إرثنا المفقود في فتح الأندلس !
ديسمبر 15, 2020كتابة مقدمة البحوث الأكاديمية وخاتمتها في ضوء آراء الباحثين
ديسمبر 15, 2020في رياض الشعر والأدب :
دراسة فنية للشعر الجاهلي : امرؤ القيس نموذجاً
الدكتور رياض أحمد الرياضي بن عبد الباري *
الشعر الجاهلي وتعبيره عن الحياة :
كان الشعر الجاهلي صورةً صادقةً لحياة العرب الاجتماعية ، سجلوا فيه حروبهم وأخبارهم وعاداتهم وعقليتهم ، ومزج الشاعر فيه الحياة التي كانت حوله بمشاعره ، وعبر عن ذلك بأصدق لفظ وأقربه ، لأن الشعر الجاهلي كله كان منبعثاً عن النفس خالياً من التقليد ، يمتاز بقلة التكلف ، والشاعر الجاهلي أميل إلى الإيجاز ، غير ميال إلى الإغراب .
لهذه الحياة الساذجة والبداوة الواضحة أثر بارز في كلام العرب عامةً ، وفي شعرهم خاصةً ، ومن ذلك أن ألفاظهم كانت تمتاز :
أولاً : بالجزالة التي تكسب التراكيب الضخامة ، ولا سيما فيما يحسن له ذلك كالحماسة والفخر والتوعد . ثانياً : بإجادة الحديث عن البادية وظبائها ووحوشها وجبالها . ثالثاً : باشتمال أساليبهم على كثير من الألفاظ الغريبة على المجتمع العربي ، بسبب انقطاع الزمن أو بسبب هجر بعض الموضوعات كوصف القسي وحمار الوحش وغيرها ، وقد أصبحت غريبةً على المجتمع العربي الآن .
وقد صور الشاعر العربي بالشعر تلك المشاعر كلها ، فكان منه :
الغزل : وهو أصدق أغراض الشعر عاطفة وأصحها وجداناً وأغزرها بياناً وأكثرها تعبيراً عن إحساسه المشبوب وقلبه الملهوف .
الفخر : كانت لهم أسواق للقول ومجالس يذكرون فيها أحسابهم وأنسابهم ويتمدحون بكريم خلالهم وجميل خصالهم ورفيع شيمهم ، وحينئذ يكون هذا اللون من الشعر فخراً ، صادق التصوير ، صحيح التعبير لا تزيد فيه ولا اختلاق ولا تمويه ولا كذب .
المدح : هو ما يسنده إلى المخاطب أو الغائب من كل ذي مكانة بعيدة أو منزلة رفيعة أو موهبة بارزة أو صفة مشكورة أو أثر ظاهر من قبيل ” المدح ” ، وكان العربي إذا مدح لم يتجاوز الصدق ولم يعد وجه الصواب ، ولا يلبس الهر ثوب النمر .
الهجاء : وهو من ألوان القول الذي تدعو إليه الخصومة والخنق والكراهية والحقد والنفور والفرقة والعصبية القبلية والذود عن الحمى ، وإشعال نيران الحرب في كثير من الأحايين .
الرثاء : الرثاء من الأغراض الشعرية التي يهتم العرب بها اهتماماً بالغاً ويعنون بها عنايةً عظمى .
الحماسة : من خصائص الشعر الجاهلي الحماسة ، ويقصد بشعر الحماسة ذلك النوع من الشعر الذي يتحدث عن الأيام المشهورة والمواقف المعروفة والبطولات النادرة والانتصارات المتوالية والبأس القوي والذمار المنيع والحمى المحرم .
الوصف : يحتاج الوصف إلى شدة الملاحظة ودقة الانتباه وقوة البصر ، وهي الأمور التي توافرت للعربي ، فساعدته أن ينقل إلينا بشعره صور الأشياء كاملة ، وهوتها صحيحة ، وأوصافها واضحة [1] .
هذه هي بعض خصائص الشعر الجاهلي وأبوابها وموضوعاتها إلا أن الشعر الجاهلي ليس منحصراً في هذه الخصائص فحسب ، بل له أبواب أخرى مثل الأنفة وعدم الاستجداء والعتاب والاعتذار والحكمة والأخلاق وغيرها من الموضوعات ، ويمتاز شعر امرئ القيس ببعض هذه الخصائص المذكورة أيضاً مثل الغزل والفصاحة والوصف وغيرها .
أمير الشعراء في العصر الجاهلي في الميزان :
نشأ امرؤ القيس نجدياً وإن كان يمنياً ، فترعرع بين بني أسد في صميم العرب الخلص ، فسمع الأشعار ورواها ، وتطلعت نفسه إلى مساجلة الشعراء ، فقال الشعر على حداثة سنه وكان جزل الألفاظ ، كثير الغريب ، جيد السبك ، سريع الخاطر ، بديع الخيال ، بليغ التشبيه ، وقد فتقت الأسفار والأخطار والمخالطة قريحته ، فاستنبط المعاني الجديدة ونهج المذاهب الحديثة وارتسمت في شعره محدثات عصره ، فنسبت إليه لنبوغه وتفوقه وجاهه ، وتوجد في شعره صورة كاملة من حياته وخلقه ، ففيه عزة الملوك وتبذل الصعلوك ، وعربدة الماجن ، وحمية الثائر ، وشكوى الموتور ، وهو بإجماع الرواة زعيم الجاهليين [2] .
إن امرء القيس هو أمير الشعراء بشهادة خير الأنبياء وسيد الفصحاء محمـد صلوات الله وسلامه عليه ، وذلك أنه ذكر عنده يوماً ، فقال صلى الله عليه وسلـم : ” ذلك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة ، يجيئ يوم القيامة وبيده لواء الشعر ، يقودهم إلى النار ” [3] .
وذكره ابن الخطاب رضي الله عنه ، فقال : ” سابق الشعراء الذين خسف لهم عين الشعر ” [4] . وفضله علي رضي الله عنه بأن قال : ” رأيته أحسنهم نادرة ، وأسبقهم بادرة ، وإنه لم يقل لرغبة أو رهبة ” [5] .
امرؤ القيس هو أقدم الشعراء الذين وصلت إلينا أخبارهم تامة ، وهو شاعر وجداني ، قدمه النقاد على معاصريه من شعراء الجاهلية وعلى جميع الشعراء الذين جاؤوا بعده .
وقد سبق امرؤ القيس إلى أشياء ابتدعها واستحسنها العرب ، واتبعتها عليها الشعراء ، وذلك كتلطيفه المعاني ورقة النسيب ، وقرب المأخذ ، ووصف النساء بالمها والظباء ، والتشبيب بهن والتفريق بين النسيب ، وما سواه من القصيدة ، وإحكام التشبيه وتجويد الاستعارة ، وهو أول من وقف على الأطلال وبكى على الديار وشبه النساء بالغزلان والخيل بالعقبان ، وأول من وصف الليل والخيل والصيد ، ثم هو واسع الخيال لتقلبه في النعيم ولكثرة أسفاره في البادية والحضر [6] .
وقد شهد لامرئ القيس – بأنه أعظم الشعراء – كثيرون من معاصريه والحافظين والرواة والعارفين بالشعر في العصر الجاهلي ، وقدره الشعراء الذين عاصروه والذين جاؤوا بعده ، وفيهم لبيد أحد فحول الشعراء الجاهليين وأصحاب المعلقات ، قال : ” أشعر الناس ذو القروح ، يعني امرأ القيس ” [7] .
وحكي أن لبيدا مر بمجلس في الكوفة فأرسلوا خلفه غلاماً يسأله من أشعر العرب ؟ فقال : ” الملك الضليل ” يعني امرء القيس ، ثم عاد الغلام وسأله ثم من ؟ قال : ابن العشرين ، يقصد طرفة بن العبد ، ثم عاد مرة ثالثةً وسأله ثم من ؟ قال : أنا [8] .
وفي لفظ آخر : لما سئل لبيد عن أشعر الناس ، قال : الملك الضليل ، ثم الغلام القتيل ، ثم الشيخ أبو عقيل الجليل ، يريد به نفسه [9] .
وقال الفرزدق وهو من فحول الشعراء الإسلاميين :
وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا وأبو يزيد وذو القروح وجرول [10]
وحدث أن اجتمع عند عبد الملك بن مروان عدد من علية القوم والشعراء ، فسألهم عن أرق بيت قالته العرب ؟ فأجمعوا على بيت امرئ القيس :
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتل [11]
إن امرء القيس قد فتح أبواب الشعر ، وجلا أبكار المعاني ونوّع الأغراض وبلغ الغاية التي يتحقق عندها للشاعر الخلود ، ومن عجيب شأنه أنه قال في الجاهلية ما جاء فيه شرائط أهل الجنة وأوصافها ، ومن ذلك قوله :
ألاعم صباحا أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهــــل يــــعـــمن إلا سعــيد مخلد قــــليل الــــهــــمــــوم ما يـــبــيــت بـأوجــال
فذكر السعادة التي هي جامعة خير الدارين ، ثم الخلود الذي هو أحسن أحوال أهل الجنة ، كذلك ذكر قلة الهموم التي هي من أجل الرغائب والأمن ، وهو من أنفس المواهب ، ولا مزيد على هذه الأربعة [12] .
ومما انفرد به قوله في وصف العقاب :
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والخسف البالي [13]
ويقال : إن أمير شعره قوله :
لله أنجح ما طلبت به والبر خير حقيبة الرجل [14]
فأنبأ أن الاستنجاح بالله ، وحث على البر بأحسن لفظ وأوجزه .
كان امرؤ القيس كثير الإجادة في وصف الفرس حتى لا نكاد نجد قصيدةً من قصائده تخلو من وصفه ، ومن أحسن ما وصفه به ، قوله :
وقد أغتدي والطير في وكناتها بــــمــــنـــجــــرد قـــيـــد الأوابـد هيكل
مــــكــــر مـــفر مـقبـل مدبر معاً كجلمود صخر حطه السيل من عل
لـــه أيــــطلا ظــــبـي وساقا نعامة وإرخـــــــاء ســـرحـــان وتــقــريــب تـتفل
فقوله : ” قيد الأوابد ” في البيت الأول هو من الألفاظ الشريفة البالغة نهاية الحسن ، وعني بذلك أنه إذا أرسل فرسه على الصيد صار قيداً له ، وكان الصيد بحالة المقيد ، وذلك من شدة عدو هذا الفرس ، وقد اقتدى به الناس واتبعه الشعراء ، فقيل ” قيد النواظر ” ، و ” قيد الألحاظ ” ، و ” قيد الكلام ” ، و ” قيد الحديث ” ، و ” قيد الرهان ” ، و ” قيد الحياة ” ، وذكر الأصمعي وأبو عبيدة أنه أحسن في هذه اللفظة ، وأنه اتبع فيها فلم يلحق ، وذكرها أهل البيان في باب ” التشبيه البليغ ” ، وجعلها بعضهم من باب ” الأرداف ” ، وهو أن يريد الشاعر دلالةً على المعنى فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى ، بل بلفظ تابع له و ردف ، وذلك هو الكناية ، وقوله : ” له أيطلا ظبي ” في البيت الثالث هو من التشبيه البديع ، وذلك أنه شبه أربعة أشياء بأربعة أشياء أحسن فيها ما شاء [15] .
وكان امرؤ القيس إباحياً في عشقه مولعاً بالتشبيب وفضح النساء ، وإعلان ما كان بينه وبينهن بالتفصيل الصريح ، ومنهن فاطمة بنت العبيد بن ثعلبة العذرية التي قال فيها :
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجمل [16]
ومن خصائص شعر امرئ القيس : وصف الطبائع من الأمطَار والسيول والطيور وغيرها ، وتدل على ذلك كله الأبيات التي قالها في معلقته من مثل قوله :
أصاح ترى برقا أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلل
يضيئ سناه أو مصابيح راهب أمال السليط بالذبال الــمـفتل
قعدت له وصحبتي بين ضارج وبين العذيب بـــعــد ما متأملي [17]
وقال أيضاً في وصف الجبل بعد ما هطل عليه المطر واخضر :
كـــأن ثــبــيــراً في عرانين وبله كـــبــيــر أناس في بــجـاد مزمل
كأن ذرى رأس المجيمر غدوة من السيل والغثاء فـــلكة مغزل
وألــقى بصحراء الغبيط بعاعه نزول اليماني ذي العياب المحمل [18]
وقال واصفاً الطير والسباع بعد هطول الأمطار :
كــأن مكاكي الجواء غدية صــبحــن سلافا من رحيق مفلفل
كأن السباع فيه غرقى عشية بأرجائه القصوى أنابيش عنصل [19]
ومن خصائص شعره أنه هو الذي وقف على الأطلال وبكى على الديار أولاً ، وشبه النساء بالغزلان ، وقد تبعه الشعراء الذين جاءوا بعده في الوقوف على الديار والبكاء على آثار الحبيب ، يقول امرؤ القيس في معلقته :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فــتـــوضح فالمـقراة لم يعف رسمها لــمــا نسجــتــها من جنوب وشمأل [20]
من خصائص شعر امرئ القيس التشبيه أيضاً ، فهو الذي ألهم الشاعر العربي على مر العصور فكرة التشبيه ، بل هو الذي وجهه إلى الإسراف في استخدامه ، حتى عد ذلك ضرباً رشيقاً من ضروب الزخرف والبديع .
وبجانب هذا التشبيه نجد عنده بعض أمثلة للاستعارة المكنية والتصريحية ، وهو يأتي بها في قلة ، من ذلك قوله في المعلقة يخاطب الليل :
وليل كموج البحر أرخى سدوله عـــلـــي بـــأنـــواع الـهموم ليبتلي
فــــقــــلـــت له لـــما تــمـطى بصلبه وأردف أعجازا وناء بـكـلكل
ألا أيــــها الليل الــطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيـــالك مـــن لــيــل كــأن نــجومه بأمراس كتان إلى صم جنـدل [21]
فقد استعار صورة البعير لهذا الليل الذي لا يزول ، ومضى فاستعار صورة القيد لفرسه فسماه قيد الأوابد ، فهي لا تفوته إلا أنها قليلة في أشعاره مبثوتة فيها [22] .
ومن خصائص شعره أيضاً التلاؤم بين الألفاظ والعناية بالموسيقى ، فإنا نجده يعنى بالتلاؤم بين ألفاظه ، ونجد عنده عنايةً واضحةً بالموسيقى ، ولعله من أجل ذلك كان يكثر من التصريح ، وفي الحق أن الموسيقى تطرد في المعلقة إطراداً [23] .
سقطات امرئ القيس في شعره :
فمما يعاب عليه من شعره ، قوله :
إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشاح المفصل [24]
قالوا : الثريا لا تعرض لها ، وإنما لعله أراد به الجوزاء ، فذكر الثريا على الغلط ، كما قال الآخر : ” كأحمر عاد ” ، وإنما هو ” كأحمر ثمود ” ، وهو عاقر الناقة [25] .
ويعاب على امرئ القيس قوله :
فــــمــــثـلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم محول
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق وتحتي شقها لم تــحـول [26]
قال أبو محمـد : وليس هذا عندي عيباً ، لأن المرضع والحابل لا تريدان الرجال ، ولا ترغبان في النكاح ، فإذا أصباهما وألهاهما كان لغيرها أشد إصباءاً وإلهاءاً .
ويعاب من قوله :
أغرك مني أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعل [27]
قالوا : إذا كان هذا لايغر ، فما الذي يغر ؟ إنما هذا كأسير قال لآسره : أغرك مني أني في يديك وفي إسارك وأنك ملكت سفك دمي .
قال أبو محمـد : ولا أرى هذا عيباً ، ولا المثل المضروب له شكلاً ، لأنه لم يرد بقوله : ” حبك قاتلي ” القتل بعينه ، وإنما أراد به : أنه قد برح بي فكأنه قد قتلني ، وهذا كما يقول القائل : فتلتني المرأة بدلها وبعينها ، وقتلني فلان بكلامه ، فأراد : أغرك من أن حبك قد برح بي ، وأنك مهما تأمري القلب به من هجري والسلو عني يطعك ، أي فلا تغتري بهذا ، فإني أملك نفسي وأصبرها عنك وأصرف هواي .
ويعاب عليه تصريحه بالزنا والدبيب إلى حرم الناس ، والشعراء تتوقى ذلك في الشعر وإن فعلته [28] .
شعره قسمان :
وهناك أمر مهم لا بد أن أشير إليه ، ألا وهو أن امرء القيس ينقسم شعره إلى قسمين واضحين :
قسم قبل مقتل أبيه وهو في هذا القسم رجل لاه لا يبالي بشيئ بل يتعهر ويفسق ويفجر ويصف ، والموضوعات التي كان ينظم فيها في هذا القسم من شعره أي قبل مقتل أبيه : هي التشبيب و الغزل القصصي الصريح ووصف الطبيعة المتحركة بما فيها من خيل ووحش وطير والطبيعة الصامتة بما فيها من أمطار وسيول وصخور وجبال .
وقسم ثان من شعره بعد مقتل أبيه ، فقد كتب لامرئ القيس أن لا تجري حياته على الوتيرة الأولى من الفراغ الذي يعد لاقتناص اللذات في اتباع المرأة واللهو بها والمتعة بركوب الخيل والصيد عليها وتملى مناظر الطبيعة ، فقد قتل أبوه وانقلبت حياته من حياة لاهية إلى حياة جادة ومحاولة عاثرة في الأخذ بثأر أبيه ، ولا نرى منه في هذه الدورة سوى الحزن والألم العميق والشكوى من الدهر [29] .
إن امرء القيس قد عني القدماء من الأدباء والنقاد والرواة بشعره وسيرته ، وما حفلت به حياته من أحداث وخطوب ، وقد جمع شعره في القرن الثاني الهجري وتناوله بالشرح والتحليل أعلام اللغة وفرسان البيان وانتقلت مخطوطات شعره إلى مكتبات أوربا حيث قام المستشرقون الخبراء بالشعر العربي بجمع شعره وطبعه ونشره في باريس وبرلين ، وكذلك طبعت مختارات من شعره في إيران والهند ومصر ، واجتمع لامرئ القيس خلال خمس عشرة قرناً من الزمن عشرات من الرواة القدامى والجامعين للشعر والشارحين والمحققين والطابعين والناشرين بما لم يحظ بمثله شاعر آخر ، وهكذا خلد امرؤ القيس واشتهر بديوانه ومعلقته [30] .
هذا بجانب ، وبجانب آخر هناك يوجد من ينكر شعره وانتسابه إليه ، فقد حاول الدكتور طه حسين أن يرد شعر امرئ القيس جميعه ، لأنه يمني من كندة وشعره قرشي اللغة ، ولكن كندة وإن كانت يمنية الجنس فقد كانت عدنانية اللغة ، وإن لغة قريش هي التي سادت وذاعت منذ أوائل العصر الجاهلي على لسان جميع الشعراء الشماليين ، سواء منهم من ينتسب إلى القبائل العدنانية ومن ينتسب إلى القبائل اليمنية ، وإن أشعاره وأخباره دخلها وضع كثير غير أن هذا كله لاينتهي بنا إلى إنكار شعره جملة [31] .
خلاصة القول :
وفي ختام الكلام يمكن القول : إن امرء القيس له أهمية قصوى في تاريخ الأدب العربي ولا سيما الأدب العربي الجاهلي ، ولشعره قيمة كبيرة ، ويدل على هذا كله ما قد أسلفت عنه وعن شعره وخصائصه وميزاته ، فهو الذي نهج للشعراء الجاهليين من بعده الحديث في بكاء الديار والغزل القصصي ووصف الليل والخيل والصيد والمطر والسيول والجبال والشكوى من الدهر ، ولعله سبق بأشعار في هذه الموضوعات ولكنه هو الذي أعطاها النسق النهائي ، مظهراً في ذلك ضروباً من المهارة الفنية ، جعلت السابقين جميعاً يجمعون على تقديمه ، سواء العرب في أحاديثهم عنه أو النقاد في تقديم الشعر الجاهلي ، وقد سبق امرؤ القيس إلى أشياء ابتدعها واستحسنها العرب ، واتبعه فيها الشعراء ، منها : استيقاف صحبه والبكاء في الديار ورقة النسيب وقرب المأخذ وتشبيه النساء بالظباء والبيض وتشبيه الخيل بالعقبان والعصي ، وقيد الأوابد ، وأجاد في التشبيه ، وكان أحسن طبقته تشبيهاً ، وكل من يقرأ من معلقته وغيرها من أشعاره يلاحظ استواءاً في العبارات واتساقاً في ترتيب الألفاظ ، مما يدل على أنه كان يملك أعنة اللغة بيده ، وقلما نجد في شعره اضطراباً في ترتيب ألفاظه ومعناه ، وحقاً هو صاحب فن التشبيه في العصر الجاهلي ، وأول ما يلاحظ في تشبيهاته أنها مستمدة من واقعه الحسي ، فالحق أنه يعد أباً للشعر الجاهلي بل للشعر العربي جميعه ، فقد استوى عنده في صورة رائعة ، سواء من حيث سبقه إلى فنون أجاد فيها أو من حيث قدرته على الوصف والتشبيه ، وقد مضى يعني بأخيلته ومعانيه وألفاظه مما نجده ماثلاً في استعاراته وبعض طباقاته وجناساته .
* الأستاذ المساعد بقسم اللغة العربية ، جامعة لكناؤ ، الهند .
[1] انظر : بحوث في الأدب الجاهلي ، ص 49 – 63 ، وتاريخ الأدب العربي : العصر الجاهلي ، ص 189 – 230 .
[2] انظر : تاريخ الأدب العربي للزيات ، ص 48 .
[3] بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب للآلوسي ، 3/93 .
[4] انظر : الأغاني ، 7/23 .
[5] رجال المعلقات العشر ، ص 82 .
[6] انظر : الشعر والشعراء ، 1/110 ، وبلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ، 3/97 ، والزيات ، ص 480 ، ورجال المعلقات العشر ، 80 – 81 .
[7] أمراء الشعراء ، ص 20 .
[8] نفس المصدر ، ص 21 .
[9] انظر : رجال المعلقات العشر ، ص 81 .
[10] أمراء الشعراء ، ص 20 .
[11] الشعر والشعراء ، 1/114 .
[12] انظر : أمراء الشعراء ، ص 117 .
[13] الشعر والشعراء ، 1/134 .
[14] أمراء الشعراء ، ص 118 .
[15] انظر : المصدر نفسه ، ص 83 .
[16] أمراء الشعراء ، ص 118 .
[17] المعلقات السبع ، ص 9 .
[18] المعلقات السبع ، ص 10 .
[19] المصدر نفسه ، ص 10 .
[20] المصدر نفسه ، ص 3 .
[21] المصدر نفسه ، ص 7 .
[22] تاريخ الأدب العربي : العصر الجاهلي ، ص 263 – 264 .
[23] المصدر نفسه ، ص 265 .
[24] المعلقات السبع ، ص 5 .
[25] الشعر والشعراء ، 1/111 .
[26] المعلقات السبع ، ص 4 .
[27] المعلقات السبع ، ص 5 .
[28] الشعر والشعراء ، 1/135 – 136 .
[29] انظر : تاريخ الأدب العربي : العصر الجاهلي ، ص 258 .
[30] انظر : أمراء الشعراء ، ص 119 .
[31] انظر : تاريخ الأدب العربي : العصر الجاهلي ، ص 248 .