رسل الله في خاتم كتبه السماوية ( الحلقة الثالثة )

من وحي الزمان والمكان
يوليو 9, 2025
من وحي الزمان والمكان
يوليو 9, 2025

التوجيه الإسلامي :

رسل الله في خاتم كتبه السماوية

( الحلقة الثالثة )

بقلم : الدكتور غريب جمعة *

ثالث أولي العزم رسول الله موسى عليه الصلاة والسلام :

بعد سيدنا إبراهيم عليه السلام بخمسة قرون ، ساد الظلم والظلمات والاستبداد في كل مكان ، وابتعد البشر عن هدى الله كل الابتعاد .

وتعالى الرؤساء إلى عرش الألوهية ، وأخذوا يستعبدون الشعوب ويفرضون عليهم عبادتهم ، وانتشر الإفك وأباطيل السحر في المعابد ، وحل محل هدى الله ، وأخذت الجماهير تستعين بالسحرة في شئون حياتهم ودخائل نفوسهم . وتفاقم الفحش والانحراف ، فاقتضت حكمة الله إرسال سيدنا موسى وهو ثالث أولي العزم من الرسل لحمل الأمانة العظمى ، أمانة الإصلاح وتبليغ دعوة الإيمان الصحيح والتذكير بالآخرة .

قال الله تعالى : ( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ، إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ، فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى ، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ، إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي ، إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ، فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ) [ طه : 10 – 16 ] .

وكان هذا الاختيار لكليم الله ، مؤيداً بالمعجزة الصارخة المشاهدة المحسوسة لفرعون وقومه ، وهي معجزة العصا ، ولكن فرعون رفض الإذعان لما جاء به موسى إليه من رب العالمين ؛ لأنه كان ناصباً نفسه أنه هو رب العالمين . ألم يقل : ( فَقَالَ أنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى ) [ النازعات : 24 ] .

ومن أجل ذلك غضب فرعون ، وأنكر صحة إرسال موسى من أحد غير نفسه ، ونسب معجزة العصا إلى السحر وهو مُصر على زعم الألوهية لنفسه ، بل قد ازداد إصراراً حين ذكر له موسى صفات رب العالمين ، وأعرض عن سماعها واستصغره ونعته بالجنون ، حيال الشعب لكيلا يفطنوا إلى حقائق صفات الرب الأعلى ، ولكي يظلوا معتقدين أنه هو الرب الأعلى ، وفي الوقت نفسه هدد موسى بالسجن ، ليخيف الذين ارتابوا بألوهيته ، بعد أن سمعوا من موسى ما سمعوا ، وها بعض الحوار الذي جرى بين سيدنا موسى وفرعون ، عن حقائق صفات رب العالمين .

يقول تعالى : ( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ . قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ . قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ )   [ الشعراء : 23 – 29 ] .

ومهما يكن فقد أنكر فرعون معجزة العصا الصارخة ، وإن هاله أمرها لما شاهدها ، ولكن عناده جعله ينسبها إلى السحر ، شأن العاجزين في كل زمان ومكان . فلجأ إلى إثارة أهل الأرض ضد موسى ، فزعم أنه يريد أن يخرجهم من أرضهم ، وتظاهر بالتواضع وترك الأمر إليهم ، ليلزمهم بما يرونه في حق موسى عليه السلام من تآمر وجحود لما يدعوهم إليه ، والنتيجة واضحة ؛ لأن معجزة الله لا تُغلب ولا تنقض ولو اجتمعت الجن والإنس من أجل ذلك .

وأسقط في يد فرعون حين أبصر السحرة الذين كانوا يرجو بهم الانتصار على موسى يخرون سجداً لإله موسى . ولا عجب لأنهم لمسوا جلال معجزة العصا ، وأثار قدرة الله الماثلة فيها وآمنوا ولم يبالوا بما سيكون من فرعون بعد ذلك .

يقول تعالى : ( قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ . يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ . قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ . يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ . فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ . وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ . لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ . فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ . قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ . قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ . فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ . فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ . فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ . قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ . قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ . قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ . إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ )   [ الشعراء : 34 – 51 ] .

وفكر فرعون أن يبطش بموسى وقومه خشية أن يؤمن الناس برسالة موسى ، ولكن الله أمر موسى بالخروج من مصر ليلاً ، قبل أن يبطش بهم فرعون ، وحين علم فرعون بخروجهم ليلاً لحق بهم ، حتى أبصر بعضهم بعضاً ، وخاف قوم موسى وتحققوا الهلاك ، إذا أدركهم فرعون وجنوده ؛ لأن البحر اعترضهم فأين المفر ؟

ونسوا أنه رسول من أولي العزم ، وأن النصر والنجاة مكفولة له من الله عز وجل ، وتحقق كل ذلك ، فأمره أن يضرب بعصاه البحر فضرب وانفلق البحر ، واجتازه موسى وقومه ، ولحقه فرعون ، فهلك هو وجنوده .

يقول تعالى : ( فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ . فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ . وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ . وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ . ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) [ الشعراء : 61 – 67 ] .

وهكذا ألقت أقدار الله بفرعون وقومه في مزبلة التاريخ ليكون عبرةً لمن يأتي بعده من فراعنة إلى يوم الدين .

ولسوف يلقى هذا المصير الأسود فرعون العصر الحديث دونالد ترامب –إن شاء الله – ( وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) [ إبراهيم : 42 ] .

( وإلى حلقة قادمة إن شاء الله )

* جمهورية مصر العربية .