حياة تستحق النصر والتأييد من الله

قصة موسى والخضر عليهما السلام ، وما لها من دروس
يونيو 4, 2024
قصة موسى والخضر عليهما السلام ، وما لها من دروس ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يوليو 3, 2024
قصة موسى والخضر عليهما السلام ، وما لها من دروس
يونيو 4, 2024
قصة موسى والخضر عليهما السلام ، وما لها من دروس ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يوليو 3, 2024

التوجيه الإسلامي :
حياة تستحق النصر والتأييد من الله
الإمام الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله
إن تاريخ حضارة الأمم ، وتاريخ نهضتها وزوالها يعلمنا أنه إذا أصيب مجتمع بشري بالتخمة بالمدنية والرفاهية ، وابتلي بالمسابقة المجنونة في الحصول على وسائل الترفيه وترقية المدنية ، وفي رفع مستوى المعيشة ، ويبلغ رجال هذه المدنية قمةً في البذخ ، وقمةً في الترف ، وكانت عندهم جيوش كثيفة جرارة ، والعدد والعدة التي يحاربون بها العدو ، ويقهرونه ، فإن هذا المجتمع يزول لا محالة ، وإنَّ هذه المدنية تنهار ، لا ينقذها شيئ من هذا المصير المشؤوم المحتوم ، والنهاية الأليمة المقدرة .
قد أصيب المجتمع الفارسي الإيراني القديم في القرن السابع المسيحي الذي كان يحكمه أهل ساسان والأسرة الكيانية العريقة في المجد والعظمة بنفس الداء ، فقد بلغت المدنية فيها أوجها ، وذروة مجدها ، وزهوها . وهنالك أسماء معروفة في التاريخ الإيراني ، مذكورة بالأنساب ، كانوا يحافظون على هذه الأعراف ، ويوفون بهذه الشروط ، ولما غزا العرب المسلمون هذه المملكة الساسانية المترامية الأطراف ، التي توزعت العالم المتمدن المعمور مع الدولة البيزنطية لم ينفعهم هذا الترف ، ولم يغن عنهم شيئاً ، بل كان من أكبر أسباب زوال هذه المملكة وانهيار هذه المدنية .
إلى هذه الحال وصلت المدنية الفارسية الباذخة ، وأصبح قادتها وأبناؤها لا يستحقون رحمةً من السماء ، ولا ينالون رحمةً من بين جلدتهم ، فكانوا يملقونهم إذا حضروا ، ويلعنونهم إذا غابوا ، وكانوا يبغضونهم بأعماق قلبهم ، ويمدحونهم بأطراف ألسنتهم ، رياءً ونفاقاً ، وكانت المدنية تزخر بآلاف من الشعراء ، وآلاف من الأدباء ، ومئات من المؤسسات الكبيرة ، وثروة كان يحويها إيوان كسرى وقصر المدائن ، وتبدو ثروةً خياليةً أسطوريةً لا يصدقها الواقع ولا يسيغها العقل ، ولكن هذه المدنية الراقية ، وهذه الثروة الهائلة لم تنفع أهلها ، وكان هذا الجنون لترفيه النفس ، وإشباع الشهوات ، وإرضاء الغريزة ، هو الذي كان سبب هلاكهم ، وكان من أسباب سرعة الفتح الإسلامي العربي .
إخواني ! إن هناك حياة لا تستحق التأييد والنصر من الله تبارك وتعالى ؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو العدل البر الرحيم ، وهو العزيز الحكيم ، وهو رب العالمين ، ليس ربَّ أمة ، وليس ربَّ شعب ، وليس رب بلد ، وليس رب مجتمع ، إنها ليست حاجات يجوز أن تكمل ، ويجب أن تحترم ، إنما هي نهامة بالمال ، إنها معدة خيالية ، ولا وجود لها إلا في التصورات ، لا وجود لها إلا في الأرقام ، وفي حسابات البنوك ، إذا تولدت هذه المعدة الخيالية في مجتمع ، وكانت هي الحاكمة ، وكانت هي الآمرة الناهية ، اكتسحت المجتمع موجة عارمة من التنافس المادي ، والجشع المالي ، والفوضى الخلقية ، والقسوة والوحشية ، هنالك يأذن الله بزوال هذا المجتمع ، وينطبق عليه قوله تعالى : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) [ الإسراء : 16 ] .
إن أخوف ما أخاف على هذه المناطق التي أكرمها الله بالثروات والخيرات وأدرَّ عليها الرزق الوفير والخير الكثير ، هو ” البطر ” إنني إذا قرأت قوله تعالى : ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِتُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ) [ القصص : 58 ] أخذتني رعدة ، وملكني الإشفاق والحذر على هذه المجتمعات السعيدة التي تعيش في عصر ألف ليلة وليلة ، وفي عصر الأساطير والأخيلة ، إن أخوف ما أخاف عليها ليس هو العدو الخارجي ، لكن هو العدو الكامن في النفوس ، الجاثم على المجتمع ، هو الذي أنذر به رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً في خطبته على جبل الصفا حيث قال : ” إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ” .
وما كانوا يتوقعون حين سمعوا صوته : يا صباحاه ! إلا أنه يخبرهم بعدو كامن ، قاعد بالمرصاد وراء جبل الصفا يغير عليهم على غرة منهم ، فيستاق إبلهم ومواشيهم ، وينهب أموالهم ويسبي ذراريهم ، فهذا الذي كانوا يعرفون من معنى هذا الهتاف ، ولم يجربوا إلا نوعاً واحداً من العدو ، وهو العدو الخارجي من إحدى القبائل المعادية المنافسة ، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم نبههم على خطر جديد ، لم يكن لهم به عهد ، وهو العدو الباطني ، هو الحياة الجاهلية الوثنية التي كانوا يعيشونها بعقائدها وأخلاقها ومثلها ، إن العدو إذا وجد في داخل مجتمع ، وفي البيوت والمنازل وعشش ، وباض وفرَّخ في الأخلاق ، وفي الميول والرغبات ، وفي المثل العليا ، والمفاهيم والقيم ، فهذا هو العدو الحقيقي الذي لا يؤمن حيناً ، ولا يفارق أبداً ، إنما هي حياة جاهلية برَّأ الله العرب منها قبل أن يبرئ منها غيرهم . فكانوا حاملي راية المساواة الإنسانية ، وراية الرحمة بالإنسانية المعذبة ، وراية التقشف في الحياة ، وراية الزهد في حطام الدنيا ، وراية إيثار الآجلة على العاجلة ، وإيثار الغير على النفس ، وقد وصفهم الله بقوله : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [ الحشر : 9 ] .
وهم الذين خاطبهم مربي الأمة وحكيمها ، الخليفة الإسلامي العربي عمر بن الخطاب ، القرشي العدوي في وصيته الحكيمة للعرب ” إياكم والتنعم وزي العجم ، وتمعددوا واخشوشنوا ، واخشوشبوا واخلولقوا وأعطوا الركب أسنتها ، وانزوا نزواً ، وارموا الأغراض وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب ” ، فكان يجب أن يكون العرب أبعد الأمم عن الحياة الرخية الرقيقة ، وأكثرها محافظةً على حياة البساطة والخشونة ، والأخذ بالعزيمة ، فإنها هي الأمة المهيأة لقيادة البشرية في كل زمان ، فكيف إذا كانت بين فكي أسد ، ومحاطة بالأعداء والأخطار .
إنما شقيت الإنسانية ، وشقيت المدنية دائماً بالحاجات الخيالية ، والغايات المختلفة ، والمثل الزائفة ، إنها لم تشق بالحاجات الطبيعية ، إنه لا ذنب على المعدة الحقيقية ، وقد أحسنت الشاعرة الجاهلية حين عيَّرت أخاها في طمعه الزائد في المال ، وقالت :
وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم ؟
إن المعدة الخيالية لا تملؤها الرمال ، ولا تملؤها الأحجار والجبال ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لو كان لابن آدم واديان من ذهب ، لابتغى إليهما ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ” .
إن أحد نوابغ هذا العصر وكان إسرائيلي السلالة ، يهودي الديانة ، غربي النشأة ، وهو محمد أسد النمساوي الذي كان يسمى سابقاً بليوبولد ويس Leopold Veiss يحكي قصة إسلامه فيقول : إني كنت مسافراً في سنة 1926م في قطار برلين تحت الأرض ، وكانت معي زوجتي ، وهي رسامة ، وفنانة ، كانت ذكيةً جداً ، وقد لاحظت أن كل زملائي في هذه الدرجة مكتئبون تعلو وجوههم كآبة ، ويغشاها قتام ، وكان ما يحملونه من متاع ، ويلبسونه من ملابس ، ويتحلون به من خواتم ، يدل على أنهم من الطبقة الثرية في البلد ، وكان الزمن زمن الرخاء الذي عقب سنوات ” التضخم ” في أوربا ، فأنا تحيرت ، وفكرت ، وقلت : لماذا هذه الكآبة ؟ ما سبب هذا الحزن العميق الذي هم غارقون فيه ؟ ولفتُّ نظر زوجتي ، وقلت : يا عزيزتي ! انظري في وجوه هؤلاء القوم ! ألا تشعرين بأنهم تعلوهم الكآبة ؟ قالت : نعم ، إنهم جميعاً يبدون وكأنهم يعانون آلام الجحيم ، فأردت أن أفسر هذه الظاهرة ، فلم أنجح ، ورجعت إلى مكتبي ، فإذا بالمصحف على منضدتي ، فأخذته من غير قصد ، وفتحت من غير اختيار ، فإذا بسورة التكاثر تطالعني ، ويقول الله تبارك وتعالى : ( ألْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ . حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ . كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ . لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ . ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ . ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) [ التكاثر : 1 – 8 ] .
وكنت متردداً : هل أدخل في الإسلام ، أو لا أزل أشرحه ، وأعرضه في الأسلوب العلمي العصري كما كان شأني ، ولم أكن قررت بعد أن أعتنق الإسلام ، ولما قرأت هذه السورة ، قلت : والله إن هذا الكلام لا يأتي به إلا من ينزل عليه الوحي ، هذا الكلام لا يقوله بشر قبل ثلاثة عشر قرناً ، إنه يصوِّر المجتمع الغربي المعاصر الراقي بقسماته ومخايله ، ويتنبأ بالعذاب النفسي الذي يتميز به هذا القرن العشرون رغم رقيه الصناعي والحضاري ، ويعين مصدر هذا العذاب والشقاء الذي كان يعانيه ركاب القطار ، الذين رافقتهم ، ويعانيه المجتمع الأوربي بشكل عام ، وهو ” داء التكاثر ” لا غير ، فمن ساعتي خرجت إلى صديق لي مسلم هندي ، وقلت : يا أخي ! ماذا يفعل من يريد أن يدخل في الإسلام ؟ قال : يقول : ” أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ” فنطقت بالشهادتين ، وأصبحت مسلماً .
إخواني ! أنا أوصي أولاً نفسي وإياكم بعد ذلك ، أن نعتبر بالحوادث التي تقع حولنا ، وأن نغير نفوسنا قبل أن تغيرنا العوامل القاهرة ، المفروضة علينا في الداخل ، أو الواردة إلينا من الخارج ، التي تجوس خلال الديار ، ولا ترحم أحداً ، ولنجعل المثل الكامل هو الحياة الإسلامية العادلة ، المؤسسة على إيثار الآخرة على الدنيا ، المؤسسة على الحقائق الغيبية الدينية ، والمثل الخلقية ، والمبادئ الفاضلة ، ونحترز من الذنوب والكبائر ، وقد كتب سيدنا عمر بن عبد العزيز إلى قائد جيشه فقال :
” آمره ألا يكون من شيئ من عدوه أشد احتراساً منه لنفسه ومن معه من معاصي الله ، فإنَّ الذنوب أخوف عندي على الناس من مكيدة عدوهم ، إنما نعادي عدونا وننصر عليهم بمعصيتهم ، ولولا ذلك لم يكن لنا قوة بهم ، لأن عددنا ليس كعددهم ، ولا عدتنا كعدتهم ، فلو استوينا نحن وهم في المعصية كانوا أفضل منا في القوة والعدد ، فلا ننتصر عليهم بحقنا ، ولا نغلبهم بقوتنا ، ولا تكونوا لعداوة أحد من الناس أحذر منكم لذنوبكم ” .
أقول هذا ، وأستغفر الله لي ولكم ، وأدعو لكم وللمسلمين جميعاً ببقاء العافية ، وطول السلامة ، والتوفيق والهداية .