خصائص فقه المعاملات في الإسلام

قواعد علم أصول الفقه وأثرها على تفسير نصوص القانون
يوليو 28, 2023
العملة الرقمية البيتكوين في ميزان الشريعة الإسلامية
ديسمبر 11, 2023
قواعد علم أصول الفقه وأثرها على تفسير نصوص القانون
يوليو 28, 2023
العملة الرقمية البيتكوين في ميزان الشريعة الإسلامية
ديسمبر 11, 2023

الفقه الإسلامي :

خصائص فقه المعاملات في الإسلام

( الحلقة الأولى )

بقلم : سعادة الدكتور عبد العزيز بن عبد الله العمار *

فقه المعاملات يقوم على أساس المبادئ العامة :

يتفق فقه المعاملات مع فروع الفقه الإسلامي من عبادات وغيرها في أن مصدرها رباني يتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية ، إلا أن فقه المعاملات يقوم في تشريعه على أساس المبادئ العامة والقواعد الكلية ، ولم يوغل في التفصيلات ، كي يترك للفقهاء فرصة الاجتهاد في الصور التي يستحدثها الناس ؛ ومن هذه المبادئ :

(أ) الكتاب قوله : ( وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [1] .

قال ابن العربي [2] عند تفسير هذه الآية : ” هذه الآية من قواعد المعاملات وأساس المعاوضات ” [3] . ويدخل فيها النهي عن القمار ، والخداع ، والغصب ، وجحد الحقوق ، وما لا تطيب به نفس مالكه ، وحلوان الكاهن ، ومهر البغي ، وأثمان الخمور ، والرشوة وغير ذلك .

(ب) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ” نهى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ” [4] .

والغرر لغةً : الخطر [5] ، وبَيْعُ الغَرر : بيع ما يجهله المتبايعان ، كبيع السمك في الماء [6] .

والغرر في الاصطلاح : ما كان على غير عهدة ولا ثقة ، وتدخل فيه البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان من كل مجهول [7] .

أو ما كان على خطر الحصول فلا يدري أيحصل أم لا . وقد عرفه السرخسي بأنه : ” ما يكون مستور العاقبة ” [8] .

فالحديث عام يشمل كل البيوع التي يدخلها الغرر .

(٢) الأصل في المعاملات الجواز والصحة :

هذا الأصل من القواعد المهمة في أبواب المعاملات ، وقد تكلم أهل العلم عنه بلفظ : ” الأصل في المعاملات ” تارةً [9] ، أو : ” الأصل في العقود والشروط فيها ” تارةً أخرى [10] ، أو بالجمع بينهما ، فيقولون :          ” الأصل في المعاملات والعقود ” [11] . فالأصل في المعاملات الجواز والصحة ، ولا يحرم منها إلا ما ورد الشرع بتحريمه وإبطاله ، وهذا القول ظاهر عبارة الزيلعي [12] من الحنفية ، وصرح به الشاطبي من المالكية ، وهو مذهب الحنابلة ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم .

أما عبارة الزيلعي فقوله : ” ولا نسلم أن حرمة البيع أصل ، بل الأصل هو الحل ، والحرمة إذا ثبتت بالدليل الموجب لها ، وهذا لأن الأموال خلقت للابتذال فيكون باب تحصيلها مفتوحاً فيجوز ما لم يقم الدليل على منعه ” [13] .

وأما الشاطبي فقال بعد أن فرّق بين العبادات والمعاملات ، وأبان أن المعاملات من العاديات : ” وما كان من العاديات يكتفي فيه بعدم المنافاة ؛ لأن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني دون التعبد ، والأصل فيها الإذن حتى يدل الدليل على خلافه ” [14] .

ومن عبارات الحنابلة ما ورد في الكوكب المنير : ” الأعيان والمعاملات [15] والعقود المنتفع بها قبل ورود الشرع إن خلا وقت عنه أو بعده وخلا عن حكمها أولاً وجهل : مباحة ” [16] .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” والأصل في هذا : أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دلَّ الكتاب والسنة على تحريمه ” [17] .

وقال ابن القيم : ” والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان  والتحريم ” [18] . ويستدل على ذلك بما يلي :

(1) قوله جل جلاله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) [19] ، والآية نص في إباحة التجارة ، ولفظ التجارة عام ، فدل على أن الأصل الإباحة إلا ما خص بالدليل [20] .

(2) قوله جل جلاله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) [21] ، وقوله :   ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ) [22]، ونحوهما من الآيات في هذا المعنى ، ودلالتها عامة في وجوب الوفاء بكل عقد وعهد ، فدل على أن الأصل فيها الإباحة ، وإذا كانت مباحةً فهي صحيحة ، ولو كان الأصل فيها الحظر والفساد لم يجز أن يؤمر بها مطلقاً [23] .

(3) اليسير معفو عنه في كثير من الأحكام [24] :

هذه قاعدة نافعة من قواعد الفقه الإسلامي ، وصيغتها ناطقة بمدلولها ، ويمكن أن تدخل في مجموعة القواعد التابعة للقاعدة الأساسية الكبرى : ” المشقة تجلب التيسير ” وينسحب هذا العفو على عديد من الأحكام ، ومن هنا فالأصل المذكور عميق الأثر قديماً وحديثاً ، وقد أفصح الفقهاء عن هذا المفهوم بعبارات شتى ، ولكنها متقاربة المعنى ؛ ومنها ما يلي :

  • ( القليل من الأشياء معفو عنه ) [25]
  • ( اليسير تجري المسامحة فيه ) [26]
  • ( اليسير الذي لا ينضبط لا يلتفت إليه ) [27]
  • ( اليسير مغتفر ) [28]
  • ( النقص اليسير لا حكم له في أشياء كثيرة ) [29]

ومن الفروع التي ظهر فيها تطبيق هذا الأصل ما يلي :

  • إن الجهالة اليسيرة في المعقود عليه ، أو في الثمن في المجلس – معفو عنها [30] .
  • إذا وجد القليل من رأس مال السلم زيفاً فرده ، واستبدل به في المجلس لا ينقض عقد السلم برد ذلك القدر [31] .

كذلك نقص الحبة والحبتين في الأثمان وعروض التجارة يعد يسيراً [32] ، ولا يؤثر في الحكم ، وبناءً على ذلك فإن الزيادة اليسيرة على ثمن المثل لا أثر لها ، وإن كان فيها غبن ما ، كما في الوكيل بالبيع والشراء . . . [33] .

ومما لا غبار عليه أن هذه القاعدة قوية الارتباط جداً بالقاعدة الناطقة بالعفو عما يشق الاحتراز منه – ما لا يمكن الاحتراز عنه فهو عفو – وهذا ما يبدو جلياً من النصوص التالية :

  • ( قليل الغش مما لا يمكن التحرز عنه ) [34]
  • ( قليل الفساد مما لا يمكن التحرز منه ) [35]
  • ( قليل الزيادة مما لا يمكن التحرز منه ) [36]
  • ( العيب اليسير لا يمكن التحرز عنه فجعل عفواً ) [37]

وبناءً على ذلك تكون العبرة للغالب دائماً ، ويعد اليسير مغموراً ملحقاً به ، وبذلك يبقى الحكم سليماً نافذاً ، فلو منع عقد من العقود من النفاذ بسبب أدنى خلل مشار إليه آنفاً ؛ لضاق الأمر على الناس ، ولأدى ذلك إلى الحرج والمشقة ، وهما مرفوعان شرعاً .

( للبحث صلة )

* وكيل وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ، المملكة العربية السعودية .

[1] سورة البقرة ، الآية 188 .

[2] هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن العربي الأندلسي المالكي حتام علماء الأندلس وأئمتها وحفاظها ولد سنة ٤٦٨هـ ، كان من أهل التفنن في العلوم ، أحد من بلغ الاجتهاد مع كريم الأخلاق ، له العديد من التصانيف ، منها : ” أحكام القرآن ”                و ” العواصم من القواصم ” ، توفي سنة ٥٤٣هـ . انظر طبقات المفسرين للداوودي 2/167 ، والأعلام للزركلي 6/230 ، ومعجم المؤلفين 10/242 .

[3] أحكام القرآن ، لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي 1/96 .

[4] رواه مسلم في صحيحه ، كتاب : البيوع ، باب : بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر ، رقم 2783 ، ورواه الترمذي في سننه ، كتاب : البيوع ، باب : ما جاء في كراهية بيع الغرر ، رقم ١١٥١ ، ثم قال : وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأنس ، قال أبو عيسى الترمذي : حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم كرهوا بيع الغرر ، ورواه أبو داود في سننه ، كتاب : البيوع ، باب : في بيع الغرر ، رقم ٢٩٣٢ .

[5] المصباح المنير 2/608 ، مختار الصحاح ص ٤٧١ ، مجمل اللغة لابن فارس 3/681 ، المعجم الوسيط 2/648 .

[6] المصادر السابقة ، المواضع نفسها .

[7] النهاية لابن الأثير 3/355 .

[8] المبسوط : لأبي بكر محمد بن أبي سهيل السرخسي 13/194 .

[9] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28/386 .

[10] القواعد النورانية الفقهية ، لشيخ الإسلام ابن تيمية : ص ١٨٤ – ١٨٨ .

[11] إعلام الموقعين عن رب العالمين : لابن القيم الجوزية ١/٣٨٤ .

[12] هو : عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي من كبار علماء الحنفية ، وأصله من الزيلع بالصومال ، له مصنفات ؛ منها : ” نصب الراية تخريج أحاديث الهداية ” ، و ” تخريج أحاديث الكشاف ” ، توفي سنة ٧٦٢ هـ . انظر : الأعلام للزركلي 4/147 ، ومعجم المؤلفين ٤/١٦٥ .

[13] تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ، لعثمان بن علي الزيلعي 4/87 .

[14] الموافقات 1/284 – 285 .

[15] هذه اللفظة موجودة في الطبعة الأولى ، ولم تثبت في الطبعة الثانية التي نشرها مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي ، مكة المكرمة .

[16] الكوكب المنير مع شرحه المسمى بمختصر التحرير ، لمحمد بن أحمد المعروف بابن النجار . 1/322 – 325 .

[17] مجموع الفتاوى 28/386 ، وقارن بالقواعد النورانية : ص 112 ، 113 ، 188 ، 192 .

[18] إعلام الموقعين ١/٣٨٤ .

[19] سورة النساء ، الآية ٢٩ .

[20] أحكام القرآن للجصاص : الأحمد بن علي الجصاص 2/172 – 174 ، وانظر : أحكام القرآن لابن العربي 1/408 .

[21] سورة المائدة ، الآية 1 .

[22] سورة الإسراء ، الآية ٣٤ .

[23] القواعد النورانية : ص 192 ، 197 ، 208 .

[24] المعيار للونشريسي 5/137 – 138 .

[25] تأسيس النظر للدبوسي : ص 59 .

[26] المغني لابن قدامة ، 13/133 .

[27] المبدع ٤/١٧١ .

[28] شرح الزركشي 3/524 .

[29] كشاف القناع 2/169 .

[30] تأسيس النظر : ص ٩٥ .

[31] المرجع السابق .

[32] انظر : كشاف القناع 2/178 .

[33] المنثور في القواعد 2/183 .

[34] بدائع الصنائع 5/196 .

[35] المصدر السابق 5/284 .

[36] المصدر السابق 6/30 .

[37] الهداية 9/514 ، والمغني 14/117 .