماني ، ( باكستان : أكاديمية أردو بالسند ، 1967م ) .
[3] الندوي ، السيد سليمان ، الدليل على المولد والدخيل ( الهند : لجنة النشر بدار العلوم ندوة العلماء ، 1950م ) ، ص 3 .
[4] جرجي زيدان ، تاريخ آداب اللغة العربية ، ( مصر : مطبعة الهلال القاهرة ) ، ج 1 ، ص 42 .