ذكرى مئوية للخلافة العثمانية

أوسعتهم سباً ، وأودوا بالإبل
أبريل 27, 2024
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
يونيو 4, 2024
أوسعتهم سباً ، وأودوا بالإبل
أبريل 27, 2024
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
يونيو 4, 2024

صور وأوضاع :
ذكرى مئوية للخلافة العثمانية
محمد فرمان الندوي
الخلافة من شعائر الإسلام ومعالم الدين ، وهي المظلة الجامعة التي لم يُسبق لها مثيل في تاريخ شعب ولا ملة ، وقد ابتكرها الإسلام منذ فجره ، فأضفى الله على أول إنسان في الكون هذا اللقب لتشريفه وتكريمه ، فلم يكن الإنسان خليفة الله تعالى في معنى الكلمة ، ولا يمكن ذلك ، وهو نيابته وإدارة أموره في عدم حضوره ، ولا تتطرق أبداً – العياذ بالله – هذه الفكرة إلى ذهن أحد أن الله تعالى قد تنازل عن عمله ، وتخلى عن مسئوليته بعد خلق العالم ، فإن الله لا يمسه نصب ولا لغوب ، ولا يطرأ عليه سنة ولا نوم ، فكان معنى الخلافة هو تطبيق شعائر الله على وجه الأرض : إما ظاهراً فهو إقامة الحدود والعقوبات ، ونصب القضاة ، وفضل المنازعات ، وتدبير السياسات ، وإما باطناً فهو تزكية النفوس ، وتحليتها بالأخلاق الحميدة ، والصفات المحمودة ، هذا ما أشار إليه الإمام الدهلوي في التفهيمات الإلهية .
ظلت الخلافة الإسلامية في التاريخ الإسلامي تحافظ على وحدة الأمة ، وتحمي مثلها وقيمها ، وتحرس مقدساتها وشعائرها ، وتطبق الشريعة الإسلامية بأبرز صورها وأشكالها ، فنالت الأمة بها شرفاً وعظمةً ، وحازت قوةً وريادةً ، وبلغت إلى ذروة المجد والرقي ، فكانت تخاف منها الإمبراطوريات ، وتخشى منها السلطات ، وكانت تقيم لها كل وزن وقيمة ، وكلما مرَّت بواخرها بمناطق الأعداء فكانت ترتعد لها فرائسها ، وقد نظمت الخلافة الإسلامية أفراد الأمة في سلك واحد ، لا ينفصم نظمه ، ولا تتبعثر حبات مسبحته ، فكانت كالقطب الذي تدور حوله رحى الحياة .
إن تاريخ الخلافة وإن كانت قد ابتدأت منذ سيدنا آدم عليه السلام ، وهو تاريخ ذو شجون ، لكننا إذا درسنا تاريخها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عرفنا أنها ظلت قوام الأمة الإسلامية وأساسها ، فنظر إليها الحاقدون نظرة احتقار وازدراء ، ونسجوا مؤامرات لإزاحتها ، وتشويه سمعتها ، وكتبوا عنها كتابات واهيةً سخيفةً ، وأشاعوا عنها أراجيف مزورةً وإشاعات كاذبةً ، ولما تبعثر نظام الخلافة مروراً بالخلافة الراشدة والخلافة الأموية والخلافة العباسية ، والخلافة العثمانية وانقسمت الكيانات العثمانية بوجه أخص إلى كتلات ودويلات صفقوا لها بطراً ومرحاً .
الخلافة الإسلامية عبر القرون :
على إثر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قامت الخلافة الراشدة ، وانتخب سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه خليفةً في سقيفة بني ساعدة بالمدينة المنورة ، وكانت خلافته سنتين ، ثم تولى الخلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وكانت مدة خلافته عشر سنوات ، ثم صار خليفة المسلمين سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وكانت مدة خلافته اثنتي عشرة سنة ، ثم اختير سيدنا علي بن أبي طالب خليفة المسلمين ، وكانت مدة خلافته خمس سنوات ، وكان بعده سيدنا الحسن بن علي رضي الله خليفة المسلمين عدة شهور ، هكذا كانت الخلافة الراشدة ثلاثين سنةً ، كما أخبر بذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ( مسند أبي داود الطيالسي : 431 ) .
وصدق الشاعر العربي أبو العتاهية إذ قال :
أتته الخلافة منـقادةً إلـــيــه تـــجـرر أذيالها
فلم تك تــصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها
وبعد الخلافة الراشدة تولى بنو أمية نظام الخلافة ، فكان فيها 13/ خليفة ، وكان أولهم سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ، وكان آخرهم مروان بن محمد ، وابتدأت هذه الخلافة منذ 41 من الهجرة إلى 132هـ ، وكانت مدة خلافة سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما عشرين سنة ، وقد أنجز خلال هذه المدة إنجازات غير مسبوقة ، وبعد عدة سنوات من خلافته كان عهد سيدنا عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، الذي جدّد نظام الخلافة الراشدة في عهده ، فسمي بالخليفة الراشد الخامس ، وقد قام بجنب هذه الخلافة نظام الإمارة والخلافة في الأندلس بصقر قريش عبد الرحمن الداخل ، واتسع نظامه فيها ، ثم جاء عصر الخلافة العباسية ، وهي تنتمي نسباً إلى عم الرسول صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب ، وهي أطول الخلافات مدةً وزمناً ، من 132هـ إلى 656هـ بالعراق ، ثم إلى 923هـ بمصر ، وكان أول خليفة لهذه الخلافة أبو العباس السفاح ، وقد اشتهر من خلفاء الخلافة العباسية أبو جعفر المنصور ، وهارون الرشيد ، والأمين والمامون والمعتصم والمتوكل ، وكانت لهذه الخلافة ثلاث مراحل : المرحلة الأولى 132هـ إلى 232هـ ، وهو عهد الفتوح والقوة ، ثم عهد ما بين 232 – 656هـ ، وهو المرحلة الثانية ، ثم جاءت المرحلة الثالثة ، وهي مرحلة الضعف والانحطاط إلى 923هـ ، وقد صوّرت سعة وطول هذه الخلافة جملة الخليفة هارون الرشيد التي قالها مخاطباً للسحابة : أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك .
وبعد سقوط الخلافة العباسية لم يكن بحسبان أحد أن الخلافة ستعود على أرض الواقع ، لكن الله تعالى شاء أن تبقى قوتان في هذه الفترة : وهما المماليك في مصر ، والسلاجقة في الأناضول ، وكلتاهما أدت دوراً رائعاً في إنهاض الأمة من جديد ، وكان من قضاء الله تعالى أن أرطغرل والد عثمان ( مؤسس الخلافة العثمانية ) قد انضم إلى جبهة جهادية للسلاجقة ، فظهرت فيها بطولته وشجاعته ، حتى نال السلاجقة الفتح على الروم ، فمنحه السلطان السلجوقي علاء الدين مكافأةً غاليةً ، وهي أرض ذات إمارة على حدود الروم ، وبعد وفاة أرطغرل استقل ابنه عثمان عن السلاجقة بعد انحطاطهم ، وأقام الدولة العثمانية ، عام 1299هـ ، وهي التي سميت من بعد بالخلافة العثمانية ، واستمرت إلى 1924م .
حكمت الخلافة العثمانية ثلاث قارات : آسيا وإفريقيا وأوربا ، وكانت لها سيطرة ومناعة ، بل كانت حصناً حصيناً للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وكان أول الخلفاء العثمانيين السلطان عثمان خان الأول ، وكان آخرهم محمد خان السادس ، وكانت عاصمة هذه الخلافة استانبول ، وكان عدد سلاطينها : 36 ، وكانت لهذه الخلافة ثلاثة أدوار : دور الازدهار والقوة ( من عهد عثمان إلى سليمان القانوني ) ودور الركود ( من عهد سليم الثاني إلى عهد مصطفى الثاني ) ، ودور الانحدار والانكماش ( من عهد السلطان أحمد الثالث إلى عهد محمد السادس ) ، وقد نال بعض هؤلاء السلاطين مكانةً مرموقةً ، منهم السلطان مراد الثاني ، والسطان محمد الفاتح ، والسلطان سليم الأول ، والسلطان سليمان القانوني ، وكان السلطان مراد الثاني يُعرف بالصاعقة ، وتولى الخلافة وهو ابن سبعة عشر ، لكنه رغم صغر سنه أنجز إنجازات كثيرةً ، أما السلطان محمد الفاتح فهو الذي حقق بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم : لتفتحن القسطنطينية ، ولنعم الأمير أميرها ، ولنعم الجيش ذلك الجيش ( التاريخ الكبير للبخاري : 2/81 ) وكان وقت استلام الخلافة ابن ثلاثة عشر ، لكنه أتى بالعجائب والخوارق في عهده ، وقد كان السلطان سليم الأول الذي اشتهر بالقاطع ، من أحزم الناس وأعقلهم ، وقد ضم الحجاز وأرض الحرم وبلاد الشام إلى الدولة العثمانية ، ولُقب بخادم الحرمين الشريفين ، وكان السلطان سليمان القانوني من أطول السلاطين فترةً في الحكومة ، وكان عهده عهداً زاهراً مشرقاً في التاريخ العثماني ، وقد كان عهد السلطان عبد الحميد الثاني مملوءاً بالانقلابات والثورات ، فقد دارت الفتنة على القطب ، وكان السلطان عبد الحميد هو الرابع والثلاثين من سلاطين الدولة العثمانية ، تولى عرش الخلافة وهو في الرابع والثلاثين عاماً ، وقد وصفه الغرب بالرجل المريض ، لكنه ظل محافظاً على تراث الخلافة ، وحامياً لحرمتها ، وخلال فترة سلطته زار تيورد هرتزل الصهيوني مع وفده ، السلطان عبد الحميد الثاني يعرض عليه إعفاء قرض يبلغ عشرين ألف جنيه للخلافة العثمانية مقابل السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين ، وطلب منه قطعة أرض من فلسطين ، وقد ثارت حمية السلطان عبد الحميد بهذه الكلمة الذهبية : ” إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين ، فهي ليست ملك يميني ، بل هي ملك الأمة الإسلامية ، ولقد جاهد شعبي في سبيل هذه الأرض ، وروَّاها بدمه ، فليحتفظ اليهود بملايينهم ” .
لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً :
ومن ثم اشتعلت نار الحقد والعداوة ضد الخلافة العثمانية لإلغائها وإسقاطها ، وقد بدأت محاولات ماكرة من قبل ببذر فكرة الماسونية والصهيونية ، ونشر القومية العربية والقومية التركية ، واشتراء عملاء لتبرير هذا الغرض المشئوم ، وقد أدت جمعية الاتحاد والترقي في ذلك دوراً مشئوماً ، وكان اختلاف المسلمين ، وولاؤهم لليهود والنصارى سببين رئيسين لسقوط الخلافة ، فتم إلغاء الخلافة العثمانية في 3/ مارس 1924م ، وحل محلها نظام آخر ، وقد مر على سقوطها مائة عام ، وكان سقوط الخلافة أزمة كبرى ، وكارثة عظمى للمسلمين جميعاً ، لا يدرون إلى متى يتجرعون مرارتها ، لكن نتفاءل بقضاء الله وقدره أن الله سيقيض للأمة الإسلامية خيراً عل عجل ، وقد تفاءل بمثل هذه التفاؤلات الإمام الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي في كتيبه الوجيز : ” أسبوعان في تركيا ” ، واستنبط ذلك من قصة سيدنا عزير عليه السلام ، الذي أماته الله مائة عام ، ثم بعثه ، لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً .