رسالة الإسراء إلى العالم الإسلامي

الصنم الذي هوى
يناير 28, 2025
الصنم الذي هوى
يناير 28, 2025

الافتتاحية :                بسم الله الرحمن الرحيم

رسالة الإسراء إلى العالم الإسلامي

كلما أظلنا شهر رجب تذكرنا قصة الإسراء والمعراج ، التي خلَّدها التاريخ كمعجزة كبرى للسمو الإنساني ، فقد شهد الركب الإنساني أكبر حدث في التاريخ ، وسعدت البشرية بأعظم سعادة في هذا العالم ، وهي سعادة انفردت بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم دون سائر الأمم ، وخص بها رسولنا العظيم محمد صلى الله عليه وسلم بين جميع الأنبياء والمرسلين ، فهذا الحدث التاريخي العظيم الذي لا ينساه التاريخ البشري على طول مداه يوحي إلينا أسرار الله البالغة في الكون والإنسان ، ويشير إلى عبر ومواعظ تملأ القلوب رهبةً ورغبةً ، وتشحن النفوس بعجائب قدرة الله تعالى التي أودعها في نفس الإنسان ، وبما أكرمه الله به من مكانة الخطاب القدسي ، ومنصب الخلافة الإلهية .

أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، حيث تم اللقاء والتعارف بينه وبين الأنبياء السابقين      ( عليه وعليهم الصلاة والسلام ) ، ومنه عُرج إلى السماوات العلى ، وإلى ما شاء الله من القرب والدنو ، حتى أكرم بالتحف الربانية ، والهدايا الغالية ، التي ظلت ولا تزال شرفاً وسعادةً للإنسانية إلى يوم القيامة ، وتتلخص هذه الهدايا والعطايا في الصلوات الخمس والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة ، والمغفرة لمن لم يشرك بالله شيئاً ، وقد أكرم بهذه الهدايا الربانية النبي صلى الله عليه وسلم من فوق سبع سماوات ، رغم أن هناك مئات من الأحكام والوصايا أنزلها الله تعالى بواسطة جبريل عليه السلام إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، إذا تأملنا قليلاً في جميع شعب الإيمان والإسلام من العقائد والعبادات ، والأخلاق والمعاملات والشئون الاجتماعية اتضح لنا جلياً أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة قبل الهجرة أو في المدينة المنورة بعد الهجرة ، وقد نزل القرآن الكريم بأكمله خلال ثلاث وعشرين سنة في البقاع المقدسة ، فازدات هذه الهدايا شرفاً وعظمةً ، ونالت سعادةً وكرامةً لا تعادلها كرامة .

وهذه الهدايا السماوية لها صميم علاقة بالحياة الإنسانية ، وكل هدية تحمل في طياتها مفاهيم غزيرةً ، ومدلولات واسعةً ، ومعاني ساميةً ، فإن الصلوات الخمس هي ميزان رباني لجميع شئون الحياة ، فإذا صلحت صلاة المرء ، وبلغت في مستواها إلى أرقى درجة ، ونالت من الإخلاص وطهارة القلب حظها أصبحت مقياساً لكل عمل ينجزها المرء في حياته ، فالصلاة ليست حركات رتيبةً ، ولا تمرينات رياضيةً ، ولا نظاماً خشيباً ، ولا أداةً جامدةً ، بل يشاركها العقل واللسان والقلب والجسم ، فإذا مارسها كل عضو من أعضاء الإنسان ، وكل جارحة من جوارح المرء ، كانت الصلاة صلاةً ربانيةً قرآنيةً ، ومقبولةً عند الله ، ونال صاحبها النجاح والفوز في الدنيا والآخرة ، وإذا كانت الصلاة بالعكس من ذلك رُميت على وجه المصلي ، ولا تكون لها قيمة ولا أهمية ، ويكون صاحبها خاسراً في مهام حياته وغاياتها ، ولا يحالفه النجاح في أي شأن من شئون الحياة ، فالصلاة هي شرط النجاة ، وحارسة الإيمان ، وهي شرط أساسي للهداية والتقوى ، ولا تسقط الصلاة عن صحيح ومريض ، وغني وفقير ، ومقيم ومسافر ، حتى عن نبي ورسول فضلاً عن ولي أو صالح ، وهي فريضة محكمة إلى أن يفارق الإنسان الدنيا ، وقال الله تعالى :       ( وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ ) [ الحجر : 99 ] .

أما الآيتان الأخيرتان من سورة البقرة ، اللتان أُكرم بهما النبي صلى الله عليه وسلم في المعراج فهما تشتملان على العقائد وأصول الدين ، وثوابت الدين ودعائمه ، ولا يكون إيمان المرء إيماناً حقيقياً إلا إذا تشبث بهذه الأسس والركائز التي تناولت هاتان الآيتان بذكرها ، وهي الإيمان بالله وجميع الرسل والملائكة والكتب ، وقد نقل المفسرون أن الآية الأولى ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ) لما نزلت قال جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم غايته بالآية الثانية ، وهي دعاء ومناجاة وابتهال إلى الله تعالى ، وتضرع وإخبات لابتغاء وجهه ، وقد ثبت من صحيح مسلم أن الله تقبل دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : نعم ، قد فعلت ، وردت في هاتين الآيتين فضائل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، روى الإمام البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ، وهما كنزان غاليان من كنوز الله عز وجل ، لم يعط أي نبي من الأنبياء أمثال هذه الكنوز .

أما الهدية الثالثة التي أُكرم بها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء فهي مغفرة تامة لمن لم يشرك بالله عز وجل ، وبشارة عظمى ، ونعمة كبرى لهذه الأمة المحمدية ، فإن أفرادها يسعدون بنيل هذا الشرف والعظمة بواسطة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فالإشراك بالله ذنب لا يُغتفر ، وجريمة لا يصفح عنها الله تعالى يوم القيامة ، ويثور غضب الله عز وجل إذا ارتكب الإنسان هذه المعصية ، ويسقط في عينه ، ولا يحمل في عينه مثقال ذرة من قيمة إذا صدر منه هذا الفعل الشنيع ، وكثيراً ما حذر القرآن الكريم من هذا الخطأ البين ، ونبه الناس من الابتعاد عن هذه المعصية ، فالمؤمن الحقيقي يكون في قمة من المجد والكرم ، والشرف والعظمة ، لكنه إذا أشرك وقع في قعر من الذلة والاستكانة ، ولحق بالحضيض الأسفل ، وظل منبوذاً ومطروداً عند الله ما لم يتب عن هذه المعصية ، ولا فرق في ذلك بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر ، فإن الشرك الأكبر يلوح لكل ناظر ، ويبدو لكل مبصر ، ويكون صاحبه ذليلاً لدى كل ذي بصر وبصيرة ، لكن الرياء وطلب السمعة ونيل الشهرة الكاذبة والاعتماد الزائد على الأسباب المادية دون الثقة بالله يجعل صاحبه صفر اليدين عند الله عز وجل ، لأنه ربَّى في قلبه صنماً أكبر ، وقام بتغذيته وتقويته بالنفس الأمارة بالسوء ، فكان هذا الرجل يحسب أنه يحسن صنعاً ، لكن سعيه وجهده خاب وفشل ، وخسر الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين .

فهذه الهدايا الربانية التي أهداها الله عز وجل إلى نبينا العظيم محمد صلى الله عليه وسلم ليست إلا دليلاً على انطلاق الإنسانية من حضيض المادة والشهوات إلى أوج الروحانية وسمو النفس ، والتحرر من قيود الحدود والثغور المصطنعة للاتصال بذات الله سبحانه وتعالى ، والخروج من عبادة الله ، للالتجاء إلى حظيرة الله ، والتخلص من قيود الشيطان إلى كنف الرحمن ، فذكرى الإسراء والمعراج تذكرنا شرف المكانة التي حظينا بها ، وتتطلب منا أداء المسئولية التي حملناها على عواتقنا كخير أمة ، ودُعينا مسلمين .

وقد تضاعف أداء هذه الأمانة في القرن الحادي والعشرين الميلادي ، حينما يتألب أعداء الاسلام على بلدان المسلمين ، ووقعت أرض الإسراء والمعراج في أيدي الصهاينة المجرمين الذين لا يعرفون إلاً ولا ذمةً نحو الإنسانية ، ويذيقون أهالي فلسطين من التعذيب والتشريد ما لا حد له ولا نهاية ، وقد مثل أبطال طوفان الأقصى دوراً ريادياً منقطع النظير ، ولا يزالون يدافعون عن أرض الإسراء والمعراج ، ويقدمون في ذلك أرواحهم الزكية ، ودماءهم النقية ، وسيأتي النصر من الله تعالى بتثبيت دعائم هذه التحف الثلاث التي أكرم بها النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم ، فإنها ينابيع الفتح والانتصار ، ومصادر الخير المدرار ، فإن الغلبة والوصاية على العالم لا تحصل أبداً بتضخم الأسباب المادية ، وكثرة الوسائل الدنيوية فقط ، بل إذا حالفها النصر الرباني والتوفيق الإلهي على تقوية الدعائم الإيمانية والثوابت العقدية تحققت بشارة الله تعالى ، قال الله تعالى : ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ) [ آل عمران : 139 ] .

والله يقول الحق ، وهو يهدي السبيل .

سعيد الأعظمي الندوي

7/6/1446هـ

9/12/2024م