الحركة العلمية الإسلامية بين الصحابة وأشهر علمائها
يناير 1, 2020رمزية الليل وصوره الإبداعية في الشعر العربي
يناير 1, 2020حقوق كبار السن في الإسلام
( الحلقة الثانية الأخيرة )
الأستاذ رفيع الدين حنيف القاسمي *
مراعاة وضعه وضعفه :
إن الإنسان في بداية عمره وعنوان شبابه يكون غضاً ، طرياً ، طازجاً ، ليّن الأعطاف ، قوي العضلات ، بهيّ المنظر ، ثم يشرع في الكهولة ، فيضعف قواه ، وينحطّ عضلاته ، فيتغير طبعه ، ثم يكبر شيئاً فشيئاً حتى يصير شيخاً كبير السن ، ضعيف القوى ، قليل الحركة ، يعجز عن المشي والحركة السريعة ، فيتقدم إلى الإمام بطيئاً ، ويتوكأ على العصا ، فصور الله عز وجل هذه الأحوال في القرآن الكريم : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ) ( الروم : 54 ) .
يعني الإنسان يمر بثلاث مراحل رئيسية : ضعف ، ثم قوة ، ثم ضعف ، ولكن هذا الضعف الأخير وهو الشيخوخة والكهولة .
وقال في موضع آخر : ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) ( الحج : 5 ) .
وأرذل العمر كما ذكر المفسرون : هو : أخسه وأدونه ، وآخره الذي تضعف فيه القوى ، وتفسد فيه الحواس ، ويختل فيه النطق والفكر ، ويحصل فيه قلة العلم وسوء الحفظ والخرف ، وخصه الله بالرذيلة لأنه حالة لا رجاء بعده لإصلاح ما فسد ” [1] . فالمسلمون المتقون لا يبلغون هذه الحالة كما جاء في التفاسير .
فعلينا أن نراعي صحة كبير السن ، ووضعه البدني والنفسي ، بسبب الكبر والتجاوز في العمر ، فإن هذه المرحلة من الحياة قابلة للعناية والاهتمام الكبير من الأقارب ، فأن الضعف يسري ويجري في الإنسان كجريان الدم ، فيضعف ، بدنه ، وصحته ، وحواسه ، فما يصدر منه من خطأ فمقتضى هذه السن المتقدمة ، بل إن تصرفاته في هذه السن المتقدمة لكثرة وهنه ، وضعفه وبل ضعف قواه أشبه ما يكون بتصرفات الصغير .
فمن لم يستشعر هذا الأمر من الكبير فيملّ ويسأم الكبير ، ويسيئ معاملته ، فمن المؤسف جداً أن بعض الأقارب والأبناء يذهب بوالده في مرحلة من هذا العمر الذي – يقتضي كثيراً من العناية والإحسان – إلى أماكن التأهيل ، وأماكن رعاية الكبار ، ويتركه ، ويطرحه هناك ويولي على عقبيه ، ولم يرع له حقوقه حتى الزيارة ولو غبّاً ، فلا يرضى أحد لنفسه لو كبر ، وبلغ هذا المبلغ من العمر .
فعلينا أن نراعي حقوقهم ، ولا نتركهم ولا نطرحهم في دُور المسنين من غير رقيب ولا رفيق ، بل يتعين علينا رعاية حقهم مقابلة الإحسان ، عندما كنا صغاراً ضعفاء ، فحملوا أعباءنا ، وتحملوا مشاقنا ، واهتموا برعايتنا كل الاهتمام حتى أكبرنا وصرنا شباناً أقوياء ، فأشار إلى حالنا الله عز وجل في كتابه العزيز : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) ( لقمان : 14 ) .
حقوق كبار السن على المراتب :
قال الدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر ، وهو يلقي الأضواء على حق كبير السن : ” ثم إن هذا الحق يعظم ويكبر من جهة ما احتفّ به ؛ فإذا كان قريباً فله حق القرابة مع حق كبر السنّ ، وإذا كان جاراً ، فإضافةً إلى حقه في كبر سنّه فله حق الجوار ، وإذا كان مسلماً ، فله مع حق كبر السن حق الإسلام ، وإذا كان الكبير أباً أو جداً فالحق أعظم ” ، بل إذا كان المسنّ غير مسلم فله حق كبر السنّ ، إذا الشريعة جاءت بحفظ حق الكبير حتى مع غير المسلمين ، فلربما تكون رعايتك لحقه سبباً لدخوله في هذا الدين في مراحل حياته الأخيرة ” [2] .
رعاية الوالدين باعتبار مظهر من مظاهر رعاية المسنين :
فعلينا أن نراعي حقوق الأبوين كبار السن حق الرعاية والاهتمام ، وإن كانوا مشركين غير مسلمين ، فإنما رعايتنا حقهم يسبب لدخولهم في الإسلام ، ولنا في ذلك قدوة وأسوة في سلوك نبينا مع الأكابر والآباء المسنين .
فقد روى الإمام أحمد بن حنبل هذه القصة العجيبة في إكرام كبار السن لوالد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، وإكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم له عند قدومه لقبول الإسلام .
. . . . جاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة يحمله ، حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه . . . [3] .
بل لو كان والد الإنسان مشركاً غير مسلم فالشريعة ترغب ولده بالإحسان إليه ، وحفظ حقوقه ، وحتى وإن كانوا يدعونه إلى الكفر قال الله عز وجل : ( وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ ) ( لقمان : 15 ) ، فلم يقل هناك ” فعقّهما ” بل قال : ” فلا تعطعهما ” كذلك لو كان والد الإنسان تاركاً للصلاة أو فاسقاً يبقى له حق الأبوة وكبر السنّ ، فيعامل معه بموجب هذا الحق ، فحسن سلوكنا معه يهديه للعودة إلى الحق والصدق والثواب .
فحفظ حق الكبير ضروري ، ورعايته أمر لا بدي ، وإن كان كافراً ، فكيف إذا كان مسلماً ؟ وكيف إذا كان جاراً ، وكيف إذا كان قريباً ؟ وكيف إذا كان أباً وأماً ؟ بل يصبح ذلك من أعظم القرب ، وأجل الوسائل للفوز في الدارين ، وتفريج الكروب ، وتيسير الأمور كما يشهد لذلك قصة النفر الثلاثة الذين أووا إلى غار في جبل ، فدخلوه ، فانحدرت صخرة من الجبل ، فسدّت عليهم الغار ، فتوسلّ كل واحد منهم بصالح أعمال ، فكانت وسيلة أحدهم قيامه بهذا الحق العظيم بأبويهم الشيخين الكبيرين ، ورعايته حقوقهما أدى إلى نيل مطلبه ، حيث قال في توسله :
” اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران ، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ، ولا مالاً فنأى بي في طلب شيئ يوماً ، فلم أرح عليهما حتى ناما ، فحلبت لهما غبوقهما ، فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً ، فلبثت والقدح على يدي ، أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر ، فاستيقظا ، فشربا غبوقهما ، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ، ففرِّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة ” [4] .
خلاصة القول : أن نعتبر الأكابر خيراً لنا وبركةً لنا في حياتنا ، وازدياداً في أرزاقنا وفي أعمارنا ، والإساءة إليهم وسوء المعاملة معهم فنجازي ذلك في أواخر أعمارنا ، فلا بد لنا أن نحترم الأكابر ونجلَّهم ونكرمهم ، ونحسن الخطاب معهم ، ونخاطبهم بما يظهر به احترامهم وإعزازهم ، نبدأهم بالسلام ، ونقدمهم في الكلام والسؤال ، وندعو لهم بزيادة العمر ، ليبقى لنا الخير فينا ، ونرعى لهم بصحتهم ، وضعفهم ، ونكابد للإفساد في فكرهم ، والاختلال في كلامهم ، ولا نسيئ المعاملة معهم ، وإن كانوا أبوين شيخين كبيرين ، فرعايتهما واهتمام أمورهما فحق لازم لنا باعتبار أننا أبناؤهم وهما آباؤنا ، لأنهما سببان قريبان في وجودنا . ولأننا مع أجسادنا وأعضائنا وأموالنا ملك لآبائنا ، ليس لنا أي وجود ولا أثر بغيرهما .
المصادر والمراجع :
- ابن أبي الدنيا ، العمر والشيب ، مكتبة الرشيد ، الرياض ، الطبعة الأولى : 1412م .
- عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر ، حقوق كبار السن في الإسلام ، مكتبة الملك فهد الوطنية ، الرياض ، الطبعة الأولى : 1432هـ – 2011م .
- هبة مدحت راغب الدلو ، أحكام المسنين في فقه العبادات ، دراسة فقهية مقارنة ، الجامعة الإسلامية غزة ، 1430هـ – 2009م .
- عبد الله بن ناصر بن عبد الله السلحان ، رعاية المسنين في الإسلام ، الطبعة : 1419هـ – 1999م .
* وادي مصطفي ، شاهين نغر ، حيدرآباد ، الهند .
[1] ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم : 2/577 ، دار الباز ، مكة المكرمة .
[2] عبد الرزاق بن عبدالمحسن البدر ، حقوق كبار السن في الإسلام : 14 .
[3] مسند أحمد ، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه ، حديث : 12635 .
[4] بخاري ، باب من استأجر أجيراً فترك الأجير أجره ، حديث : 2272 .