دراسة فنية لحديث سنداً ومتناً

رحلة ” الفوز العظيم ” للشيخ حبيب الرحمن خان الشرواني : دراسة تحليلية ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يوليو 9, 2025
الإعلام الإسلامي وخصائصه ودوره في المجتمع
أغسطس 31, 2025
رحلة ” الفوز العظيم ” للشيخ حبيب الرحمن خان الشرواني : دراسة تحليلية ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يوليو 9, 2025
الإعلام الإسلامي وخصائصه ودوره في المجتمع
أغسطس 31, 2025

دراسات وأبحاث :

دراسة فنية لحديث سنداً ومتناً

الأستاذ عمر ماجد السنوي ( العراق )

استوقفتني رواية حديثيّة أثناء عملي على مخطوطةٍ فَريدة نَفيسة بخطّ الحافظ ابن حجر العسقلانيّ ، اشتملت على الجزء الثاني من منتخَب الحافظ أبي طاهر السِّلَفيّ مِن أصول كتُب ومصنّفَات العلامة جعفر بن أحمد السرّاج البغداديّ ، صاحب الكتاب الأدبيّ الشهير :        ” مَصارع العشّاق ” ، وهذا المنتخَب قد انتهيت من تحقيقه – يسّر الله صدوره على خير ، وجعَله نافعاً مَقبولاً – .

فأحببتُ أن أَدرسَ هذه الرواية سَنداً ومَتناً .

أوَّلاً : نَصّ الرواية :

قالَ الحَافِظ السِّلَفي : حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحمَدَ السَّرّاجُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ المُحَسِّنِ التَّنُوخِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ حَيُّوَيْهِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمُنَادِي ، قَالَ : حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْيَزِيدِيُّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَخِي أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَأَخْبَرَنِي عَمِّي إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ ، قَالا : أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ الْمُبَارَكِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْعَدَوِيُّ الْيَزِيدِيُّ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، قَالَتْ : ” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ : ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) بِغَيْرِ أَلِفٍ حَتَّى مَاتَ ” .

وقد رواها الحافظ الذهبي من طريق المصنِّف ، في كتابه : طبقات الحفّاظ ( 3/47 ) ، وحكمَ عليها بالغرابة والنّكارة ، مع أنّه قال عقب ذلك : ” ما عَلِمتُ أحداً تعرَّض إليهِ [ يعني : يحيى بن المبارك ] بِلينٍ ، وهُو في القِراءة حُجّة ، فالله أعلَم ” .

وكذلك ذكرَه في كتابه الآخَر : سير أعلام النبلاء ( 15/363 ) ، وقال : ” حديث غريب منكر ” ، مع إقراره في المَوضِع نفسِه بأنّ إسنادَه نظيف !

ولأنّ الحافظ الذهبي لم يبيِّن وجه الغرابة والنكارة في كِلا المَوضعَين ، كان لا بدّ من دراسة هذه الرواية من الناحية الحديثية والفقهية .

ثانياً : إسناد الرواية :

هذه الرواية يرويها أبو طاهر السِّلَفي الحافظ المسنِد الثقة – وهو غنيّ عن التعريف – ، عن شيخه : أبي محمدّ جعفر بن أحمد السرّاج البغدادي ( ت 500هـ ) الأديب النحوي المقرئ الفقيه المحدّث ، وقد عُرف السرّاج بصِدْقه وأمانَته وصَلاحه ، فهو عالِم ثبْت ثِقة ، كان حسَن الخَلق والخُلق . وعُرف بأنَّه حافظُ عَصره وعلامةُ زَمانه ، مشهوراً بفَهمهِ ، فَكان مِن الّذين يُفْتَخَر برُؤيتهِ والرِّوايةِ عنه لديانتهِ ودرايتهِ . يُنظَر : الكامل ، لابن الأثير ( 8/٥٤٨ ) . والثقات ، لابن قطلوبغا ( 3/١٧٠ ) .

ويرويها السرّاج عن : القاضي أبي القاسم عَلِيّ بن المُحسِّن التَّنُوخيّ   ( ت 447هـ ) ، وهو العالِم المعمّر الأديب ، البصري ثم البغدادي ، صدوق الحديث ، سمع أباه وابن كيسان وأبا القاسم الزينبي وخَلقاً كثيراً ، وسمع منه : الخطيب البغدادي وجعفر السرّاج وخلقٌ كثير ، وكان ممن صحب أبا العلاء المعري ، وأسمعَه صحيحَه . يُنظَر : تاريخ بغداد ( 13/604 ) .

ويرويها التنوخيّ عن : أبي عُمر محمد بن العباس الخزاز البغدادي ، المعروف بابْن حيُّوَيه ( ت 382هـ ) ، الأديب المحدِّث الثقة الثبت الحجة ، حدَّث عن : المدائني والبغوي وابن المرزبان وابن صاعد وغيرهم كثير . يُنظَر : تاريخ بغداد ( 4/205 ) .

ويرويها ابن حيّوَيه عن : ابن المنادي البغداديّ ( ت 336هـ ) ، الحافظ المقرئ الثقة ، سليل المحدِّثين ، روى عن : جدّه ، وعن : أبي داوود السجستاني وزكريا المروزي صاحب ابن عيينة وغيرهم ، وروى عنه : ابن حيُّوَيه ومحمد بن فارس الغوري وغيرهما . يُنظر : تاريخ بغداد ( 5/110 ) .

ويرويها ابن المنادي عن : عُبَيد الله بْن مُحمّد العدَويّ البغداديّ ( ت 284هـ ) ، المحدّث المقرئ الثقة ، كان عالماً بالعربية ، روى عن : محمد بن منصور الطوسي وعبد الرحمن ابن أخي الأصمعي ، وعن عمه إبراهيم بن يحيى ، وعن أخيه أحمد بن محمد ، وحَدَّثَ عنه : ابنُ أخيه محمد بن العباس وأحمد بن عثمان ابن الأدمي وابن المنادي وغيرهم . يُنظر : تاريخ بغداد ( 12/49 ) .

ويرويها عُبَيد الله عن أخيهِ : أحمد بن محمد بن يحيى بن المبارك العدَويّ ، روى عن : جده ، وعن : أبي زيدالأنصاري ، وروى عنه : أخوه عبيد الله وابنُ أخيه محمد بن العباس وغيرهما ، وكان أديباً شاعراً عالماً بالعربية ، مات قبل ( 260هـ ) . يُنظر : تاريخ بغداد ( 6/308 ) .

ويرويها عُبَيد الله – أيضاً – عن عمّه : إبراهيم بن يحيى بن المبارك العدَويّ ، وكان ذا حظ وافر في العلم والأدب ، أخذ عن أبيه وعن الأصمعي وأبي زيد وغيرهم ، وله كتاب : ” ما اتفق لفظه واختلف معناه ” نحو من سبع مائة ورقة ، وله أيضاً كتاب : ” مصادر القرآن ” و ” كتاب في بناء الكعبة وأخبارها ” ، وكان شاعراً مُجيداً . يُنظر : تاريخ بغداد    ( 7/168 ) .

وهُما ( أحمد وإبراهيم ) يرويانِها عن : يحيى بن المبارك العدَويّ اليَزيديّ ، نسبةً إلى الأمير يزيد بن منصور – خال ولد الخليفة المهدي – ، فقد اتّصل بهِ مؤدِّباً لأولاده ، ثمّ اتّصل بهارون الرشيد مؤدِّباً لولده المأمون . ويحيى هذا هو شيخُ القرَّاء في زمانه ببغداد ، وكان محدّثاً أخباريّاً ثقة ، وأديباً شاعراً عالماً بالعربية ، أخذ عن ابن جريج والمازني والخليل بن أحمد الفراهيدي وأبي عمرو بن العلاء ، وحدّث وأقرأ خلقاً كثيراً منهم : أبناؤه وحفيده وإسحاق الموصلي وأبو عُبيد القاسم بن سلام والدّوريّ والسّوسيّ ، وله مصنَّفات في اللّغة والنحو والأدب والشعر ، توفي سنة ( 202هـ ) . يُنظر : تاريخ بغداد ( 16/220 ) .

ويرويها اليزيديّ عن : عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم ، الإمام الحافظ الثقة ، أوّل مَن دوّن العِلم بمكة ، وانفرد بمشيخة الحرم ، روى عن عطاء ومجاهد ونافع ابن أبي مليكة وخلق كثير ، وروى عنه الأئمة في عصره السفيانان والحمّادان وابن علية والأوزاعي والليث وغيرهم ، وكان يتوسّع في الرواية ، فيروي بالإجازة والمناولة – قلتُ : لعله من أجل ذلك رمي بالتدليس ! – ، توفي سنة ( 151هـ ) . يُنظَر : سير أعلام النبلاء ( 6/326 ) .

ويرويها ابن جريج عن : عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُليكة القرشي المكّي ، الإمام الحجّة ، لقي ثلاثين من الصحابة ، وولي القضاء لابن الزبير ، روى عنه رفيقه: عطاء بن أبي رباح وأيوب السختياني وابن جريج وخلق كثير ، توفي سنة ( 117هـ ) . يُنظَر : سير أعلام النبلاء        ( 5/89 ) .

ويرويها ابن أبي مليكة عن أمّ المؤمنين : أمّ سلَمة – عليها السّلام – .

ثالثاً : تخريج الرواية :

هذا الحديث أخرجه الإمام الترمذي في : جامعه ( 2927 ) ، من طريق  يحيى بن سعيد الأموي عن ابن جريج ، وأشارَ إلى طريق آخر من رواية الليث بن سعد عن ابن أبي مليكة به . وكذلك أخرجه غير الترمذي من هذين الطريقين ، ولكن النكتة في روايتنا هذه بإسناد السرّاج إلى يحيى بن المبارك اليزيدي : أنّ في الحديث زيادة لفظ ” بغير ألف إلى أن مات ” ، وهذا اللّفظ لم يُروَ من حديث أم سلَمة من الطريقَين الآخَرَين عند الترمذي وغيره .

أما قول الذهبي في حكمه على هذا الحديث : ( غريب ) فلم يبيّن وجه الغرابة ، وقد سبقه إلى هذا الحكم الترمذي ، ولكن الترمذي بيّن وجه الغرابة ، وهو أنّ ابن أبي مليكة لم يسمعه من أمّ سلمة ، لأن الليث ابن سعد روى هذا الحديث عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مملك عن أم سلمة رضي الله عنها ، فرأى الترمذي أنّحديث اللّيث عن ابن أبي مليكة أصح من حديث يحيى بن سعيد الأموي عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة ، وأنّ حديث الليث ليس فيه : ” وكان يقرأ ( مَلِكِ يَومِ الدِّين ) ” .

ولكن هذا الإسناد الذي هو بين أيدينا فيه متابِعٌ ليحيى بن سعيد الأموي ، وهو : يحيى بن المبارك اليزيدي ؛ فلعل ابن أبي مليكة سمعه من يعلى بن مملك عن أم سلمة تارةً – كما في رواية الليث – ، وسمعه من أم سلمة مباشرةً تارةً أخرى – كما في روايتنا هذه ورواية الترمذي – ، وهذا ليس بغريب ، فقد صرّح ابن أبي مليكة بأنّه أدرك ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – كما في : صحيح البخاري ( 1/27 ) – ، وهو ليس من أهل التدليس . أما ابن جريج وإنْ كان يُرمَى بنوع من التدليس ، إلا أنّ يحيى القطّان قال : ” أحاديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة كلّها صِحاح ” ، يُنظر : الجرح والتعديل ، لابن أبي حاتم           ( 1/241 ) .

يُضاف إلى ذلك أنه لا تَعارُض بين الطريقَين ، فغاية ما في الأمر أنّ في أحدهما زيادةً على الآخَر لا تُعارِضُه ، بل بانَ بأنّها زيادة محفوظة .

رابعاً : فقه الرواية :

في حكم الذهبي على هذا الحديث قال : ( منكر ) ، وله مثل هذا الإطلاق إطلاقات كثيرة ، فتكون بحاجة إلى دراسة ، ولعلّه قصَدَ هُنا نكارةَ المتن ، وليس ثَمّ نكارة ، فكَون رسول الله كان يقرأ ( مَلِك ) بغير ألف ، لا تُنافي كونه أقرأها بعضَ أصحابه بالألف ، فإنّما المراد بالحديث قراءته في الصلاة ، وهذا صحيح ، فقراءة أهل مكة والمدينة وكثير من القرّاء بغير ألف .

أخرج أبو داوود ( 1173 ) من حديث أم المؤمنين عائشة عليها السلام ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” إنكم شكوتم جدب دياركم ، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم ، وقد أمركم الله أن تدعوه ، ووعدكم أن يستجيب لكم . ثم قال : ( الْحَمدُ لِله رَبِّ العَالمَين . الرَّحمنِ الرَّحِيم . مَلِكِ يَومِ الدَّين ) لا إله إلا الله يفعل ما يريد ، اللهم أنت لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء ، أنزل علينا الغيث ، واجعل ما أُنزل قوّةً وبلاغاً إلى حين ” . قال أبو داوود : ” إسنادُه جيّدٌ . أهلُ المدينة يقرؤون       ( مَلِك يَوم الدّين ) وهذا الحديثُ حجّة لهم ” ، أي : يقرؤونها بغير ألف .

وأما ما رُوي عن أنس رضي الله عنه : ” أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقرؤون ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ” ، أي: بإثبات الألف ؛ فقد رواه الترمذي وغيره ، وفي إسناده أيوب بن سويد ، وهو ضعيف .

بل رَوى العلامة ابن الأنباري في : كتاب المصاحف – نقلَه عنه السيوطي في : الدر المنثور ( 1/38 ) – عن أنسٍ أيضاً خِلافَ هذا ، وهو أنّهم كانوا يقرؤون ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، أي : بغير ألف ، ولكن لم نعرف إسناد هذه الرواية لفقدان كتاب ابن الأنباري .

ولو صحّت كِلتا الروايتَين فيكونُ الأمر كما قال أبو داوُود        ( 3542 ) : ” سَمِعتُ أَحمدَ يقول : القِراءةُ القدِيمةُ : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ” أي : بإثبات الألف . فهكذا هو صنيع العلماء الفقهاء مع النصوص ، يبادِرون إلى الجمع ما أمكن ، لأنّ ” الإعمال خير من الإهمال ” ، لا سيّما إنْ كان الإهمال لشيئ صحّ إسناده إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام .

وقد جانَبَ الصوابَ بعضُ العلماء من أهل العربية والقراءات ، حيث ضعّفوا إحدى القراءتين من جهة المعنى ، وهو تضعيف ضعيف ، وقد أحسنَ العلامة ابنُ عقيل الظاهري في الردّ على أصحاب هذا الرأي في مقالة له مطوّلة بعنوان : ” لا مُفاضَلة بين قراءتَين صحيحتَين ” المنشورة في مجلة الفيصل ( العدد : 265 ، رجب 1419هـ ) ، فلينظرها مَن شاء المزيد .