دراسة في الفروق بين القاعدة الفقهية وما يشبهها

الوقـــف ودوره في المجتمع
ديسمبر 11, 2019
الزيادة على النص : قواعدها وضوابطها
يناير 1, 2020
الوقـــف ودوره في المجتمع
ديسمبر 11, 2019
الزيادة على النص : قواعدها وضوابطها
يناير 1, 2020

دراسة في الفروق بين القاعدة الفقهية وما يشبهها

د . عبد الإله بالقاري

المغرب الأقصى

يختص هذا المقال بدراسة الفروق بين القاعدة الفقهية ، وبعض المفاهيم الاصطلاحية القريبة منها ، وذلك من خلال العناصر التالية :

العنصر الأول : الفرق بين القاعدة الفقهية والأصل :

يحسن بنا قبل أن نبين الفرق بين القاعدة والأصل أن نعرف الأصل أولاً :

(1) تعريف الأصل :

الأصل في اللغة أسفل الشيئ [1] ، يقال ” قعد في أصل الجبل وأصل الحائط ” [2] أي قعد أسفلهما . وقد تنوعت عبارات علماء الأصول في تعريف هذا اللفظ لغةً : فمنهم من قال : الأصل ما بني عليه غيره ، وذلك يعم الابتناء الحسي كابتناء السقف على الجدار والابتناء العقلي كابتناء المدلول على الدليل [3] . ومنهم من قال : الأصل ما يحتاج إليه [4] ومنهم من قال الأصل ما يتفرع عنه غيره [5] .

وفي الاصطلاح يطلق على معان عدة منها [6] منها :

  • الرجحان : كقولهم الأصل في الكلام الحقيقة . أي الراجح عن السامع الحقيقة لا المجاز .
  • المستصحب : كقولهم ” الأصل الطهارة ” وقولهم ” الأصل بقاء ما على ما كان ” أي استمرار الحكم السابق .
  • القاعدة الكلية : وذلك أنها إذا ثبت حكمها بنفسه كانت أصلاً شرعياً وإلا فهي مجرد قاعدة فقهية أو أصولية أو غيرها .
  • الدليل : وهذا ما تعارف عليه الفقهاء يقال : الأصل في وجوب الحج قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ) [7] ، ومنه أصول الفقه بمعنى أدلته .

(2) الفرق بين القاعدة والأصل :

إن القواعد الفقهية دون الأصول الشرعية في اتساع الدائرة وقوة الاشتمال على الفروع ، والسبب في ذلك كما نص الدكتور الروكي :    ” هو استناد الأصول الشرعية في قوة أحكامها إلى جملة من نصوص الشرع . بينما تستند القواعد الفقهية في ذلك إلى آحاد النصوص ، أو إلى ما يتقرر بها من الأدلة العقلية كالقياس والاستصحاب وغيرهما ” [8] .

وقد سبق أن أشار إلى هذا الفرق الإمام المقرئ في تعريفه للقاعدة : ” كل كلي أخص من الأصول وسائر المعاني العقلية العامة ، وأعم من العقود ، وجملة الضوابط الفقهية الخاصة ” [9] .

وقد يطلق الأصل على القاعدة ، ودرج على هذا الصنيع كثير من القدامى في كتبهم منهم على سبيل الذكر لا الحصر ، الإمام القرافي في ” الذخيرة ” ، كان يذكر الأصل تارةً ، ويقصد به القاعدة ، ومن أمثلة على ذلك قوله :

– الأصل ألاّ تبني الأحكام إلا على العلم [10]

– الأصل البناء على اليقين [11]

– الأصل ترتيب الحكم على سببه [12]

العنصر الثاني : الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط :

(1) تعريف الضابط :

الضابط لغةً : من الضبط ، وهو لزوم الشيئ وحبسه ، وضبط عليه ، وضبطه يضبط ضبطاً وهو ضباطة ، وقال الليث : الضبط لزوم شيئ لا يفارقه في كل شيئ ، وضبط الشيئ حفظه بالحزم والرجل ضابط أي حازم [13] ، وفي الاصطلاح : هو ما يجمع فروعاً من باب واحد [14] .

(2) الفرق بين القاعدة والضابط :

الضابط الفقهي أخص من القاعدة الفقهية ودونها في استيعاب الفروع ، وقد تقدم في تعريف أبي عبد الله المقري ، أن القاعدة أعم من العقود وجملة الضوابط الفقهية الخاصة ، ومعنى ذلك أن مجال الضابط أضيق من مجال القاعدة الفقهية ، حيث تشمل كثيراً من الفروع ، والجزئيات من أبواب متعددة ولا تتسع دائرة الضابط الفقهي إلا للجزئيات المندرجة في باب واحد .

ولم يكن المتقدمون يتشددون في التفريق بين القاعدة والضابط ، فيطلقون القاعدة ويريدون بها الضابط .

فالإمام السبكي مثلاً يقسم القواعد في كتابه ” الأشباه  والنظائر ” إلى عامة وخاصة ويعني بالأخيرة الضوابط [15] . وقد فسر الفيومي القاعدة بالضابط [16] ، وهو ما فعله أيضاً عبد الغني النابلسي حينما اعتبر القاعدة بمعنى الضابط ، وعرفها بتعريف واحد هو : الأمر الكلي المنطبق على جميع جزئياته [17] .

وأما الإمام السيوطي ، فقد جعل الضوابط في كتابه ” الأشباه والنظائر ” في قسم القواعد المختلف فيها ، وذكر عدداً من القواعد كلها ضوابط ومنها :

-القاعدة الرابعة : النذر هل يسلك به مسلك الواجب أو الجائز ؟ [18] .

– القاعدة الثامنة : الإيراد هل هو إسقاط أو تمليك ؟ قولان [19] .

– القاعدة الخامسة عشرة : هل العبرة بالحال أو المآل ؟ [20] .

من خلال ما سبق يمكن أن نستخلص أن الفقهاء الذين لم يفرقوا بين القاعدة والضابط إنما هو عدم تفريق اصطلاحي ، ويبدو أنه لم يتميز الفرق بينهما إلا في العصور المتأخرة ، حيث أصبحت كلمة ” الضابط ” اصطلاحاً متداولاً شائعاً لدى الفقهاء والباحثين في الفقه الإسلامي ، فيفرقون الآن بين الكلمتين في المجالات الفقهية .

وأختم هذا العنصر بملحظ نفيس لأستاذنا الروكي في معنى الضابط من حيث الاصطلاح ، فهو يعتبره أضيق نطاقاً من القواعد الفقهية إذا اعتبرنا فيه المعنى الاصطلاحي الخاص به . أما إذا لم نعتبر ذلك ، وانصرفنا إلى المعنى الاصطلاحي العام فلا يكون حينئذ فرق بين القواعد والضوابط [21]  .

العنصر الثالث : الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية :

ميّز الإمام القرافي في مقدمة فروقه بين القاعدة الفقهية ، والقاعدة الأصولية ، قال رحمه الله تعالى : ” فإن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله منارها شرفاً وعلواً ، اشتملت على أصول وفروع ، وأصولها قسمان : أحدهما المسمى بأصول الفقه ، وهو غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة ، وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح ، ونحو الأمر للوجوب ، والنهي للتحريم والصيغة الخاصة للعموم ، ونحو ذلك ، وما خرج عن هذا النمط إلا أن كون القياس حجة ، وخبر الواحد ، وصفات المجتهدين .

والقسم الثاني : قواعد كلية فقهية جليلة كثيرة العدد ، عظيمة المدد ، مشتملة على أسرار الشرع وحكمه ، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى . . . ” [22] .

ورغم هذا التفريق الذي أوضحه الإمام القرافي إلا أنه لا يمكن الفصل بين هذين القسمين لأن القواعد الفقهية تعتبر بمثابة الأصول والأسس التي يقوم عليها الفقه ، فيتخذها الفقيه كأدوات للاستنباط قبل أن يقوم بتجميع الفروع ، والجزئيات في قواعدها الفقهية .

ومن هنا يمكن القول بأن وظيفة القواعد الأصولية هي في نهاية الأمر وظيفة فقهية محضة [23] .

وإذا كانت القواعد الفقهية والأصولية تشتركان في بعض الخصائص [24] ، إلا أن بينهما فروقاً عديدةً منها :

أولاً : القاعدة الفقهية مستمدة من الأدلة الشرعية ، أو من استقراء المسائل الفرعية المتشابهة ، أما القاعدة الأصولية فمستمدة مما يستمد منه علم الأصول ، وهو علم العربية وأصول الدين وتصور  الأحكام [25] .

ثانياً : أن القواعد الأصولية قواعد إجمالية ، عامة تجريدية ، مما يجعلها صالحة للتطبيق حتى في النصوص القانونية الوضعية ، أما القواعد الفقهية فهي محددة مرتبطة بجزئياتها ارتباطاً وثيقاً ، وهي متفاوتة من حيث عمومها ، وخصوصها ، ومن ثم لا يمكن اعتبارها نصوصاً   للقضاء [26] .

ثالثاً : أن قواعد الأصول إنما وضعت لتضبط للمجتهد طرق الاستنباط ، واستدلاله ، وترسم للفقيه مناهج البحث والنظر في استخراج الأحكام الكلية من الأدلة الإجمالية ، وأما قواعد الفقه ، فهي عبارة عن مجموعة الأحكام المتشابهة التي ترجع إلى علة واحدة تجمعها ، والغرض منها ربط المسائل المختلفة برباط متحد ، وحكم واحد لأجل تقريب المسائل الفقهية وتسهيلها [27] .

رابعاً : القاعدة الأصولية سابقة في الوجود الذهني والواقعي على الفروع الفقهية ، إذ هذه الفروع مبنية عليها ، أما القاعدة الفقهية فهي متأخرة في وجودها عن الفروع الفقهية لأنها نتيجة عن تجميع هذه الفروع . فيمكن تشبيه القواعد الأصولية بالمنابع للفروع الفقهية ، وتشبيه القواعد الفقهية بمراكز التجميع لهذه الفروع [28] .

خامساً : القاعدة الأصولية لا تتصل بعمل العامي مباشرةً : ولا يهمه معرفتها لأن إعمالها ليس من وظائفه ، وإنما هو من وظائف   مجتهده ، ولذلك لا نجد أي معنى لإلقائها إليه في مجالات الفتوى ، بخلاف القاعدة الفقهية فإنها هي التي تتصل به اتصالاً مباشراً ، وهي التي تشخص له وظيفته ، فهو ملزم بالتعرف عليها لاستنباط حكمه منها بعد أن أخدها من مجتهده [29] .

سادساً : أن قواعد الأصول هي تلك الأدوات التي يستعين بها المجتهد على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة ، وقواعد الفقه هي مرجع الفقيه والمفتي التي يستعين بها على معرفة واستحضار أحكام كثيرة من مسائل الفقه المتشابهة [30] .

وبعد توضيح أهم الفروق بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية لا بد من الإشارة إلى وجود قواعد مشتركة بين العلمين ، ولكن ينظر إليها من زاويتين مختلفتين ، فالقاعدة الأصولية ينظر إليها باعتبارها دليلاً شرعياً لاستنباط الأحكام ، والقاعدة الفقهية ينظر إليها باعتبارها فعلاً للمكلف .

فقاعدة العرف مثلاً إذا فسرت بالإجماع العملي أو المصلحة المرسلة كانت قاعدةً أصوليةً ، وإذا فسرت بالقول الذي غلب في معنى معين ، أو بالفعل الذي غلب الإتيان به كانت قاعدةً فقهيةً [31] .

العنصر الرابع : الفرق بين القاعدة الفقهية والنظرية الفقهية :

عرّف الأستاذ مصطفى الزرقا النظريات الفقهية العامة بقوله : ” تلك الدساتير والمفاهيم الكبرى التي يؤلف كل منها على حدة ، نظاماً حقوقياً موضوعياً منبثاً في الفقه الإسلامي ، كانبثاث أقسام الجملة العصبية في نواحي الجسم الإنساني . . وذلك كفكرة الملكية وأسبابها ، وفكرة العقد وقواعده ونتائجه . . . وفكرة الضمان وأسبابه وأنواعه وفكرة العرف وسلطانه على تحديد الالتزامات ، إلى غير ذلك من النظريات الكبرى التي يقوم على أساسها صرح الفقه بكامله ، ويصادف الإنسان أثر سلطانه في حلول جميع المسائل والحوادث الفقهية ” [32] .

ثم قال رحمه الله تعالى تعليقاً على ما سبق : وهذه النظريات هي غير القواعد الكلية التي صدرت مجلة القواعد الفقهية بتسع وتسعين قاعدة منها ، ثم تبين من بعد ذلك أن هذه القواعد هي بمثابة ضوابط بالنسبة لتلك النظريات ، أو إنما هي القواعد الخاصة أمام القواعد العامة الكبرى فمثلاً قاعدة : ” العبرة في العقود للمقاصد والمعاني ” ، ليست سوى ضابط في ناحية مخصوصة من ميدان أصل نظرية العقد ، وهكذا سواها من القواعد [33] .

ومن هنا يمكن القول : إن النظريات الفقهية أوسع مجالاً من القواعد الفقهية ، التي هي بمثابة المبادئ ، وأن هذه القواعد هي بمثابة ضوابط بالنسبة لتلك النظريات حيث تقوم بتأطيرها ، وضبطها وجمع أطرافها والحد من سعتها [34] .

فالقواعد الفقهية ، ما هي إلا مكون من مكونات النظريات الفقيهة ، غير أن بينهما اختلافا يمكن بسطه فيما يلي :

  1. القاعدة الفقهية حكم شرعي مستنبط من أحد المصادر الشرعية بطرق الاستنباط المعروفة في علم أصول الفقه ، إلا أنه كلي لا جزئي . أما النظرية الفقهية فليست حكماً مستنبطاً وإنما دراسة ينتهي فيها الفقيه إلى الجمع بين جملة من الموضوعات والأحكام ، والبحوث الفقهية التي تكون بمجموعها فكرة واحدة متكاملة الأجزاء [35] .

فالقاعدة حكم شرعي ، والنظرية دراسة وبحث وتجميع .

  1. القاعدة الفقهية تستند في تقعيدها إلى أحد المصادر الشرعية ، بينما تستند النظرية الفقهية في تكوينها إلى دراسة الفقه الإسلامي ، ومصنفات الفقهاء [36] .
  2. القاعدة الفقهية لا تشتمل على شروط وأركان ، بخلاف النظرية الفقهية فلا بد لها من ذلك [37] .

وهكذا يمكن إدراج مجموعة من القواعد الفقهية التي تتحد في موضوعها العام ، وإن اختلفت في جزئياتها تحت نظرية معينة ، مثل القواعد التالية :

– العادة محكمة .

– استعمال الناس حجة يجب العمل به .

– المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً .

– المعروف بين التجار كالمشروط بينهم .

– التعيين بالعرف كالتعيين بالنص .

– إنما تعتبر العادة إذا اطردت وغلبت .

فهذه المجموعة من القواعد الفقهية يمكن أن نضعها جميعاً تحت عنوان نظرية العرف ، وهكذا أيضاً في القواعد التي تتناول موضوع الضمان أو تتعلق بالعقد . . . إلى غيرها من القواعد التي يمكن وضعها تحت نظريات معينة .

[1] لسان العرب : 11/16 .

[2] تاج العروس للزبيدي : 7 /206 .

[3] إرشاد الفحول للشوكاني ، ص : 3 .

[4] المحصول في علم أصول الفقه : 1/91 .

[5] الإحكام في أصول الأحكام الآمدي : 1/3 .

[6] شرح الكوكب المنير : 1/39 .

[7] آل عمران : 97 .

[8] نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء ، للدكتور الروكي : ص : 51 .

[9] قواعد المقري بتحقيق أحمد بن عبد الله بن حميد : 1/210 .

[10] انظر الذخيرة : 1/177 .

[11] نفسه : 2/287 .

[12] نفسه : 3 /427 .

[13] لسان العرب ( مادة ضبط ) .

[14] انظر غمر عيون البصائر للحموي : 1/31 .

[15] انظر الأشباه والنظائر ، 1/200 .

[16] المصباح المنير : 2/74 .

[17] القواعد الفقهية للندوي ، ص : 47 .

[18] انظر الأشباه والنظائر للسيوطي ، ص : 301 .

[19] نفس المصدر ، ص : 312 .

[20] نفس المصدر ، ص : 322 .

[21] انظر نظرية التقعيد الفقهي ، ص : 51 .

[22] الفروق للقرافي : 1/5 – 6 .

[23] انظر قواعد الفقه الإسلامي من خلال كتاب الإشراف للروكي ، ص : 118 .

[24] من ذلك أنهما يشتركان في أن كلاً منهما حكم كلي يتعرف منه أحكام عدد من الفروع أن كلا منهما حكم كلي ككك  .

[25] الإحكام للآمدي : 1/7 – 8 .

[26] قواعد الفقه الإسلامي من خلال كتب الإشراف للروكي ، ص : 119 .

[27] موسوعة القواعد الفقهية لمحمد صدقي البورو : 1/26 .

[28] سد الذرائع في الشريعة الإسلامية لمحمد هاشم برهاني ، ص : 159 .

[29] انظر الأصول العامة للفقه المقارن لمحمد الحكيم ، ص : 43 .

[30] انظر مقدمة إيضاح المسالك للونشريسي ، ص : 30 .

[31] انظر موسوعة القواعد الفقهية لمحمد صدقي البورو ، 1/27 .

[32] المدخل الفقهي العام ، 1/235 .

[33] نفس المصدر : 1/235 .

[34] قواعد الفقه الإسلامي للروكي ، ص : 115 .

[35] نظرية التقعيد الفقهي ، ص : 57 .

[36] نفس المصدر ، ص : 54 .

[37] قواعد الفقه للمقري بتحقيق ابن حميد ، ص : 1/ 103 .