دور العمل الإيجابي في تنحية الشباب عن المفاهيم الخاطئة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
يونيو 4, 2024
شتان بين مؤتمر ومؤتمر
أغسطس 3, 2024
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
يونيو 4, 2024
شتان بين مؤتمر ومؤتمر
أغسطس 3, 2024

صور وأوضاع :
دور العمل الإيجابي في تنحية الشباب
عن المفاهيم الخاطئة
محمد فرمان الندوي
الإمام الداعية الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي ( 1877 – 1960م ) كان معجزة الزمان ، وآيةً من آيات الله تعالى في هذا الكون ، اصطفاه الله تعالى للعمل في القرن العشرين المسيحي ، فكان مجدداً إسلامياً ، أحيا في قلوب الناس ولاسيما في الأجيال الناشئة عواطف الإيمان ، ووجههم إلى الطريق القويم ، فكان يعتقد أن الشباب هم العمود الفقري في بناء العالم من جديد ، وإذا أهمل هذا العنصر ، ولم يعتن واحد بتربيته ضاعت مواهبه المكنونة ، ومقدراته الخامدة ، فبالرغم من أن النورسي أحدث الانقلاب الإسلامي ، وقضى على الأمية والجهالة ، ونفخ في المجتمعات الإنسانية روح العمل ، وهيأها لنشر الخير والصلاح في أرجاء المعمورة ، أعدَّ جيلاً جديداً ، حمل لواء الدعوة والإصلاح والتوجيه والإرشاد لا في تركيا فحسب ، بل في العالم الإسلامي ، ولاشك أنه كان أبا الجلال ومربي الأجيال .
كان سعيد النورسي قائداً ومفتياً ، يتخذ العمل الإيجابي رمزاً للدعوة الإسلامية ، وكان معارضاً للحرب ، لكن الحرب العالمية الأولى حينما اندلعت أصدر النورسي الفتوى للمساهمة فيها ، وأعد جيلاً من طلابه للخوض في هذه الحرب ، فخاض فيها النورسي مع طلابه ، وقد أسر فيها ومكث تحت الاحتلال الروسي سنتين وأربعة أشهر وأربعة أيام ، وبعد الخلاص من الأسر توظف في دار الحكمة الإسلامية عام 1918م ، لكنه لانهيار صحته لم يشغل الوظيفة فيها .
ثلاث مدارس يوسفية للشباب :
ما زال الإمام الداعية سعيد النورسي يدعو الناس إلى الله تعالى ، فحينما كان في السجن فينتهز الفرصة للدعوة الإسلامية ، ويجدِّد أسوة سيدنا يوسف عليه السلام عليه ، فكانت له المدرسة الأولى اليوسفية حينما كان مسجوناً في أسبارطة عام 1934م ، والمدرسة اليوسفية الثانية حينما كان مسجوناً في مدينة دينزلي عام 1943م ، قضى بديع الزمان مدة تسعة أشهر موقوفاً في سجن دينزلي في زنزانة انفرادية ، وكان طلابه معه ، حتى توفي اثنان منهم ، ولم يترك تأليف رسائل النور أيضاً في السجن ، وأقام النورسي في المدرسة الثالثة اليوسفية عام 1948م ، حينما كان مسجوناً في مدينة آفيون ، حيث اعتقل فيها أربع وخمسون شخصاً من طلبة النور ، وقضى النورسي عشرين شهراً في هذا السجن ، وخلال هذه المدة اهتدى على يده كثير من الناس في السجن ، وبعد خروجه من السجن بقي شهرين ينشر رسائل النور ، ينفخ بالعمل الإيجابي روح النشاط والعمل في القلوب ، ثم توجه إلى أمير داغ حيث قضى سنتين ، ثم زار مدينة أسكي شهر سنة 1951م ، وبقي هنا شهراً ونصف شهر . بلغ النورسي من عمره أكثر من ثمانين عاماً ، وكانت صحته في آخر حياته منهارةً ، فكان يقول : إن قراءة رسائل النور أفضل مائة مرة من الحديث معي . وقد حانت له عدة سفرات إلى بعض مناطق تركيا ، ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى 23/ مارس 1960م ، إنا لله وإنا إليه راجعون .
جهات شتى لتربية الشباب :
درس الإمام النورسي القرآن دراسةً عميقةً فعرف أن الشباب لعبوا دوراً مهماً في إنقاذ الإنسانية من الدمار والهلاك ، وأعطوها من النشاط ، وهذا لا يمكن إلا بالعمل بالفرائض ، والقيام بالنوافل ، ولا يغفل عن أعينهم حقوق الله وحقوق العباد ، وقد جرت محاولات لصرف الشباب عن الله تعالى وعن الرسول صلى الله عليه وسلم فحذفت دروس الدين عن المدارس ، كما حذفت كلمات الرب والله جل جلاله من الكتب المنهجية ، ووضعت مكانها : الطبيعة ، التطور ، الوطنية ، القومية ، يكتب الأستاذ إحسان قاسم الصالحي :
” لقد أحس بديع الزمان بضرورة كتابة الرسائل لكي يكون وسيلة لآلاف ومئات الآلاف من الجيل الحائر ، الذي يبحث عن نور لقلبه ، وهداية لروحه ، يقول بديع الزمان : جاءني فريق من طلاب الثانوية قائلين : عرِّفنا بخالقنا ، فإن مدرسينا لا يذكرون الله لنا ، فقلت لهم : إن كل علم من العلوم التي تقرؤونها يبحث عن الله دوماً ، ويعرف بالخالق بلغته الخاصة ، فأصغوا إلى تلك العلوم دون المدرسين ” ( نظرة عامة عن حياة بديع الزمان : 60 ) .
كما سبق ذكره أن الإمام النورسي لم يكن غافلاً عن هذه المهمة ، حتى في السجون ، فقد أقام هنا مدارس يوسفية لتربية الأجيال ، كما كان دأب يوسف عليه السلام ، وكان مركزاً كل وقت على تمثيل القدوة ، فكان الحرَّاس والضباط كلهم ، متأثرين بخلقه ودماثة نفسه ، وطيب سريرته ، ذكر الكتاب النبغاء عن سيرته ثلاث مدارس يوسفية ، ولاشك أنها للتربية والتعليم وتنحية الشباب عن المفاهيم الخاطئة ، وقد سلك النورسي مسلك العمل الإيجابي ، والعمل الإيجابي لديه هو عمل المرء بمقتضى محبته لمسلكه فحسب ، من دون أن يرد إلى تفكيره ، أو يتدخل في علمه عداء الآخرين ، أو التهوين من شأنه ( نظرة عامة : 105 – 107 ) .
عناصر العمل الإيجابي :
(1) يعتقد النورسي أن الإيمان بالله تعالى هو العمدة في نجاة الإنسان ، ويبعد الإنسان عن المفاهيم الخاطئة من الزيغ والضلال والانحراف والغواية ، فيقول : ” إن الإنسان يسمو بنور الإيمان إلى أعلى عليين ، فيكتسب بذلك قيمة تجعله لائقاً بالجنة ، بينما يتردى بظلمة الكفر إلى أسفل سافلين ، فيكون في وضع يؤهله لنار جهنم ” ( الكلمة الثالثة والعشرون : 348 ) .
(2) سأل عدد من الطلاب : كيف يمكن أن ينقذوا آخرتهم من فتنة الإغراء ، وجاذبية الهوى وخداع اللهو ؟ أجاب الشيخ النورسي : القبر ماثل أمام الجميع ، لا يمكن أن ينكره أحد ، كلنا سندخله لا مناص ، والدخول فيه بثلاثة طرق :
الطريق الأول : يؤدي إلى أن القبر باب ينفتح للمؤمنين إلى رياض جميلة وعالم رحب فسيح أفضل وأجمل من هذه الدنيا .
الطريق الثاني : يوصل إلى أن القبر باب لسجن دائم للمتمادين في الضلالة والغي مع إيمانهم بالآخرة ، فهم يعاملون بجنس ما كانوا يعتقدونه .
الطريق الثالث : ينساق إليه من لا يؤمن بالآخرة من أرباب الضلال ( اللمعة العشرون : 209 ) .
(3) إن الأمراض الروحية مثل الحسد والغل والتنافر سم فاتك للمجتمع الإنساني ، وكلما يحمل الشباب هذه الأمراض فقدوا مكانتهم المرجوة ، يقول النورسي : ” إن ما يسببه التحيز والعناد من نفاق وشقاق في أوساط المسلمين ما يوغر في صدورهم من حقد وغل وعداء مرفوض أصلاً ، ترفضه الحقيقة والحكمة ويرفضه الإسلام ، الذي يمثل روح الإنسانية الكبرى ، فضلاً عن أن العداء ظلم شنيع يفسد حياة البشر : الشخصية والاجتماعية والمعنوية ، بل هو سم زعاف لحياة البشرية قاطبة ” ، وقد شرحه ذلك من ستة وجوه ( الكلمات ، المقام الثاني : 154 ) .
(4) يعتقد النورسي أن القوة لا تكمن في كثرة العدة والعتاد ، فيقول : ” واعلموا أن قوتكم جميعاً في الإخلاص والحق ، نعم ، أن القوة في الحق والإخلاص ، حتى إن أهل الباطل يحرزون القوة لما يبدون من ثبات وإخلاص في باطلهم ، إن خدمتنا هذه في سبيل الإيمان والقرآن هي دليل بذاتها على أن القوة في الحق والإخلاص ، فشيئ يسير من الإخلاص في سبيل هذه الخدمة يثبت دعوانا هذه ، ويكون دليلاً عليه ، لأن ما قمنا به في أزيد من عشرين سنة في مدينتي ( وان ) ، وفي إستانبول من خدمة في سبيل الدين والعلوم الشرعية ، قد قمنا معكم بأضعافه مائة مرة هنا ، ( بارلا ) في غضون ثماني سنوات ، إن خدماتنا هنا في ثماني سنوات مع أنني وحيد غريب شبه أمي ، وتحت رقابة موظفين لا إنصاف لهم وتحت مضايقاتهم قد أكسبتنا بفضل الله قوة معنوية أظهرت التوفيق والفلاح بمائة ضعف مما كان عليه سابقاً ، لذا حصلت لدي قناعة تامة من أن هذا التوفيق الإلهي ليس إلا من صميم إخلاصكم ، يقول : ويكسب الإنسان الإخلاص برابطة الموت وبالإيمان التقحيقي ( اللمعة الحادية والعشرون : 224 ) .
ولاشك أن الإمام النورسي وضع لتربية الشباب وتنحيتهم عن المفاهيم الخاطئة قواعد وأصولاً يستطيعون أن يستعينوا بها في حياتهم ، ويبنوا عليها صروحاً عاليةً رفيعةً ، فإن حياة النورسي من ولادته إلى وفاته ككتاب مفتوح لكل من يستفيد منها استفادةً كاملةً ، وإن رسائله تفتح باباً جديداً للتربية والتعليم وإعداد الرجال ، نرى آثار ذلك على مستويات مختلفة لا في تركيا وحدها ، بل في العالم الإسلامي .