حارس اللغة العربية في الهند

الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي وولاية كيرالا
نوفمبر 19, 2023
الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي : قائداً حكيماً
نوفمبر 19, 2023
الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي وولاية كيرالا
نوفمبر 19, 2023
الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي : قائداً حكيماً
نوفمبر 19, 2023

حارس اللغة العربية في الهند

د . محمد أنظر الندوي *

كان الشيخ الأغر الأبيض الهاشمي محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله ( المولود في 29 أكتوبر 1929م ) وارث بيت النبوة ، وأمين ندوة العلماء ، وخليفة العالم الرباني والمفكر الإسلامي أبي الحسن علي الحسني الندوي الذي طبق صيته الآفاق ، وسار بذكره الركبان . كان الفقيد ذا وجه بهي وقلب نقي ، وكان من أتقى عباد الله الصالحين ، حيث إنه كان متحلياً بالعلم والحلم ، والأدب والخلق ، وسلامة الصدر ، وطهارة النفس ، والزهد والعفاف ، والصلاح والتقى . وكان أسوةً حسنةً للعلماء والشيوخ وطلبة علوم الدين والشريعة الإسلامية الغراء ، لِما أنه كان يتصف بالزهد في الشهرة ، والفرار من الفخفخة وحب الظهور ، ولما أنه كان – وذلك بحد ما عبَّره الدكتور محمد أكرم الندوي إثر وفاة الراحل الكريم – : ” ما أشده تمسكاً بمذهب الشمول والاعتدال ، وما أثبته على محجة الحق والإنصاف ، وما أعظمه استقامةً على مسلك شبلي ، وسليمان ، وأبي الحسن ، وما أبعده عن الإفراط والتفريط ، وما أبلغه عداءً للعصبية العمياء ، والتزمت البغيض ، والجمود الممقوت ” [1] .

كان فقيدنا الغالي محمد الرابع الندوي أميراً لركب الأدب الإسلامي ، وزعيماً للمسلمين الهنود وأهل الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، في حين جفاهم الأقارب والأباعد . كان الفقيد في الواقع إمام الكرامة وجبل الحلم ، إنه تحمل حلماً وهمةً وقدراً حينما جهل الجهال وسفه السفهاء .

وُلد سماحة الأديب الكبير محمد الرابع الندوي لأسرة علمية عريقة في قرية ” تَكْيَهْ ” – الصغيرة مساحة والعظيمة مكانة – بمديرية راي بريلي في ولاية أترا براديش ، التي كان وُلد فيها وعاشها الإمام أبو الحسن علي الندوي وأسرته المحروسة ، والتي أنجبت شموساً في العلم والدين ، والصلاح والورع والتقوى ، وأضاءت بأشعتها أرجاء البلاد ، ونشرت العلم والروح ، ورفعت اسم الهند في العالم بأسره ، ومن أمثالهم : الشيخ علم الله الحسني ( م 1685م ) ، والرجل المشهور في عائلته هو الرجل الذي يعرفه العالم باسم السيد أحمد الشهيد ( اُستُشهِد في سنة 1831م ) ، والطبيب عبد الحي الحسني ( م 1923م ) ، والدكتور عبد العلي الحسني ( م 1961م ) ، والأستاذ محمد الحسني ( م 1979م ) ، والشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي ( م 1999م ) ، والشيخ السيد محمد واضح رشيد الندوي ( م 2019م ) ، وما سواهم .

درس الشيخ محمد الرابع في دار العلوم لندوة العلماء ، وتخرج فيها ، ليكون أستاذاً جامعياً بها ، ومتخصصاً في الشريعة الإسلامية والأدب العربي ، حيث أجاد العربية وأتقن فيها إلى جانب اللغة الأم ( الأردية ) . ودرس في دار العلوم ديوبند ، وكان من أساتذته هناك الشيخ حسين أحمد المدني ، والشيخ محمد زكريا الكاندهلوي ، ثم انطلق إلى الحجاز ( أي المملكة العربية السعودية ) في عام 1950م ، وأقام فيها أكثر من سنة قضاها في الدعوة ، وكسب العلم من مناهل العلم والمعرفة فيها ، وتلقى الدروس من علمائها ومشايخها البارزين ، ثم عاد إلى لكناؤ ، وعُيِّن أستاذاً مساعداً للأدب العربي في دار العلوم لندوة العلماء عام 1952م .

عاش الشيخ محمد الرابع الندوي حياةً طويلةً حافلةً بالعمل الدؤوب والتربية الحسنة والتعليم الراقي والوظائف المؤثرة ، فكان انضم إلى الهيكل التدريسي بدار العلوم لندوة العلماء ، لكناؤ ، وإلى جانب التدريس تولى إدارة ندوة العلماء عام 1993م بعد وفاة مديرها في ذلك الحين الشيخ محب الله الندوي اللاري ، وصار رئيساً عاماً لها في يناير عام 2000م بعد وفاة خاله الشيخ أبي الحسن علي الندوي . إنه كان من أبرز مؤسسي رابطة الأدب الإسلامي العالمية ، التي صار نائباً لرئيسها ، ورئيساً لمكتب شبه القارة الهندية ، وآلت إليه الرئاسة أعقاب وفاة رئيس الرابطة د . عبد القدوس أبي صالح . وكان عضواً في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ، ورئيساً لهيئة الأحوال الشخصية لمسلمي الهند مع عضويته في مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية في بريطانيا .

قد تربى فقيدنا الشيخ محمد الرابع على يد خاله الشيخ          أبي الحسن علي الندوي ، ذلك الرجل الذي كان مفخرة العالم الإسلامي برمته ، والرجل الذي أجمعت الأمة على عبقريته ، ونهل من منهله ، واصطبغ بصبغته ، وتشرب روحه وفكره ، واضطلع بمهامه . وكان الفقيد من صنعه ، فكان متزوداً بنفس الحب واللطف ، ونفس الأسلوب اللطيف لأداء الصلوات والعبادات ، ونفس صدق العمل ، ونفس حسن الخلق ، ونفس الحذر في الحديث حتى لا ينكسر قلب أحد ، الذي تزود به خاله العظيم الشيخ أبو الحسن علي الندوي . وفي الحقيقة إنه كان صنو خاله العبقري العصامي في الصفات والشمائل ، وفي التألم للدين الإسلامي الحنيف ، والتحرق للأمة الإسلامية الهندية على أوضاعها الحرجة ، وفي التحلي بالأخلاق السنية ، وفي قيادة سفينة المسلمين الهنود في العُباب المضطرِب والأفق المُكْفَهِرّ ، وفي الاهتمام بالعلم والدين والدعوة والتوجيه والإرشاد نشراً وتبليغاً . وظهر حصاد هذه التربية بشكل كونه خير خلف لخير سلف .

لقد كان الشيخ محمد الرابع بالفعل خير خلف لسلفه الشيخ السيد أبي الحسن علي الندوي . إنه كان صديقه المقرب لعدة عقود ، وكان يصاحبه في جميع الأوقات ، في حله وترحاله ، وفي نشاطاته الدعوية والأدبية ، وفي رحلاته الخارجية التي تضمنت عدداً من بلدان أوروبا وآسيا وإفريقيا . وكان من أقرب الناس إليه ، وحافظاً لأوراقه وتراثه . وإنه مثل الإمام الندوي في مناسبات عديدة ، وتحدث نيابةً عنه في الملتقيات والمنتديات العلمية والأدبية والثقافية عدة مرات ، وكلما كان الإمام الندوي يقبل مسؤوليةً ، فكان الشيخ محمد الرابع هو الذي يؤدي أمانته ، وكان عليه أن ينفذها ، وليس هذا فقط بل أصبح مظهره مثل مظهر خاله الشيخ أبي الحسن علي الندوي ، ولا شك أن الشيخ محمد الرابع الندوي كان وريثه الحقيقي بلا منازع .

كان الأستاذ محمد الرابع أديباً كبيراً وعالماً جليلاً ، وبسمته الهادئ الوديع يتفجر حماسة بالنشاط والقراءة والدرس والبحث ، من أجل تقديم أجيال جديدة والناشئين الجُدد من المسلمين الهنود ترتبط بتراثها الإسلامي وتحافظ على اللغة العربية في الهند .

يمتلك الشيخ محمد الرابع قلباً رؤوماً ، ونفساً رقيقةً ، وصدراً سمحاً ، وكلاماً رقيقاً ، وتواضعاً متصاعداً ، ولهجةً لطيفةً ، وخلقاً عظيماً . وكان سماحته ناعماً كالحرير في أوساط الأحبة والأصدقاء ، كما كان رمزاً لوحدة المسلمين ، وكان رئيساً لرابطة الأدب الإسلامي العالمية في شبه القارة الهندية ، وهي رابطة أدبية امتدت إلى العالم بأسره ، وتوجد لها فروع في مختلف البلدان والأمصار ، وقام بتأسيسها سماحة الشيخ أبو الحسن علي الندوي والرجال الأكفاء من أهل العرب .

أنعم الله عز وجل على الفقيد بعلم وحكمة غير عاديين ، ويمكننا أن نناقش عبقريته متعددة الأوجه بأبعاد مختلفة كعالم  إسلامي ، ومفكر ، ومربٍّ ، ومؤرخ ، وناقد ، وأديب ، وديني ، ومعلم ، ومصلح ، وخطيب ، وصحفي ، وفقيه ، وكاتب ، ومتحرق للأمة على أوضاعها المروعة المكروهة ، وكاتب سيرة الرسول الأكرم صلوات الله عليه وسلامه ، ومتحدث باسم محنة المضطهدين والفقراء والضعفاء المتشردين ومَن في حكمهم .

لقد حظي الشيخ محمد الرابع الندوي من حب الأمة المسلمة في الهند والبلدان الإسلامية الأخرى بنصيب أوفر يندر نظيره في مصاف العلماء والقادة والزعماء ، ويُستدل على هذا بواقع اتفاق كلمة الأمة عليه في اختياره رئيساً لهيئة الأحوال الشخصية لمسلمي الهند في حيدرآباد         ( الهند ) سنة 2002م ، وهو لم يكن موجوداً في الاجتماع الذي اختاره فيه أعضاء الهيئة رئيساً لها ، وقد اعتذر الفقيد عن تولي مهام الرئاسة في أول الأمر ، ولكن لما وقع الاختيار عليه ، قبِلها على مضض ، مراعاةً لمصلحة الأمة ، وشعوراً منه بواجبه نحو أمته ، واهتماماً بأمورها ، وحرصاً على حل قضاياه المرهقة ومشاكلها الحرجة . كل منا يعرف أن تولي مهام الرئاسة للهيئة التي تموج بالاتجاهات والرؤى والأفكار والمذاهب ، ليس أمراً ميسوراً ، ولكنه قادها قيادةً موفقةً في حذق وبراعة ، ويقظة وصبر ، ووعي وثقة ، بنصر الله وعونه .

كان الشيخ محمد الرابع عالماً متضلعاً من علوم الشريعة الإسلامية ، وكان له نظر في علوم الكتاب والسنة ، وكان يلم بأسرارها ورموزها ، وكتاباته ومؤلفاته وخطبه خير دليل على تضلعه وإتقانه . وكان يعكف على دراسة الكتب لأبرز المؤلفين في العالم ، ويستوعبها ، وحتى تعرف على أفكار العلماء العرب ونظراتهم من خلال منشوراتهم العلمية والفكرية .

كان الشيخ المغفور له رجلاً مشغوفاً بالأدب والإنشاء والتعبير ، وذلك منذ أن كان طالباً في دار العلوم التابعة لندوة العلماء ، ومنخرطاً في سلك التدريس بها ، حيث إنه قد كان تولى منصب الأديب الأول ، ثم عمادة كلية اللغة العربية بدار العلوم لندوة العلماء ، وكان يُدرّس كتب الأدب ودواوين الشعر لفحول الشعراء العرب ، ويؤلف الكتب في الأدب والإنشاء والتعبير ، وكان له اختصاص في مجال الأدب والتعبير ، وله إسهامات قيمة في تطوير اللغة العربية وآدابها ، ونراه أنه ألف خمسة عشر كتاباً باللغة العربية ، وفيما بينها في موضوع الأدب العربي بوجه الخصوص كتابه المعروف بـ ” الأدب العربي بين عرض ونقد ” ،              و ” منثورات من أدب العرب ” ، و ” مختار الشعر العربي ” ( جزءان ) ،       و ” تاريخ الأدب العربي : العصر الإسلامي ” . وهذه الكتب من المقررات الدراسية في دارالعلوم لندوة العلماء والمدارس العربية الدينية الأخرى في مختلف أرجاء الهند . وأهمية كتابه المعنون بـ ” الأدب العربي بين عرض ونقد ” تكمن في أنه أول كتاب وُضع لشباب لم يعرفوا من الأدب العربي إلا مختارات قليلةً من النثر والشعر ومعلومات بسيطةً عن تاريخ الأدب العربي ، ويضم الكتاب مجموعةً من الفصول حول حقيقة الأدب والنقد والتحليل ونماذج من حيث القيمة الأدبية حسب العصور : الجاهلي ، والإسلامي الأول ، وعهد المدنية والحضارة ، والنهضة الحديثة . وله كتاب بالأردية باسم ” جزيرة العرب ” ، وموضوعه جغرافية جزيرة العرب ، وهو منفرد في موضوعه ، وهو داخل في المقررات الدراسية هو الآخر ، وكتابه الآخر بالأردية المسمى بـ ” حج اور مقامات حج ” ، ويناقش فيه عن الأماكن التي يمارسها الحجيج أثناء زيارتهم لها ، وهو أول كتاب تم تأليفه بالمنهج الجغرافي ، ويكمل ضرورة البحث العلمي لهذه الأماكن والمواقع . ألف الشيخ عبد الماجد الندوي كتاباً في جزئين ، باسم ” معلم الإنشاء ” لتدريب الطلاب والناشئين على اللغة العربية والترجمة من العربية إلى الأردية وعلى العكس . وكانوا بأمس حاجة للجزء الثالث من هذا الكتاب للصف المتقدم ، فقام الشيخ محمد الرابع الندوي بإكمال هذه الضرورة ، وألف كتاباً باسم ” معلم الإنشاء ” ( الجزء الثالث ) . وهذا الكتاب هو الآخر في موضوع اللغة العربية وتدريسها للناطقين بالأردية ، وضمن مقررات المنهج الدراسي .

ومن حسن حظي وسعادتي أنني قرأت على الشيخ محمد الرابع الندوي كتابه هو ” الأدب العربي بين عرض ونقد ” عندما كنت طالباً في السنة العالية الرابعة في كلية الشريعة وأصول الدين بدار العلوم لندوة العلماء ، لكناؤ ، وذلك في عام 1997م ، وأتذكر حتى الآن أن منهجه التدريسي كان سهلاً ميسوراً ، سائغاً مقبولاً لدينا نحن الدارسين ، خفيفاً على مسامعنا ، جميلاً جمال الأدب ، مؤثراً تأثير القول الجميل الجذاب ، رائعاً روعة الأزهار الباسمة ، ينال من الطالب كمثلي الرضا والاقتناع ، ويشرح الكلمات الغامضة في النثر والأبيات في الشعر شرحاً يفي المستلزمات ، ويلذ الطلاب المشاركون سماعه ، ويتمنون لطوال الساعة ليستمتعوا بكلامه العذب الماتع ، وحديثه الأحلى من جني الشهد .

يكتب تلميذه الأديب العربي الكبير الشيخ محمد نعمان الدين الندوي رئيس تحرير ” الصحوة الإسلامية ” الصادرة عن دار العلوم حيدرآباد سابقاً ، في شأن أسلوبه ، وهو يقول :

” عندما كان يشرح الكلمات شرحاً لغوياً ، فكان يشرح شرح المتمكن القدير من العربية ، المُلِمّ بدقائقها وخصائصها ، العارف بفوارق المترادفات من الألفاظ والكلمات ” [2] .

وكما يصف أسلوبه تلميذه الدكتور محمد أكرم الندوي العميد للشؤون التعليمية والأستاذ في كلية كامبريدج الإسلامية ، والأستاذ في معهد السلام بأوكسفورد ولندن :

” يكتب في الأسلوب العلمي الواضح ، الذي يؤدي الرسالة ويقنع ، لا الذي يصاغ فيمتع ، ومنشأ ذلك حبه للحرية والصراحة ، فيرسل النفس على سجيتها ، ويعرض الفكرة على حقيقتها من غير تمويهها ، ومع ذلك فلأسلوبه طابعه المتميز ، إنه أسلوب عالم يبحث لينتج ، أو مصلح يصف ليعالج ، على أنه يتوخى الجمال أحياناً ، لا سيما في كتاباته واختياراته الأدبية ” [3] .

قد درّس الشيخ محمد الرابع الندوي في دار العلوم لندوة العلماء قُرابة أربعة عقود من الزمن ، فقد ظل يُدرّس الطلاب ، ويُعلّم الدارسين ، ويضيئ الباحثين عن نور العلم والمعرفة ، منذ أن تخرج إلى أن لبّى نداء ربه في ظهر الخميس بتاريخ الثاني والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وأربعين وأربع مائة وألف الهجري ، المصادف الثالث عشر من أبريل عام ثلاثة وعشرين وألفين الميلادية ، عن عمر يناهز خمساً وتسعين سنة . فكان بحق أستاذ الأجيال ومربي آلاف من الأساتذة والعلماء والشخصيات البارزة ، وكان قاسم الخيرات والحسنات ، إذ تخرج العديد من الكتاب والمؤلفين المبدعين على يديه ، وفي الحقيقة إنه كان يبني المجد ، ويربي الجيل ، ويعلم الدارسين ، ويوجه المتفقدين ، ويرشد المسترشدين والمنخرطين بسلك نظام السلوك والتربية ، ويصنع الأذهان والأدمغة ، ويعد الرجال والأكفاء ، وينير درب الحياة .

تتميز أسرة الشيخ محمد الرابع الندوي بالعلم والفضل والدعوة والصلاح والتقى والمجد ، كما هي معروفة بأسرة التأليف والتنقيب العلمي ، فقد نبغ فيها المؤلفون الأمجاد وصاحبات علم وفضل وأدب ، ألّفن الكتب ، وقرضن الشعر . كان الشيخ محمد واضح رشيد الندوي شقيقه الصغير كاتباً عملاقاً ومفكراً بارزاً للغة العربية ، ومؤلفاً للعديد من الكتب ، وكان شقيقه الآخر الشيخ محمد الثاني الحسني شاعراً وكاتباً ومؤلفاً جيداً جداً ، إنه هو الذي كتب ترنيمة دار العلوم لندوة العلماء . وكان ابن خاله الأستاذ محمد الحسني كاتباً ممتازاً وصحفياً عربياً شهيراً ، وخاله الشيخ أبو الحسن علي الندوي معروف للعالم الإسلامي بأسره ، ففحوى القول أن أسرته كلها مثال للشمس التي تشرق الداني والقاصي بضوئها المنير .

ومن هنا ، اشتغل فضيلة الشيخ محمد الرابع بمهمة الكتابة والتأليف منذ شبابه المبكر ، فترجم كتاباً للشيخ عبد الباري الندوي باسم ” تجديد تصوف وسلوك ” من الأردية إلى العربية ، وكان في العشرين أو الثاني والعشرين من عمره آنذاك . كان كاتباً غزير الإنتاج ، وصدرت عن قلمه تأليفات قيمة ، باللغتين العربية والأردية ، وذلك أكثر من أربعين كتاباً . إن عمله الأدبي والإبداعي متعدد الأبعاد ، ويتضمن هذا : العقيدة والشريعة والأدب والتعبير والسيرة والتاريخ والجغرافيا والرحلات والقضايا العامة ، تم تضمين كتبه المختلفة في مناهج مختلف المؤسسات ودور العلم ، بما في ذلك دار العلوم لندوة العلماء ، لكناؤ . ومن أهم منشوراته وكتبه : ” ندوة العلماء : فكرتها ومنهجها ” ،          و ” العالم الإسلامي اليوم : قضايا وحلول ” ، و ” شهران في أمريكا ” ،   و ” سراجاً منيراً ” ، و ” الغزل الأردي ومحاوره ” ، وما إلى ذلك . صدر له كتابان في مجال الأدب الإسلامي ، الأول بعنوان ” الأدب الإسلامي وصلته بالحياة مع نماذج من صدر الإسلام ” ، والثاني بعنوان ” أضواء على الأدب الإسلامي ” ، وفي الكتابين تتبلور رؤية المؤلف ونظرته لفكرة الأدب الإسلامي ، انطلاقاً من استخدام السلف نصاعة التعبير في الموضوعات العلمية والتعليمية ، فضلاً عن الأدبية . وله كتاب في مجال الاجتهاد الفقهي بعنوان ” أضواء على الفقه الإسلامي ومكانة الاجتهاد منه ” ، وهو يدافع فيه عن الشريعة الإسلامية ، ويدعو العلماء المجتهدين إلى الاجتهاد الفقهي لسد الفجوات التي أصابت المجتمعات الإسلامية في عالم اليوم . ثمة كتب أخرى للشيخ محمد الرابع ، يضيق المجال عن تناولها والتعليق عليها .

تتميز كتاباته ومنشوراته بالأسلوب العلمي الجاد الرصين ، والتعبير السلس ، والعرض المتزن ، والأداء السهل ، لا يجنح إلى الظلم ولا يركن إلى العدوان ، يهتم بعفة القلم وصيانته من الانحراف والانتحال ، ويصفو فكره وتأمله السديد ، ورأيه الصائب من كل ريب وتشكيك ، ويبعد تماماً من الزخارف اللفظية ، والتعقيد والصعوبة في استخدام الكلمة وأداء المعنى ، ولا ينحاز إلى التصنع في التعبير عن مواقفه وتأملاته وخواطره ومشاعره . على الرغم من أن أسلوبه كان هادئاً سهلاً رزيناً ، ولكنه كلما كان يكتب فينثر الدرر واللآلي الفكرية الخصبة الثرية .

كان الشيخ الراحل الكريم صحفياً بارعاً ، احتل مكانةً مرموقةً في مجال الصحافة بوجه العموم ، وفي مجال الصحافة العربية في الهند بوجه الخصوص ، نظراً لمعرفته الواسعة في جميع العلوم الدينية ، بما في ذلك الفقه الإسلامي ، ومعرفته المتعمقة باللغات المختلفة مثل الأردية والعربية والفارسية والإنجليزية ، فقد ألقى الضوء بشكل صريح على كل موضوع بالتفصيل ، ودبّج مئات من المقالات باللغتين العربية والأردية . كتب الكثير عن مشاكل المسلمين وعن موضوعات الساعة وما عداها من الموضوعات العلمية والدينية والأدبية ، وقاد الأمة عن طريق كتاباته الرصينة والرؤية الإسلامية المتزنة ، بطريقة مدروسة للغاية . وعادةً ما تنشر هذه المقالات الفكرية له في مجلة ” تعمير حيات ” الأردية الصادرة عن ندوة العلماء بلكناؤ ، ومجلة ” البعث الإسلامي ” ، وجريدة  ” الرائد ” الصادرتين عن ندوة العلماء . وبالإضافة إلى ذلك ، كان الفقيد محمد الرابع الندوي راعياً لخمس مجلات منشورة من ندوة العلماء ومشرفاً عليها ، مثل : الرائد ، والبعث الإسلامي ، وتعمير حيات ، وThe Fragrance of East  ( رائحة الشرق ) بالإنجليزية ، و ( ساتشا راهي ) Sachcha Rahi ( الرائد الصادق ) بالهندية ، وساهم فيها جميعاً بانتظام .

وبما أنه كان أصدر جريدة ” الرائد ” العربية النصف الشهرية منذ أكثر من ستة عقود من الزمن وبالتحديد في عام 1959م ، وكان ممن أيّد فكرة إنشاء مجلة ” البعث الإسلامي ” ، وظل يكتب فيهما بتواصل واستمرار ، وشارك في المجال الصحفي الإسلامي والأدبي بالكتابة أو رئاسة التحرير ، وشارك بالكتابة والإدارة في مجلات إسلامية تصدر بالأردية ، ومنها الندوة ، وصدق ، ومعارف ، والضياء ، وغيرها ، فيعد من رُوّاد الصحافة العربية في الهند .

وتقديراً لأعماله في خدمة اللغة العربية منحه رئيس جمهورية الهند الجائزة التقديرية في عام 1982م ، ومنحه المجلس الهندي لأترابراديش الجائزة التقديرية تقديراً لخدماته في مجال الأدب العربي ، ومنحته مكتبة رضا برامبور بولاية أترابراديش جائزةً تقديريةً .

لم يكن الشيخ محمد الرابع الندوي خطيباً حماسياً مصقعاً ، ولكنه كان صاحب قلب حي نابض يرتجف لاضطهاد المسلمين ، ويتحرق على أوضاع الأمة المسلمة ، ولذا إذا كان يتحدث إلى فرد أو جماعة ، إلى ملتقى أو جموع حاشدة ، فتحدث حديثاً مؤثراً يدخل القلب ، وكان حديثه عادةً يتسم بحلاوة الجملة ، وغزارة المعنى ، وسمو الروح ، وإشراق النفس ، وسحر الإخلاص ، دون اللجوء إلى تكلف وتصنع وتشدق .

أبرز نواحي حياة الشيخ محمد الرابع هي الأخلاق الفاضلة المثالية والإنسانية النادرة ، وهي التي أضفت عليه مسحة القبول والمحبوبية من لدى العلماء والقادة والزعماء والأمة المسلمة ، حيث إنه بلغ من اللين والنبل والتواضع والصبر والحلم منزلةً لا يصل إليها إلا قليل . وكان بحكم طبيعته يؤلف القلوب ويحسن إليها ، ويراعي مشاعر الناس وعواطفهم ، ويستجيب لطلباتهم ، وكان يفتش عن أحوال الناس ويواسيهم ، ويتفقد كوائف الأقارب والأحبة ، ويحافظ على الصلات الودية معهم ، كان يحب الخير للناس ، ويتحلى بالنبل والكرامة ، ويتواضع لله ولرسوله الصادق الأمين حتى رفعه الله إلى المنزلة الرفيعة ، وجعل القلوب تنجذب إليه انجذاب الحديد إلى المغناطيس .

يكتب الأستاذ خليل الحسني الندوي في مقالته الأردية المطبوعة بعنوان ” جدي في مرآة خصائصه المنفردة ” أن خادم الراحل الكريم المولوي سحبان الباتكلي يقول : ” لقد صحبته أكثر من عشر سنوات ، ولكنه لم يقل لي قط : لم فعلت كذا ؟ ولم لم تفعل كذا ؟ وما غضب علي ولا مرةً واحدةً ” [4] .

كان رحمه الله صابراً على حدَثان الزمان ، ومبتعداً عن الفساد الخلقي . يكتب الكاتب الإسلامي الكبير البروفيسور محسن عثماني الندوي ، العميد والأستاذ الأسبق في جامعة اللغة الإنجليزية واللغات الأجنبية بحيدرآباد ، الهند :

” كان الشيخ مولانا محمد الرابع الندوي يبتعد عن الغيبة والبغضاء ، ويحترم العلاقات الأسرية والشعبية سواسيةً ، ويهتم بحاجات الفقراء ، ويتأمل من أجل تفوق الإسلام ، ويلم بالعالم الإسلامي ونصرة المسلمين ، ويكثر العبادة ، ومع كثرة العبادة وغزارته يهتم بأداء الحقوق والأمانة ، ويستحضر النية دائماً ويحتسب ، ويصل الرحم ، ويستضيف الناس ، ويوقر العلماء ، وكان له غنى عن المال والثروة ” [5] .

كان الشيخ محمد الرابع موفقاً منصوراً من الله سبحانه وتعالى للقيادة التي جاءت تسعى إليه ، ولم يطلبها قط ، ولا رغب فيها ، بل وُلِّيَها وهو زاهد فيها . هذه الصفات المذكورة أعلاها كانت نتيجة التعليم والتربية والتزكية والسلوك الذي تلقاه من قبل مشيخته سماحة العلامة أبي الحسن علي الندوي . وجلس في مجالس العلماء والصلحاء العُبّاد ممن مضوا ، واستفاد منهم في مجال التزكية والإحسان والسلوك ، نحو : الشيخ إلياس الكاندهلوي ، والشيخ أشرف علي التهانوي ، والشيخ حسين أحمد المدني ، وشيخ الحديث محمد زكريا الكاندهلوي ،        وعبد الفتاح أبو غدة رحمهم الله .

فحوى القول أن الشيخ محمد الرابع الندوي كان رجلاً طالما وقف مدافعاً عن مسلمي شبه القارة الهندية وخادماً لقضاياهم ، وكان أحد أعلام الأمة المسلمة المخلصين الذين سخروا فكرهم وأدبهم لخدمة أمتهم إلى أن استأثرت رحمة الله سبحانه وتعالى به . نسأل الله العلي القدير أن يغفر له ويرحمه رحمةً واسعةً ، ويعفو عنه ، ويجزيه خير الجزاء ، ويكرم نزله ، ويدخله جنة الفردوس ، ويحشره مع النبيين والصديقين وحسن أولئك رفيقاً .


* الأستاذ المشارك بقسم الدراسات العربية ، جامعة اللغة الإنجليزية واللغات الأجنبية ، حيدرآباد ، الهند . itsanzar@gmail.com

[1] الدكتور محمد أكرم الندوي ، أوكسفورد : إنا لفراقك لمحزونون ، وفاة العلامة الشريف محمد الرابع الحسني الندوي ، صفحات الواتساب من وسائل التواصل الاجتماعي .

[2] مولانا محمد نعمان الدين الندوي : سلسلة شخصيات أعجبتني ( 15 ) : فقيد الأمة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ، المصدر : الفيسبوك ، 7 من يونيو 2023م .

[3] الدكتور محمد أكرم الندوي : بغية الطابع لأسانيد العلامة الشريف محمد الرابع ، دار القلم ، دمشق ، ص 38 – 39 .

[4]  مولانا خليل الحسني الندوي: ابا اپنی انفرادی خصوصیات کے آئینے میں / جدي في مرآة خصائصه  المنفردة ، المصدر: صفحات الواتساب من وسائل التواصل الاجتماعي . ( والأستاذ خليل أحمد الحسني هو حفيده ) .

[5] البروفيسور محسن عثماني الندوي : ملال یہ ہے کہ دہلیز عاشقاں بھی گئی ، مجلة أرمغان الأردية ، عدد خاص بذكرى الشيخ محمد الرابع الندوي ، يوليو 2023م .