سورة التحريم : دلالاتها وما يستفاد منها

في ظلال الإسلام ( الحلقة الثانية الأخيرة )
أبريل 28, 2025
النظافة في الحياة البشرية من خلال المصادر الإسلامية والدراسات الحديثية ( الحلقة الخامسة الأخيرة )
أبريل 28, 2025
في ظلال الإسلام ( الحلقة الثانية الأخيرة )
أبريل 28, 2025
النظافة في الحياة البشرية من خلال المصادر الإسلامية والدراسات الحديثية ( الحلقة الخامسة الأخيرة )
أبريل 28, 2025

الدعوة الإسلامية :

سورة التحريم : دلالاتها وما يستفاد منها

الباحثة نصيرة إي . تي . بي *

سورة التحريم هي سورة مدنية ، وهي من السور المفصلات ، آياتها 12 ، ونزولها بعد سورة الحجرات وقبل سورة الجمعة ، تسمى أيضاً بسورة النبي صلى الله عليه وسلم ، وسورة لم تحرّم [1] ، وسورة تحرّم سورة النساء [2] . وهذه هي آخر سورة من السور الثامنة والعشرين من القرآن الكريم . وهي السورة الخامسة بعد المائة في ترتيب نزول السور القرآنية ، والسورة السادسة والستون في ترتيبها في المصحف . وهي أيضاً السورة التي أنزلها الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم في آخر أيامه . والسبب في ذلك هو بعض الحوادث المتعلقة في هذه السورة مع زوجات النبي صلى الله عليه وسلم مثل زينب ومارية ، اللتين لم تتزوجا إلا مؤخراً . أول سورة من هذا الجزء سورة المجادلة تبدأ بموضوع النساء خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها ، وآخر سورة هذا الجزء ، سورة التحريم تنتهي بأمثلة النساء الصالحات والسيئات كامرأة فرعون ، وامرأة نوح وغيرهما . يعني أن بداية هذا الجزء ونهايته يتعلقان بالمرأة . وكذلك السورة السابقة ، سورة الطلاق ، له موضوع يتعلق بالمرأة . تضمنت هذه السورة خمس نداءات : نداءان للرسول صلى الله عليه وسلم ، وللمؤمنين ، ونداء واحد للكافر مثل يا أيها النبي ، يا أيها الذين آمنوا ، يا أيها الذين كفروا .

سبب نزولها :

نزلت هذه السورة عتاباً من الله للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن حرم شيئاً أحل الله إرضاءً لأزواجه . ورغم اختلاف العلماء في سبب نزول سورة التحريم ، إلا أن هناك أمراً واحداً متفقون عليه ، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرم شيئاً ما أحل الله له من أجل مرضاة بعض زوجاته . هناك حادثتان في روايات مختلفة تتعلق بنزول هذه السورة في التفاسير المختلفة مثل تفسير ابن كثير ، وتفسير القرطبي ، وتفسير البغوي ، وغيرها .

(1) الحادثة الأولى : أن قضية العسل هي سبب نزول هذه السورة .

منها : عن عائشة رضي الله عنها قالت : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش رضي الله عنها ، ويشرب عندها عسلاً فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبيّ فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير ، أكلت مغافير ؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له ، فقال: لا ، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بنْتِ جَحْشٍ ولَنْ أعُودَ له ، فنزلت :  ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ  لَكَ ) ، ( إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ ) لعائشةَ وحفصةَ ، ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً ) لقوله : بل شربتُ عسلاً [3] .

من المؤيدين لهذه الحادثة : أيّدها ابن كثير في تفسير القرآن العظيم ، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن ، والآلوسي في روح المعاني ، وابن عاشور في تفسير التحرير والتنوير  ، وغيرهم .

(2) الحادثة الثانية : إنها نزلت في شأن جاريته مارية .

منها : كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة رضي الله عنها فزارت أباها ، فلما رجعت أبصرت مارية في بيتها مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في وجه حفصة الغيرة والكآبة ، قال لها : ” لا تخبري عائشة ، ولك عليَّ ألا أقربها أبداً ، فأخبرت حفصة وعائشة وكانتا متصافيتين ، فغضبت عائشة ولم تزل بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى حلف ألا يقرب مارية ، فأنزل الله هذه السورة [4] .

من المؤيدين لهذه الحادثة : أيّدها المحلي والسيوطي في تفسير الجلالين ، ومجموعة من المؤلفين في تفسير المختصر ، والقاسمي في محاسن التأويل ، وغيرهم .

ومن الأصح في سبب نزول هذه السورة حادثة العسل ، وشربه عند زينب بيت جحش ، وحفصة وعائشة تظاهرا عليه . وقد رواه الإمام البخاري في صحيحه ، وكتب التفاسير المختلفة .

عتاب من الله على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم :

بدأت هذه السورة أيضاً بعتاب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كما في سورة عبس : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) [ 1 ] ، إنه عتاب لطيف وموجه وفعال للغاية . وبهذا يريد الله تعالى المزيد من إصلاح شخصيته . وليس المقصود من هذا العتاب لتقليل شأنه ، ولم يره مثل ذلك . وقبّله النبي صلى الله عليه وسلم كأمر من الله تعالى وعاش حياة أكثر روعةً . وهنا يبين الله منهجه الناضج في الحياة الأسرية ، وفي أي أمر آخر عملياً . الإسلام هو طريقة عملية للحياة . والأفعال أكثر أهميةً من الأقوال . ومن خلال هذه السورة يمكن فهم أن الأخطاء أمر طبيعي ، ومن المهم الإشارة إليها لتصحيحها وتحسينها . لذلك ، من خلال تصحيح أخطائنا وأخطاء أسرنا ، يجب علينا أيضاً أن نكون قدوةً من خلال القدوة الأسرية الجيدة التي أظهرها النبي صلى الله عليه وسلم . إذا كنا جيدين ، يمكننا أن نجعل الآخرين جيدين . وهكذا يمكن بناء المجتمع الصالح . من كلام القرآن أن الإنسان خليفة الله في الأرض ، عليه أن يتولى تلك الخلافة .

والذي حدث هنا في النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم ما أحل الله له من أجل أزواجه . ويظهر كثير من الروايات أن هذا المنع هو مشكلة العسل أو مشكلة الجارية . وعلى كل حال ، فعل ذلك بسبب زوجاته . وقد أصلح الله خطأه بهذه الحادثة . وهنا لم يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الحلال حراماً . وسبب امتناعه عنه مع أنها حلال ، وشيئ يحبه : عندما عاتبته إحدى زوجته لإرضائها في أمر جاريته مارية ، أو لأن نساءه الأخريات لم يعجبهن شربه العسل من زوجة واحدة ، فقالت إحداهن : إني أشم منك رائحة مغافير . فنزلت هذه الآية . وما يمكننا أن نفهمه من هذا ، هو أننا نحب أن نستمتع بالأشياء الطيبة التي منحنا إياها الله تعالى . ولا يجوز لنا أن نمنعها لأية مصلحة مادية أخرى . وهو خارج عن الشريعة الإسلامية . ووفقاً للشريعة الإسلامية ، ينبغي للإنسان أن يعيش في الاستمتاع بما أحل الله ، والاجتناب عما حرم الله . دراسات الحياة النبوية ثمينة في هذا العصر حيث يفعل الناس أي شيئ لإرضاء الآخرين . ورضا الله أعظم من أي شيئ في الدنيا ، من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : من التمس رِضا اللهِ بسخَطِ الناسِ ؛ رضِيَ اللهُ عنه  ، وأرْضى عنه الناسَ  ، ومن التَمس رضا الناسِ بسخَطِ اللهِ ، سخِط اللهُ عليه ، وأسخَط عليه الناسَ [5] . أي لا تعارض شريعة الإسلام لأحد . يمكننا أن نحقق أي شيئ آخر برضا الله . والله لا يريد إلا الخير لعباده . الله منقذنا . فأصلح الله الحل لتطهير نبيه صلى الله عليه وسلم من يمينه الخاطئ . وقد بين الله كفارة ذلك في الآيات من 87 إلى 89 من سورة المائدة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ . وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ . لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي ، أنه من حرم عمداً ما أحل الله من طعام شراب جارية زوجة ، وغيرها من الطيبات ، وجب عليه كفارة أيمانه . فكفارته هي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة .

هذا التحريم سبب لشرع حكم عام للجميع . ولم ينزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وحده . نزلت على كافة الناس إلى يوم القيامة . لقد اصطفى الله أفضل نبي يستحق أن يبلغ رسالات الله إلى الناس .

حفظ السر أمانة :

حفظ السر أمانة عظيمة وخلق حميدة ، وإفشاؤه خيانة الأمانة ، التي من علامة النفاق . والواجب على المسلم كتمان سر أخيه وعدم إفشائه ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا حَدَّثَ الرَّجُلُ الحَديثَ ثم الْتَفَتَ فَهِي أَمَانَةٌ [6] . وهو مهم جداً ، خاصةً في الحياة الزوجية . ويقوي الروابط بين الزوجين . ومن واجب كلاهما الحفاظ على السر . هذا هو مفتاح النجاح في الحياة الأسرية . ولذلك شجعه الإسلام . ونتيجة لإفشاء الأسرار وعدم حفظه تحدث مفاسد كثيرة في المجتمع ، وقطع العلاقة ، ومفرق بين الأحبة ، وغيرها . ومن ثم يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من إفشاء الأسرار .

وفي هذه السورة عاتب الله بعض زوجات النبي صلى الله عليه وسلم على إفشاء سر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا هو السبب الرئيسي لنزوله . ومن أجل إرضاء زوجاته ، حرم النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند إحدى نسائه ما أحل الله له في شيئ لا يعجبها بالقسم ألا يعود إليه أبداً . نزلت هذه الآية بعد إفشائها سر رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته الأخرى . فالله الذي يعلم السر والعلن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وعرفها ببعض ما قالت ، وأعرض عن بعضه . من قوله الله تعالى : ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) [ سورة التحريم : 3 ] ، فإن أهمية أمانة الحفاظ على السر أمر مهم جداً للرحلة الجيدة المقبلة في تلك الحياة الأسرية المقدسة . وهذه الأمانة هي درس لنا من خلال القرآن والحديث والسيرة النبوية . إن التربية الإيمانية الصحيحة ، مع الوعي بأن الله يراقب ، ضروري في حياتنا الأسرية .

عتاب من الله لزوجتي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم :

بسبب زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم ، حرم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً يحبه ، مما أحل الله له . فلما كان عند إحداهما أخبرت الأخرى بهذه الحادثة المحرمة . وبعد هذه الحادثة عاتبهما الله كما عاتب الله النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : ( إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ   ظَهِيرٌ ) [ سورة التحريم : 4 ] الرأي السائد في التفسيرات والأحاديث النبوية أن الزوجتين الكريمتين اللتين خاطبهما الله هما حفصة وعائشة رضي الله عنهما . وهنا يطلب الله من هاتين الزوجتين أن تتوبا لتطهير قلوبهما التي انحرفت عن الذنب . فإن تظاهرا عليه فإن أنصاره هم الله وجبريل والملائكة والمؤمنين . وهذه ليست إهانةً للتقليل من شأنهما . بل هذا العتاب تحسين أخلاقهما . وطبقاً لروايات مختلفة ، بعد هذه الحادثة التي كشفت عنها حفصة رضي الله عنها لعائشة رضي الله عنها ، فقد اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم زوجته حفصة رضي الله عنها فترةً من الزمن من شدة وجده عليها . ثم راجعها بأمر الوحي لأنها هي الصوامة ، القوامة ، وزوجته في الجنة .

وبسبب الغيرة والغضب والتنافس بين الزوجات ، عندما حدث أقل شيئ يعوق النبي صلى الله عليه وسلم هدد الله أن يبدلهن بزوجات خير منهن ، ويقول الله تعالى : ( عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ) [ سورة التحريم :  5 ] . ويدرس بهذا العتاب عظمة حفظ السر ، ورفعة مقام النبي صلى الله عليه وسلم ، وتحقيق الحياة الطيبة بمحبة ما يحب وبغض ما يكره ، وكسب إرادة الله والرسول صلى الله عليه وسلم . فإن تظاهرا عليه فإن أنصاره هم الله وجبريل والمؤمنين والملائكة .

مسؤولية حماية النفس وأسرته من جهنم :

ومع أن أحداث الآيات الأولى بأسرة النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنها عامة لجميع المؤمنين إلى نهاية العالم . لأن الله يعلمنا كيفية تنمية الحياة الأسرية الجميلة من خلال مثال النبي صلى الله عليه وسلم وأسرته . إذا حدثت أخطاء بشرية بسيطة في أسرة النبي ذات النفوس المقدسة ، فعلى الآخرين أن يكونوا أكثر حذراً . ولهذا السبب يمس الله تعالى العقل البشري المتقلب من خلال القرآن وحياة النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا هو تنوع عرض القرآن وأسلوبه . ولذلك فإن الآية السادسة من هذه السورة مهمة جداً ، تنقل أهمية تطهير الأسرة المسلمة ، كما قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) . وهذا هو النداء الثاني في هذه السورة . ومن خلال هذه الآية يدعو الله تعالى جميع المؤمنين إلى أمر خطير ، وهو إنقاذ أنفسهم وأهليهم من النار . وهو فريضة خاصة على الأسرة ، ويحذرهم من أن يكونوا وقوداً في نار جهنم ، وأن يبتعدوا عن أسباب دخولها . وخزنة جهنم هم الملائكة الزبانية ، وهم الغلاظ الشداد ، ونزع الله من قلوبهم الرحمة ، ولا يطيعون إلا أمر الله . ويدعو الله الكافرين ويقول لهم يومئذ ، لن يتمكن العذر ، ويجزون بأعمالهم . أي ينبغي لنا أن ننجو في الدارين بطاعة ما أمر الله به ، وترك نواهيه ، والاقتداء بالرسول الأعظم . ولهذا علينا أن نجهز أذهاننا . إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : “‏ إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ، ولا إلى صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ‏” [7] . أي العمل مع القلب مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ” إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا ، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ” [8] . ( متفق عليه ) ، قلب الإنسان متقلب . ومن مسؤوليته وأسرته أن يحافظ على ثبات العقل البشري في الدين الحنيف . لذلك ، من أجل الوصول إلى هذا النور السلمي ، يجب علينا أن نحاسب أنفسنا باستمرار ، ونستأصل الأشياء التي تعمل ضد إيماننا ، ونعزز الخير . ومن أقوى أدعية النبي صلى الله عليه وسلم : اللهمّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ! ثَبِّت قَلْبِي عَلَى دِينِكَ . لأن قلوب بني آدم بين إصبعي الله يقلبها .

الدعوة إلى التوبة النصوح :

التوبة النصوح هي التوبة الصادقة إلى الله دون أهداف مادية . وإن الله يحب التوابين ، كما قال الله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) [ البقرة : 222 ] ، ويتقرب بها العبد إلى الله . ويدخله الجنة الخالدة حيث تجري الأنهار ويشرق النور . وهي تمحو الذنوب ، وتحولها إلى حسنات . ولكن الأفضل هو ترك الخطيئة . كما قلنا من قبل ، من الطبيعي أن يرتكب الإنسان الأخطاء ، ولكن من يستطيع التحكم في عقله منها يفوز . يمكن أن يرى في القرآن والحديث أن الإسلام يشجع على التوبة كثيراً . لأن التوبة ليست مجرد الندم ، بل التوبة الصادقة هي تنقية العقل من الخطأ والسيطرة على العقل حتى لا يعود إليه مرةً أخرى . ولذلك ، حتى لا يصبح العبد حطباً في جهنم ، ينبغي للعبد أن يطهر نفسه وأسرته من أخطاء الماضي بالتوبة النصوح . وهذه هي الطريقة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم . وقد سبق بيان هذه الطريقة في الآيات الأولى من هذه السورة ، وكان هناك بسبب الأخطاء التي وقعت في أسرة النبي صلى الله عليه وسلم ، طلب الله من الزوجتين التوبة . إذن فإن التوبة دواء ناجع لتطهير القلب .

نماذج من النساء المؤمنات والكافرات :

وتنتهي السورة بمثال امرأتين كافرتين كامرأتي نوح ولوط ، وامرأتين مؤمنتين صالحتين كامرأة فرعون ومريم بنت عمران . وذلك لتكون عبرةً وعظةً للعالمين . ولهذا السبب وردت أمثلة للنساء المثاليات وغير المثاليات في هذه السورة التي تتناول قضايا الأسرة مع النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته . ويتعلم منها آل النبي وجميع المؤمنين العبرة . وإن أسلوب القرآن من خلال هذا النوع من التعليم سيزيد من تحسين قلب الإنسان .

لوط عليه السلام هو النبي الذي أرسل إلى سدوم . وكان من آل النبي إبراهيم عليه السلام ، وآمن معه . وكان يدعو ليلاً ونهاراً قومه الفجار إلى الإسلام ، ورغم كونه زوجاً نبياً إلا أن زوجته رفضت دعوته معهم ، كما أنها تعاونت مع الكفار في خيانته ، فأهلكها الله معهم . ونبي الله نوح عاش عمراً طويلاً يدعو قومه ليلاً ونهاراً إلى دين الله ، وأولئك الذين رفضوا الاستماع إلى دعواته المتكررة ، وأصروا على الإنكار ، ودمرهم الله بالطوفان . ومثل زوجة النبي لوط عليه السلام ، زوجته الكافرة التي خانت دين زوجها الصحيح ، ودمرها الله معهم ، كما قال الله تعالى : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) [ سورة التحريم : 10 ] .

وبعد ذكر أمثلة زوجات كافرات للأنبياء الكرام ، تصف الآيتان الأخيرتان الزوجة المقدسة آسيا عليها السلام للطاغية فرعون ، والقديسة مريم عليها السلام أم النبي الكريم المسيح عيسى عليه السلام ، من قوله الله تعالى : ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) [ سورة التحريم :11 ، 12 ] .

آسيا بنت مزاحم امرأة فرعون من بني إسرائيل . وهي مؤمنة راسخة ، لها مكانة عالية في الدنيا والآخرة . وبسبب إيمانها ، اضطهدت من قبل زوجها المستبد فرعون . وأنعم الله على آسيا عليها السلام زوجة فرعون المتكبر المارق أن تربي طفلاً اسمه النبي موسى عليه السلام ، فحفظه الله في ظلها . وأدى ذلك إلى نجاحها وسعادتها في الآخرة . وآمنت بإله موسى وهارون عليهما السلام . وصبرت حتى ماتت تحت تعذيب فرعون القاسي الجائر . وحتى وقت مقتلها كان دعاؤها : ” رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ ” . مريم بنت عمران ، مريم العذراء أم المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام وأخت موسى وهارون عليهما السلام . الطفل الذي نذرت أمه العجوز الخدمة في بيت المقدس . وعلى الرغم من كونها فتاةً ، إلا أنها كانت قادرةً على الخدمة فيه . وأصبح زوج خالتها نبي الله زكريا عليه السلام رعايتها . وبنعمة الله ، أنها رزقت من الغيب في عالم السماء . وهي شخصية عظيمة أحبت الله كثيراً . وعاشت عذراء ، متفرغةً لعبادته . بدون أب ، أهدى النبي الكريم عيسى عليه السلام إلى مريم عليها السلام بأمر الله .

آسيا بنت مزاحم ومريم بنت عمران عليمها السلام قدوة عظيمة للنساء المؤمنات بثبات إيمانهما . وهما من أفضل نساء الجنة . كما يظهر في الحديث أنهما زوجتا النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة . فإذا كان الأمر كذلك ، ففي الآية الخامسة من هذه السورة ، بسبب غيرة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، ألم يهددهم الله باستبدالهن بزوجات أفضل منهن مسلمات ومؤمنات وقانتات وتائبات وعابدات سائحات وثيبات وأبكاراً ؟ ومن أوصاف الزوجات الصالحات يمكننا أن نعتبر من الأبكار مريم عليها السلام ومن الثيبات آسيا عليها السلام .

ويوم لا ينفعه الإنسان أهله ولا ولده ولا ماله إلا عمله الصالح . فمثلا زوجتا النبي نوح ولوط الكافرتان ، رغم أنهما كانتا زوجتي نبيين صالحين ، إلا أن ذلك لم ينجهما من عذاب جهنم . أهلكهما الله بسبب كفرهما وخيانتهما . وكذلك زوج آسيا المؤمنة فرعون الذي كان يقول : أنا الرب الأعلى ، لم ينفع له إيمانها في الآخرة . لقد أهلكه الله أيضاً بإرسال العقوبة من الدنيا نفسها . ويتضح من هذه الأمثلة أن الأقارب والأنساب لا تنفع شيئاً في الآخرة . وينبغي له أن يستمتع بثمار ما فعله . وهذه الدنيا مزرعة الآخرة . يجب أن يكون هناك حصاد جيد . مثل مريم وآسيا ، يجب أن يكون لدى المؤمنين إيمان راسخ . ومثل هذا الإيمان يساعد الإنسان على مواجهة أي أزمة بالصبر ، والله تعالى يعينه وينجحه في الدارين .

*  باحثة الدكتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة كانور .

[1] الطنطاوي ، التفسير الوسيط ، ص 465 .

[2] الطاهر ابن عاشور ، تفسير التحرير والتنوير ، الدار التونسية للنشر ، تونس ، 1984م ،  ج 28 ، ص 343 .

[3] رواه البخاري ، صحيح البخاري ، المرجع السابق ، ر 6691 ، ص 1657 .

[4] الشوكاني ، فتح القدير ، ج 5 ، ص 331 .

[5] الألباني ، صحيح الترغيب والترهيب ، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع ، الرياض ، ط 1 ، 2000م ، ج 2 ، ر 2250 ، ص 547 .

[6] سليمان السجستاني ، صحيح سنن أبي داود ، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع ، الرياض ، ط 1 ، 1998م ، ج 1 ، ر 4868 ، ص 195 .

[7] رواه مسلم‏ ، صحيح مسلم ، بيت الأفكار الدولية ، الرياض ، 1998م ، ر 2564/33 ، ص 1035 .

[8] رواه البخاري ، صحيح البخاري ، المرجع السابق ، ر 6954 ، ص 1722 .‏