رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه

إعلان الاستقلال وانعكاساته على سلامة العالم
نوفمبر 22, 2024
والذي خبث لا يخرج إلا نكداً
يناير 28, 2025
إعلان الاستقلال وانعكاساته على سلامة العالم
نوفمبر 22, 2024
والذي خبث لا يخرج إلا نكداً
يناير 28, 2025

صور وأوضاع :

رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه

محمد فرمان الندوي

اخضرَّت أرض فلسطين بدماء الشهداء ، والمجاهدين في سبيل الله عزوجل من جديد ، وقد سُقيت ، ولا تزال تُسقى بالدماء المهراقة منذ أكثر من خمس وسبعين سنةً ، وذلك لحرمة المسجد الأقصى ، وصيانته وإنقاذه من الأيدي الآثمة ، والسيطرة النجسة ، ونحن على يقين بأن الله سيطهر هذه الأرض المقدسة من أوضار الظلم والاعتداء ، ونجاسات الكبر والغطرسة بقوته القاهرة ، وتضحيات الطائفة المنصورة وأبطال الإسلام والمسلمين الذين لا يضرهم من خذلهم .

إن قضية فلسطين أصبحت قضيةً شائكةً منذ أقيمت دولة إسرائيل على أرض فلسطين ، ونالت القضية اهتمام وعناية العالمين العربي والإسلامي حينما جثم العدو على هذه المنطقة ، وقد وقعت خلال هذه الفترة ثلاث معارك حاسمة بين العرب وإسرائيل ، مرةً نكبة 1948م ، وأخرى عام 1967م ، وثالثة عام 1973م ، لكن العدو الغاشم مازال ولم يزل يغصب الأراضي الفلسطينية بدعم من القوى المادية الكبرى ، وقد ضحى في هذه المعارك المجاهدون المغاوير بنفوسهم ، ونذروا حياتهم ابتغاءً لوجه الله تعالى ، وقبل هذه المعارك الثلاث ناضل لتحرير المسجد الأقصى المجاهد الكبير الشيخ عز الدين القسام الذي كان ينتمي إلى اللاذقية ، وقد نال شهادتي العالية والعليا من جامعة الأزهر بالقاهرة ، وكان يلقب بأمير المجاهدين وداعية الجهاد في فلسطين ، وقد نفخ روح الجهاد في العالم الإسلامي ، وقام بإعداد أجيال متفانية لأجل المسجد الأقصى ، فسميت كتائب عز الدين القسام باسمه ، نظراً إلى جهوده الجسام ، وظل شعارها في معركة فلسطين : إنه جهاد : نصر أو استشهاد .

شيخ الانتفاضة أحمد يسين :

رغم التضحيات الجبارة ، وبذل الأرواح والنفائس في سبيل المسجد الأقصى ازداد الأمر تعقداً ، وصارت القضية ملتويةً ، ودخلت في منعطف حاسم ، فقامت شخصية أسطورية ، وهي شخصية شيخ الانتفاضة ، وأبي المقاومة الشيخ أحمد يسين إسماعيل رحمه الله ( 1936م – 2004م ) ، وكان قلبه يعتصر حزناً وألماً على فوات المسجد الأقصى ، فشارك في جهاد فلسطين وهو ابن عشرين سنةً ، ومازال يُلهب مشاعر المسلمين بلسانه وقلمه وكيانه ، وكان من خريجي جامعة الأزهر ، والمعجبين بفكرة الإمام حسن البنا ، فلم يدخر وسعاً في توسعة نطاق حركته على أرض فلسطين ، وكان قعيداً أشل ، جالساً على الكرسي ، لا يستطيع أن يتحرك إلا بالعربية ، لكنه كان صابراً ومرابطاً طول حياته في سبيل الله ، وأدخل في السجن في الثمانينيات من القرن العشرين الميلادي لسنتين ، ولما أفرج عن السجن بدأ يسعى لإفشال جهود الاحتلال ، وكان يعتقد أن الاحتلال لا يفهم إلا منطق القوة والأسلحة ، ولا يتكلم إلا بلسان النار ، فلا بد من إعداد القوة ، وجمع الوسائل المادية مع الثقة بالله ، لأنه كان يعتقد أن الشيئ الذي أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة ، فلم يرض بالمفاوضات المزعومة ، فأنشأ حركة حماس عام 1987م ، فهذه الحركة منذ أول يومها مستمرة بخيلها ورجلها ، ومعداتها ووسائلها لإنقاذ أرض فلسطين من سيطرة الاحتلال ، واستشهد الشيخ أحمد يسين في غارة جوية – وهو يرجع جالساً على كرسيه المتحرك من المسجد بعد صلاة الفجر إلى منزله – رحمه الله رحمةً واسعةً ، وأغدق عليه شآبيب رضوانه .

بعد شهادة الشيخ أحمد يسين لم تضعف طموحات حماس ، ولم تنطفئ شعلة مقاومتها ، بل الواقع أن نارها قد ازدادت اشتعالاً وحرقةً ، ذلك لأن الشيخ أحمد يسين كان مربي الأجيال ، وصانع الرجال ، ترك خلفه عدداً كبيراً من الأبطال الشجعان الذين يتمنون الشهادة في سبيل المسجد الأقصى ، وكانوا لا يخافون الموت ، بل يستقبلونه بثغور باسمة ووجوه ضاحكة مستبشرة ، فالموت في سبيل الله عندهم أرخص متاع ، لأنهم باعوا أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، فإن جميع الفصائل الفلسطينية من كتائب القسام وسرايا القدس ، والجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصى وكتاب الشهيد أبي علي مصطفى ومناضلي الجبهة الشعبية كانت غيضاً من حسناته ، فهذه هي الكتائب الإيمانية التي جهزها الشيخ أحمد يسين ونفخ فيها روح الجهاد الإسلامي ، فإنها مازالت ولا تزال تلعب دوراً قيادياً في استعادة الأراضي المقدسة ، فإن شهادة يحيى عياش ، وفتحي الشقاقي وأبي علي مصطفى وصلاح شحادة وإسماعيل أبي شنب لم توقف المقاومة ، ولم تُسكِّن الجهاد ، بل حمي الوطيس أكثر مما كان ، وكان من أبرز قادة حماس : عبد الفتاح دخان من المنطقة الوسطى ، ومحمد شمعة من مخيم الشاطئ ، وإبراهيم اليازوري من غزة ، وعيسى النشار من رفح ، وموسى مرزوق ، وخالد مشعل وعبد العزيز الرنتيسي وإسماعيل هنية ، ويحيى السنوار ومحمد الضيف وغيرهم .

ثلاثة من قادة حماس :

(1) وقد عين الشيخ عبد العزيز الرنتيسي خلفاً للشيخ أحمد يسين ، ورئيساً لحركة حماس ، وهو من مؤسسيها ، وكان من مواليد 1947م في الضفة الغربية ، وكان خطيباً مفوهاً ، وشاعراً مفلقاً ، وأديباً حاذقاً ، وقد اشتغل بالتدريس في الجامعة الإسلامية بغزة محاضراً وأستاذاً ، لكنه لم يتغافل عن مهمته الجهادية ، فأدخل في السجن عام 1983م ، لكنه خرج منه على عجل ، وظل نشيطاً في الحركة ، حتى انتخب خليفةً للشيخ أحمد يسين ، وما إن مرَّ على تعيينه رئيساً شهر كامل ، حتى اغتالته قوات الاحتلال بقصف جوي أدى إلى شهادته ، ولبى نداء ربه في 17/ أبريل 2004م .

(2) إن الأستاذ خالد مشعل يعد من مؤسسي حركة حماس ، ولد عام 1956م في الضفة الغربية ، هاجر مع أسرته إلى الكويت ، فدرس في جامعة الكويت ، ونال شهادتي البكالوريس والفيزياء ، وانضم إلى حماس عام 1971م ، وظل يقود الحركة بحكمة وبصيرة ، وشغل منصب رئاسة حماس إلى مدة ، في فترتين ، وقد استهدفه الموساد للاغتيال في الأردن ، لكن الله عز وجل نجَّاه ، ووقاه من كل سوء ، وقد زار غزة عام 2012م ، ويعيش الآن في الدوحة ، أبقاه الله ذخراً للإسلام والمسلمين .

(3) تقلد رئاسة حماس عام 2017م الدكتور الشهيد إسماعيل هنية ، وكان شخصيةً نابغةً ببطولاتها النادرة ، وتضحياتها الجبارة ، كان من مواليد 1962م ، في مدينة غزة ، حفظ القرآن الكريم وأتقنه ، وواصل دراسته في الجامعة الإسلامية بغزة ، وحصل منها على شهادتي الليسانس والماجستير والدكتوراه ، بدأ حياته الجهادية من شبابه ، واعتقل وسجن ، لكن الله تعالى فك أسره ، وأصبح رئيساً لحركة حماس ، ولعب دوراً ريادياً في تنشيط حركة حماس وإحداث طوفان الأقصى واستمراريته إلى سنة كاملة ، حتى استشهد في أحد فنادق إيران في 31/ يوليو عام 2024م ، وكان من جمله السائرة أنه قال يقول : لن نعترف بإسرائيل ، لن نعترف بإسرائيل ، وكان يقول : نحن قوم نعشق الموت كما يعشق أعداؤنا الحياة ، ونعشق الشهادة على ما مات عليه القادة .

عاش سعيداً ومات شهيداً :

إن بطلنا المغوار يحيى السنوار عاش سعيداً ومات شهيداً ، وقد لبى نداء الله عز وجل كما كان يتمنى الشهادة في سبيل الله ، وكان في معترك الحياة وأتون الجهاد ، يحارب ويناضل ويقاوم الاحتلال حتى الرمق الأخير من حياته مقبلاً غير مدبر ، وكانت يده مجروحةً ، ورجله مبتورةً ، لكنه لم ييأس من رحمة الله تعالى ، بل رمى بعصاه كاميرا الدرون رغم جروحه وقروحه ، فأصبح عمله هذا مضرب المثل ، وقد جرى على لسان الناس : رميته بعصا السنوار ، وأدخلت هذه الجملة السائرة الذكر في الأمثال العربية المعاصرة ، وقد سماه العالم الإسلامي قائداً عبقرياً ومجاهداً أسطورياً ، وأصبح يحيى السنوار بعد شهادته في السابع عشر من شهر أكتوبر 2024م رمزاً للبطولة والإباء والجهاد والكفاح ، وقد جمع في شخصيته معاني الفتوة والشجاعة والبساالة ، إنه كما قال رئيس حماس الدكتور خليل الحية : ” إنه مات موت الشرفاء الكرام ، موت الأبطال الأحرار ، موتا يحيى آلاف القلوب الميتة ، رخص بنفسه ودمه في سبيل أمته ، لم يبال بأسلحة العدو المدمرة ، وصواريخه الفتاكة وقنابله المهلكة في سبيل الدفاع عن الدين والعزة والعرض والوطن والأمة ، لقد استخف بدمه لحقن دماء شعبه ، واستهان بحياته ، ليحيى أمته حراً كريماً ، إنه مات ليحيى كما كان قبل موته : يحيى ليموت ، نعم هو القائد الذي مات ليحيى في قلوب الملايين من أمته ” .

قضى يحيى السنوار عشرين سنةً من حياته في السجن ، بدءاً من 1988م إلى 2011م ، وكان من مواليد 1962م ، وقد وفقه الله لإعداد كتب علمية وأدبية ، منها الشوك والقرنفل ، وهو قصة جهد وجهاد في سبيل الله ، وكان يقول : ” إن أكبر هدية يمكن أن يقدمها العدو والاحتلال لي هي أن يغتالوني ، هي أن أقضي إلى الله سبحانه وتعالى شهيداً ، أنا حقيقة أفضل أن أستشهد بـ ” إيف 16 ، أو بالصواريخ ، من أن أموت بكورونا أو أموت جلطةً أو سكتةً أو بحادث طريق ” ، وقد حقق أمنيته هذه ، وكتب له الشهادة الحقيقية ، وحشره مع الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً .

هذه نبذه من سيرة رؤساء الشهداء في سبيل تحرير فلسطين ، وهناك قائمة طويلة للشهداء في طوفان الأقصى من الرجال والشباب والنساء والصبيان والأرامل والثكالى والمحرومين ، فهؤلاء الشهداء كلهم يعيشون في جنات الخلد عند مليك مقتدر بإذن الله ، ولا شك أن ذكر بطولاتهم وتضحياتهم ينفخ في الأجيال المعاصرة روح الجهاد والاستشهاد في سبيل الله تعالى ، وهذه الغاية التي يسعى لها المؤمن الحقيقي ، قال الله تعالى : ( مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ) [ الأحزاب : 23 ] .