ملامح العلاج بالقرآن في التأثر به وقبول الدعوة إلى الله
سبتمبر 2, 2024رعاية الله للمرأة على تداول الأزمان في عُش الزوجية ( الحلقة الثانية )
نوفمبر 22, 2024الدعوة الإسلامية :
حب النبي صلى اللّه عليه وسلم
الشيخ السيد بلال عبد الحي الحسني الندوي
تعريب : الأخ نعمت اللّه قاسم الندوي *
واقع البشرية قبل بعثته صلى اللّه عليه وسلم :
حينما نلقي نظرةً على واقع الإنسانية قبل بعثة النبي – صلى اللّه عليه وسلم – ندرك أن الإنسانية آنذاك نسيت القيم والمثل والأخلاق ، وتغافلت عن القوانين والمبادئ التي يقوم عليها أساس المجتمع البشري فترفعُ كل ما يَهوي ، وتُحسن كلما يسوؤ ، وتُصلح كل ما يَفسد ، فلم يكن هناك وازع ديني وخلقي وإنساني . وكانت البشرية في متاهات حالكة ضيقة ، تعيش بعيدةً عن الرسالات السماوية والتوجيهات الربانية الإلهية ، وغشيتها غاشية من الجهل والغفلة ونسيان الآخرة . وكان الإنسان حين ذاك يعيش حياته تحقيقاً لمطالب النفس وسعياً وراء الشهوات واللذات شأن عبد خاضع لما تملي عليه نفسه ، ممتثلاً لما تدعو إليه تلك التقاليد الجاهلية والعادات الهمجية القاسية ، وكان في ضيق وقلق وعسر وشظف حتى جاء الإسلام ، وأعلن بقول اللّه عز وجل : ( يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) [ الحجرات : ١٣ ] . وبقوله تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) [ الإسراء : ٧٠ ] .
فقام الإسلام بتكريم الإنسان الخاضع المهين المقيد بالطقوس والتقاليد ، الذي استخفه السادة والحكام واستبد به الرؤساء والملوك ، إذ منحه الحرية البشرية التي لم يزل يحرم منها منذ حقبة من الزمان .
فإذا قال أحد : كيف أخرج الإسلام الإنسان من ضيق الدنيا إلى سعتها ، وقد كانت هناك حكومات كبيرة واسعة وإمبراطوريات عظيمة هائلة ، فالجواب ما ذكرناه سابقاً أن الإنسان في الواقع كان يعيش حياته في ضيق وشدة وقلق ، منغمساً في الشهوات واللذات ، وكان عبداً مستسلماً لكل ما تطلب منه نفسه التي انحرفت عن جادة الحق وسهت عن دين اللّه السماوي الصادق .
ولقد ذكر المؤرخون أن الملك الساساني الأخير يزدجرد عندما هرب بعد الهزيمة التي لقيها من قبل المسلمين ، واشتد به العطش ، فلجأ إلى كوخ ، وطلب من صاحبه الماء ، فقدم إليه الماء في كأس من طين ، لكن يزدجرد رفض شرب الماء في الكأس الطينية قائلاً : إنني لم أشرب الماء في حياتي قط إلا في آنية من فضة وذهب ، سأختار الموت ، فأن أموت خير لي من أن أشرب الماء في كأس من طين . فكأنه كان عبداً لأواني الذهب والفضة ، أسيراً وهي حاكمة عليها . فالإنسان في ذلك العصر خضع كل الخضوع لعاداته التي دائماً ما تلبي نداءات الهوى وتجيب دعوات النفس حتى أصبح الموت أسهل تحملاً على النفس وأزين لها من شرب الماء في إناء من طين .
فضله على المجتمع البشري :
فما أحسن إلى البشرية أحد ومن عليها في تاريخها العظيم مثلما منّ وأنعم عليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . فلقيت البشرية على يديه نعماً ومنناً يصعب على العقل الإنساني تصورها .
فإذا تأملنا قليلاً وجدنا أن جميع أسباب الحب تنتهي إليه – صلى اللّه عليه وسلم – . فلقد منحنا النبي صلى اللّه عليه وسلم كل خير وسعادة . ولولا دينه وشريعته لكنا ضائعين تائهين ، ولم نكد نعرف مصيرنا وعقبانا ، ولكنا نجهل حقيقة الحياة ، وسر خلق الإنسان وبعثه إلى هذا الكون .
وإن جميع الحقوق التي نعرفها في علاقاتنا الاجتماعية هي من بركة تعاليمه – صلى اللّه عليه وسلم – . فلولا توجيهاته وتعاليمه لما نال الأب حقه كأب ، والأم حقها كأم ، والأخ حقه كأخ ، والجار حقه كجار .
أنواع الحب :
إن بعض العلماء قسموا الحب إلى نوعين : الحب الطبيعي والحب العقلي أو الحب الطبيعي والحب الإيماني . أما الحب الإيماني فإنه يبدأ بالعقل ، ثم ينتقل إلى الطبيعة فيتغلغل في القلب حتى يصبح جزءاً لازماً من طبيعة الإنسان . وإن هذا النوع من الحب يتضمن كلا الجانبين جانب العقل وجانب القلب . فإنه في غالب الأحيان يفوق الحب الطبيعي البحت .
وأما الحب الذي يشعر به الوالدان تجاه أولادهما ، فإنه حب طبيعي محض ، وليس حباً عقلياً ، ولكن الحب الإيماني الذي هو حب اللّه ورسوله – صلى اللّه عليه وسلم – يبدأ من العقل ثم يتخذ سبيله تدريجياً إلى الطبع ، فيصير مزيجاً من العقل والقلب ، وإن هذا ما يجعله أقوى وأعمق من الحب الطبيعي العام .
واقع العالم الغربي :
إذا فكر أحد في الحب الطبيعي بعقلانيته وحدها أصيب بالتراجع مما يدفعه إلى اجتراح أعمال عجيبة كريهة ، ويبعثه على ثورة ثائرة على النظام البشري السديد السائد ، كما نرى ذلك في هذه الأيام في المجتمعات الغربية بصفة خاصة وفي مجتمعاتنا بصفة عامة حيث يزج الناس بآبائهم وأمهاتهم في دور المسنين ( Old Age Home ) فراراً من الاضطلاع بالأعباء المادية ، واستجابةً للعقلانية البحتة . وكذا يستثقلون الإنفاق على أبنائهم . فإنهم يحسبون أن الإنفاق مهما كان جسيماً لن يعود عليهم بأي فائدة ، ولن يكسبهم ثمرةً في المستقبل ، فيتجاهلون حقوق أبنائهم غير مبالين بالمسؤوليات التي نيطت بهم نحو أبنائهم . فيُلقون الحبل على غاربهم . فيرسمون لأنفسهم ما شاؤوا من وجهة يولونها في حياتهم ، ويتخذون مبادئ كلها خنوع لأهواء النفس وركوع لمشتهياتها .
وأما الآباء فكأنهم عبيد لأبنائهم ، فلا حق لهم على أبنائهم ، لا يستطيعون أن يأمروا أطفالهم بشيئ ، ويشددوا عليهم في تربيتهم وتوجيههم . فإذا عاقب الأب ابنه على خطأ صدر منه أو ضربه على جريمة اقترفها أخذ الابن هاتفه يتصل من فوره بالشرطة فتأتي الشرطة وتلقي القبضَ على الأب ، فلا يمكن الأبَ أن يربي ابنه ويقوم بإصلاحه وينبهه على أخطائه ويحذره من زلاته . فإن هذا قانون عجيب وغير طبيعي تستنكره الفطرة السليمة الصحيحة مما يتسبب في إحداث كثير من المشاكل الاجتماعية .
هذا ما قدمته أوروبا للعالم البشري من خراب اجتماعي واضطراب أسري وعمل همجي وإفلاس روحي وتدهور فاحش في القيم والأخلاق وتشتت للعلاقات الاجتماعية في صورة الحرية الجذابة وفي الشكل التقدم التكنولوجي الخلاب .
فإذا نظر إليهم ناظرٌ بمنظار العقل المادي الظاهر وجدهم أذكياء مثقفين . ولكن إذا أمعن النظرَ وأطال التأمل أدرك أنهم كالبهائم في العقل والفهم والسلوك ، لا يهمهم إلا المادة والمعدة .
كان الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي يقول : إن هناك تناقضاً غريباً في أوروبا . أما في التقدم والصناعة والإبداع فقد بلغوا عنان السماء ، وأما في السلوك والأخلاق فإنهم يشبهون البهائم والحيوانات ، وربما يفوقونها .
ويرجع كل ذلك إلى أنهم تبنوا مناهج حياتهم واتخذوا قراراتهم على أساس العقل المجرد ، فلا نرى فيها للقلب دوراً وللعاطفة مكاناً .
حب أهل الإيمان :
لقد وصف اللّه المؤمنين في كلامه المجيد بأنهم لا يقبلون على إرشادات وتوجيهات من ربهم دون وعي وتفكير ولا يكبون عليها صماً وعمياناً ، بل إنهم يفكرون فيها ويتدبرونها ويتأملون فيها تأملاً عميقاً واعياً . ثم يأخذونه ويتبعونه على وعي وبصيرة . يقول تعالى : ( وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ) [ الفرقان : ٧٣ ] .
فإن التأمل في الآيات واتباعها على وعي وبصيرة يجعل الإنسان مطمئناً بها ثابتاً مستقيماً عليها بقوة وصلابة متيقناً بما فيها الخير والسعادة .
وكذا حال الحب العقلي فإن الإنسان حينما يتدبر في أسباب الحب ويتأمل فوائده ويعرف مقاصده ويمعن النظر في ميزات الحبيب ، وفي خصاله وخلاله يدرك أن أسمى وأقوى معاني الحب وأسبابه من الجمال والكمال والفضل والرحمة والعطاء توجد في ذات اللّه تبارك وتعالى وشخصية نبيه محمد – صلى اللّه عليه وسلم – . فيخلق هذا التفكير فيه طمأنينة وثقة بنفسه وعمله وحبه وميله ونزعته واتجاهه ، فيبادر مندفعاً نحو الحصول على هذه النعمة الثمينة الجليلة ، نعمة الحب العقلي ، نعمة حب اللّه ورسوله عليه الصلاه والسلام . فاتضح أن الحب العقلي الإيماني ينشأ أولاً في عقل الإنسان ، ثم ينزل إلى القلب ويتغلغل في أحشائه ويتمكن من أعماقه حتى يصبح جزءاً لازماً من طبيعته .
حب أصحابه صلى اللّه عليه وسلم :
لقد أحب الصحابة – رضي اللّه عنهم – نبيهم الحبيب محمداً – صلى اللّه عليه وسلم – حباً عقلياً وقلبياً وطبيعياً ، وحدث في حياتهم انقلاب عظيم بفضل البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام ، فغيّر الحب العقلي الذي نشأ في عقلهم أول ما زاروا النبي صلى الله عليه وسلم وتمكن من قلوبهم ووقع فيها كل موقع حياتَهم الوحشيةَ إلى حياة إنسانية إيمانية تحفل بالرحمة والتضحية والفداء .
وكانوا من قبل مفرقين موزعين في قبائل وجماعات تتحارب وتتقاتل ، وكان من تلك القبائل قبيلة قريش التي انقسمت إلى قبائل فرعية ، منها بنو هاشم ، وكانت هذه القبائل الفرعية من قريش تتناحر وتتناطح وتسعى كل واحدة منها دائماً أن تتفوق على أخرى فحينما بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم في بني هاشم لم يكن قبول دعوته واعتناق دينه على هذه القبائل المتناحرة سهلاً ميسوراً ، فتفكروا وتأملوا واستخدموا في ذلك عقولهم حتى علموا أن سعادتهم مكنونة ومحصورة في الإيمان به واتباعه واحتضان كل ما جاء به من عند اللّه تعالى .
فأحبوه حباً خالصاً صافياً من كل ريبة وتشكك وتذبذب . فلم يكن حب الصحابة رضي الله عنهم عاطفياً مؤقتاً فحسب ، إنما كان حباً عقلياً عاطفياً طبيعياً إيمانياً يجمع بين العقل والقلب .
( للحديث بقية )
* معهد الدراسات العلمية ، ندوة العلماء ، لكناؤ .