رحلة إلى الأردن بين المقدسات والمعالم ( الحلقة الخامسة )

نظرة على ترجمة ( محمد مارمادوك ) بكتال لمعاني القرآن الكريم ومميّزاتها
مارس 24, 2025
نظرة على ترجمة ( محمد مارمادوك ) بكتال لمعاني القرآن الكريم ومميّزاتها
مارس 24, 2025

أدب الرحلات :

رحلة إلى الأردن بين المقدسات والمعالم

( الحلقة الخامسة )

الأخ السيد عبد العلي الحسني الندوي *

وصلنا إلى محافظة ” كرك ” قبيل الظهر وباشرنا إلى ساحة        ” مؤتة ” الأسطورية التي شهدت بأم أعينها معركةً ضاريةً خاضها المؤمنون وصمدوا فيها صمود الجبال الراسيات أمام الإمبراطورية الرومانية البيزنطية الضخمة خارج حدود الجزيرة العربية لأول مرة في التاريخ وأبرزوا فيها بطولةً وبسالةً ورباطة جأش وشدة بأس لم يشهد التاريخ مثلها قبل وربما لم يتمكن من تقديم أمثالها بعد .

وكانت هذه الغزوة المرموقة نقطة تحول بالنسبة للفتوحات الإسلامية خارج حدود الجزيرة العربية التي انطلقت من بلاد الشام وامتدت إلى فارس في شرقها وإلى مصر في شمال غربها والتي أدت – في جانب – إلى غزو أقاليم البيزنطيين الروميين في بلاد الشام ، وأهربتهم إلى الحد الأقصى في الشمال وكسرت شوكة الإمبراطورية الرومية العظمى واستأصلت – في جانب آخر – جذور الإمبراطورية الفارسية ومزقت الظلم والظلام كل ممزق ، وأزالت المعايير المصطنعة المكتظة بالعنجهية والغطرسة والطغيان ووحدها تحت راية الإسلام فتبددت الظلمات ورأبت التصعدات وأخمدت نيران الكفر والفسوق والعصيان وانجلى بصيص الأنوار في داخل الإنسان واستمد الجماهيرُ في هاتين الإمبراطوريتين العظيمتين مقتبسات من أشعة الإسلام ونوروا بها أنفاق حياتهم الدهماء واعتنقوا الرسالة المحمدية الحنيفية السمحاء وسلكوا دروبها التي تفضيهم إلى أطراف العالم مبشرين ومنذرين .

معركة مؤتة :

بعد هزيمة قريش وقبائل العرب في غزوة الخندق وعقد صلح الحديبية بين المسلمين ومشركي مكة قام النبي صلى الله عليه وسلم ببعث سفرائه حاملين رسالاته إلى كافة أمراء السلطات والولايات وأباطرة الإمبراطوريات المجاورة للجزيرة العربية يدعوهم فيها إلى الإسلام ، وكان من المتعارف المعهود عند الأمراء والملوك آنذاك – ومازال هذا العرف الدبلوماسي يُؤخذ في الاعتبار عند الأقوام المتحضرة وكان معمولاً به على مر العصور – أنهم كانوا يحترمون السفراء والرسل مهما اشتدت الخلافات والخصومات ، وكرهت الرسالة التي يحملونها ، ولم تجر العادة بقتل الرسل والسفراء لكونهم مجرد رسل مبعوثين من ملوكهم ، ولكن لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى ملك الروم يدعوه فيه إلى دين الإسلام عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني أحد عمال قيصر على البلقاء في جنوب الشام ، ولما علم أنه رسول من رسل النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أن يوثق برباط ثم قدمه وقام بضرب عنقه صبراً ، ولما بلغ خبر هذا البغي العظيم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم اشتد عليه الأمر ، ولم يتغاض عنه لما فيه من إهانة شديدة للمرسَل والمرسِل والرسالة ، وتسببت هذه المأساة الدامية الكارثية لنشوب معركة خطيرة ذات تحديات كبيرة ومعاناة شديدة ، إذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج إلى بصرى الشام ، فتجهز الناس وأخذوا العدة والعتاد واستعدوا للاستماتة في سبيل الله ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الجيش وشيعه وهم ثلاثة آلاف ، حتى بلغ ثنية الوداع ، واستعمل السادة الشهداء من أصحابه الأجلاء زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة على جيش المسلمين رضوان الله ورحمته وبركاته عليهم ، وقال : إن أصيب زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب ، وإن أصيب جعفر بن أبي طالب فعبد الله بن رواحة ، وودع الناس أمراءهم ومضى الجيش ، ولما وصل إلى معان – وهي محافظة كبيرة شمال المملكة الأردنية الهاشمية – بلغه أن هرقل قيصر روم جمع تجمعاً ضخماً من الروم ، وضم إلى جيشه جمعاً كبيراً من قبائل العرب النصارى ، فأصبحت عدتهم مأتي ألف أو أكثر ، وكانت عدة المسلمين ثلاثة آلاف فقط ، فمكث المسلمون في ” معان ” ينظرون في أمرهم ، وأرادوا أن يكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبروه بعدد العدو فإما أن يمدهم برجال وإما أن يأمرهم بأمره فيمضون له ، فشجع الناسَ عبد الله ابن رواحة ، وقال : يا قوم ! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به ، فانطلقوا فإنما هى إحدى الحسنيين ، إما ظهور وإما شهادة ، فمضى الناس ، ولما كانوا بتخوم البلقاء لقي الجيشان بقرية مؤتة وأضرمت نار الحرب ، ولما بدأت المعركة جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في المسجد ، وصعد على المنبر ، ورفعت له أرض المعركة فصار يصفها وأخبرهم باستشهاد القادة ، ودمعت عيناه الشريفتان – على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم – ، يقول أنس ابن مالك رضي الله عنه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفر وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم الخبر فقال :

” أخذ الراية زيدٌ فأصيب ، ثم أخذ الراية جعفرُ فأصيب ، ثم أخذ الراية ابن أبي رواحة فأصيب ، وعيناه تذرفان ، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ، حتى فتح الله عليهم ” ، وصدق شاعر الإسلام حسان بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه حين قال :

نبي يــــرى ما لا يـرى الناس حوله  ويــتلو كتاب الله في كل مشهد

فإن قــال في يـــوم مــقـــالـــة غائب  فتصديقها في صحوة اليوم أو غد

ميدان مؤتة :

نحن في ساحة ” مؤتة ” التي أصبحت وسط البلاد في محافظة       ” كرك ” ، واستوطن حولها تجمع سكاني كبير ، وأقيمت في شرقها بمسافة بضعة أميال جامعة كبيرة سميت بجامعة ” مؤتة ” يدرس فيها آلاف من الطلبة والطالبات ، ويقع في شمالها قلعة ” كرك ” الأسطورية التي يعود تاريخها إلى عصر المؤابيين والتي فتحها أبو عبيدة بن عامر الجراح في عهد الخليفة الراشد عمر بن خطاب رضي الله عنهما وأرضاهما ، ويقع بقربه الضريحُ الذي يُزعم أنه لنبي الله نوح عليه السلام ولكن هناك ما لا يقل عن خمسة مواقع في الدول المختلفة يزعم فيها البعض أنها قبر النبي نوح عليه الصلاة والسلام والله أعلم بالصواب ، وفي الجانب الغربي من محافظة كرك قرب البحر الميت توجد بعض الآثار لخربات البيوت والقرى التي تنتمي إلى التاريخ الحجري القديم من الأنباط الذين كانوا يقطنون في شمال جزيرة العرب وجنوب الشام ، أما الساحة التي وقعت على ثراها معركة ” مؤتة ” فهي أرض متموجة ممتدة رحيبة خضراء ذات عشب طبيعي وارف الجمال والبهاء ، وقد شنت على ثراها معركة أسطورية حاسمة فتحت للمسلمين أبواب بلاد الشام ، وفي مستهل هذا الميدان في شماله حيث وضعت لوحة حجرية رسم فيها اسم السفير الشهيد حارث بن عمير الأزدي وجدنا آثاراً لمسجد ربما شيده أحد الملوك كنصب تذكاري لهذا الموقع التاريخي في طليعة العهد الإسلامي وتوجد قبور قرب هذا الميدان بمسافة يسيرة دفن فيها من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهداء المعركة ، ومنهم زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم وأرضاهم ، وهؤلاء هم الذين قال فيهم شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت رضي الله عنه :

فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا بمؤتة منهم ذوالجناحين جعفر

وزيد وعبدالله حين تتابـعوا جـــميــعـاً وأسـباب المنية تخطر

وقال الشاعر السوري سليمان العيسى في جعفر الطيار رضي الله عنه :

يا ذا الجناحين هل من ريشة خضبت  بالنار أحــــمــــلـــهـــا نــوراً إلى الـعرب

إحــدى ذراعــيــك حـول القدس دامية  يا ذا الجناحين والأخرى على النقب

كنا نزور هذه المواطن الشريفة ونستشرف تاريخنا النبيل ونقول بلسان الحال وهو أبين من لسان المقال . . . . يا ليت مجدنا يعود وكرامتنا تنبعث والأمة تنهض بقوة الإيمان والجنان وتأخذ مكانها كأمة معلمة مرشدة توقظ العالم البشري الذي يرضى ويطمئن بالحياة الدنيا ويغفل عن الآخرة ، ويا ليت الأيام ترجع إلى الوراء فنمسي قوة إيمانية ضخمة يرتجف بها الباطل ولا يرفع رأسه ، ويا ليتنا نستمسك بالعروة الوثقى ونعتصم بحبل الله المتين ونتطرق إلى الإسلام من جديد .

( وللحديث بقية )

* نجل الشيخ السيد بلال عبد الحي الحسني الندوي .