معسكران في العالم الإسلامي
أكتوبر 17, 2022شجرة طيبة أصلها ثابت ، وفرعها في السماء
يناير 9, 2023صور وأوضاع :
ثقافتنا وتحديات العصر
محمد فرمان الندوي
انتشرت في عالمنا المعاصر ثقافات متنوعة ، منها ما تدَّعي بشموليتها واتساعها ، ومنها ما تنتمي إلى مساحاتها المكانية والزمانية ، وكل هذه الثقافات من صُنع الإنسان وطوارق الحدثان ، مضى عليها قرن أو قرنان أو ثلاثة قرون ، وهي تبهر بلمعانها وتسحر ببريقها ، فتسلب عقول الناس صغاراً وكباراً ، ورجالاً ونساءً ، ويسعى وراءها الجيل الناشئ سعياً حثيثاً ، ويخطط لها برامج ، ويرتب لها أيدلوجيات واستراتيجيات ، وسرعان ما ينكشف له الواقع ، فيتحسر ويعض عليه يد الندامة، ولات حين مناص .
بين الثقافة والحضارة :
لا شك أن الثقافة هي الفهم والذكاء ، والعلم والأدب ، وهي مجموعة من الأفكار والعادات التي يتكون منها قوام أمة وبنيتها ، وتنصهر في بوتقتها جماعة وشعب ، أما الثقافة الإسلامية فهي تصبغ فكرة الإنسان نحو العقيدة والعبادة والعادات والقيم الإسلامية التي انحدرت إلينا من السلف الصالح ، فالثقافة الإسلامية أساس مجد الإنسان ، وقوام هويته وشخصيته ، وهي ثابتة الأصول وباسقة الذرى ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، وهذه الثقافة ربانية المنهج ، تكتسب أصولها من القرآن والحديث ، وتتميز بالشمول والكمال ، والتوازن والاعتدال ، ولا تتصف بالتزمت والجمود ، بل تختص بالتطور والثبات ، فقد عُد من مصادرها السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي واللغة العربية التي هي أرقى اللغات وأغناها ، وقد ورد فرق بين الثقافة والحضارة ، فالحضارة هي تقدم مادي وصناعي وزراعي يستخدمه الإنسان في رقي حياته ،أما الثقافة فهي القيم الإنسانية التي تتصل بداخل الإنسان من حيث الرقي الروحي والعقلي والخلقي ، فالحضارة كما قال ابن خلدون في مقدمته : نهاية العمران .
عهد الإسلام الذهبي :
فثقافة الأمة هي تحدِّد شخصيتها وتبرز وجودها ، وقد كانت الأمة الإسلامية متميزةً بين الأمم بثقافتها وحضارتها ، وكانت شامةً بين الأمم ، وكلما اجتمعت الأمم والأقوام سبقتها هذه الأمة بأفكارها ومفاهيمها ، فإنها كانت تملك نظام حياة ، ومنهج عيش في كل جزء من أجزاء الحياة ، وكانت غنيةً بعقائدها وعباداتها وتعاملاتها الإسلامية ، فلم تنظر إلى الأمم الأخرى وإن كانت متقدمةً منها في المال والسلطة ، نظرة إعجاب وتقدير ، ولم تقلِّد ثقافتها ولم تتبع حضارتها ، بل إن هذه الأمم المتقدمة نظرت إليها نظرة إجلال واحترام ، وقد فاق المسلمون في أقل من خمسين سنة أمم العالم ، وخرجوا من جزيرتهم العربية ، وفتحوا مناطق شاسعةً في الشرق والغرب ، وخضعت أمامهم الأكاسرة والقياصرة ، واستسلمت لأوامرهم الجبابرة والنماردة ، وقد أنشأوا مراكز للثقافة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة ، وبلغ بهم الحال في عهد بني أمية وعهد بني عباس إلى أوج الكمال ، فكان العهد العباسي هو عهد الإسلام الذهبي الذي أثرى كل جانب من جوانب الحياة .
ونذكر على سبيل المثال هناك جملتين ، وهما تشيران إلى الثقافة الإسلامية في هذين العهدين ، الجملة الأولى هي التي قالها سيدنا عمر بن عبد العزيز رحمه الله حينما أقبل الناس على اعتناق الإسلام في عهده ، فشكى إليه الجباة أن الخراج أصبح قليلاً بكثرة إسلام الناس ، فقال سيدنا عمر بن عبد العزيز رحمه الله : إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يُبعث جابياً ، وإنما بُعث هادياً ، هذا دليل على أن الإسلام قد تغلغل في أحشاء هذا المجتمع ، وكانت للثقافة الإسلامية جولة وصولة ، ولم يكن كسب المال وجبي الخراج في زمن من الأزمان غاية الحكومات الإسلامية ، والجملة الثانية هي للخليفة العباسي هارون الرشيد الذي كانت عاصمة حكومته بغداد ، وكانت دوائرها قد اتسعت كثيراً ، بحيث أينما نزل المطر ، ونبت منه النبات ، فكان خراجه وضريبته يأتي إلى الخليفة ، قال هارون الرشيد وهو يخاطب سحابةً وقد مرت به : ” أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك ” .
هذه آثارنا تدل علينا :
وقد ازدهرت الحركة العلمية في هذين العهدين ازدهاراً ملموساً ، فدُونت العلوم ، ورتبت الفنون ، واكتشفت المخترعات ، فنشأ بجنب المفسرين والمحدثين والفقهاء والشعراء والأدباء ، نشأ بجنبهم البارعون في العلوم الطبيعة ، والفلاسفة الحاذقون ، والأطباء الماهرون ، الذين وسَّعوا نطاق هذه العلوم الحديثة ، وأتوا بتجارب جديدة لم يسبق إليها الأمم الماضية ، فكانت الأمم والأقوام المعاصرة تنهج مناهجهم وتقلد أساليبهم تلهفاً وشوقاً إليهم ، وقد كان في علوم اللغة حماد الراوية والخليل بن أحمد الفراهيدي وأبو عبيدة معمر بن المثني ، وكان في التاريخ ابن جرير الطبري ومحمد بن سلام الجمحي والواقدي والخطيب البغدادي ، وابن خلكان وابن خلدون ، وكان في الجغرافية ابن خرداذبه ( 232هـ ) صاحب المسالك والممالك ، والمسعودي وياقوت الحموي وغيرهم ، وقد وسع المسلمون علم الكلام ، فكان في هذا الفن أبو الهذيل العلاف ، وإبراهيم بن سيار النظام ، والإمام الغزالي ، فكان في الفلاسفة العرب يعقوب الكندي ومحمد بن زكريا الرازي والفارابي وأبو علي سينا ، والبيروني وابن الهيثم وابن الطفيل وابن الهيثم ومسكويه وغيرهم .
وقد أنشأ المسلمون مراكز للثقافة الإسلامية ، فقاموا بتطوير بعض المدن تطويراً ثقافياً ، وجعلوها معالم للثقافة الإسلامية ، منها البصرة والكوفة والفسطاط ودمشق وبغداد ، والقاهرة وقرطبة والزهراء ، ومدينة الرباط ومدينة مراكش ، كما أنشأوا الجوامع الإسلامية ، فكانت هذه الجوامع مثالاً رائعاً للثقافة الإسلامية ، منها جامع الزيتونة وجامع قرطبة وجامع ابن طولون ، والجامع الأزهر وجامع القرويين ، والجامع الأموي في دمشق ، أما المدارس والمكتبات والمستشفيات التي أقامها المسلمون عبر العصور القرون فإنها تمثل تمثيلاً رائعاً للثقافة الإسلامية .
هذه الثقافة غنية بآثارها ومعالمها ، وهي تبيِّن مدى علاقة المسلمين بالإسلام وعلومه ، فلم يترك المسلمون جانباً من جوانب الحياة ، إلا وقد ملأوه بنتاج أفكارهم وثمار عقولهم ، وقد أعجب بها القاصي والداني ، وقضوا منها العجب العجاب ، ولم يقدِّموا حتى الآن مثالاً لهذا الفن الإنشائي والبنائي ، ولا شك أن هذه الآثار دليل على عظمة المسلمين وسابق مجدهم :
هذه آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
رقي أوربا مدين للإسلام :
انبهر الغرب برؤية هذا الازدهار العلمي والثقافي للأمة الإسلامية ، فأكب على الأخذ به والاقتباس منه ، وقد بنى رقيه وازدهاره على علوم المسلمين وفنونهم ، فجعلها سُلَّماً للخروج من الأمية التي كان يعيش فيها ، ولا يزال يتطور ويزدهر ، حتى نال فيه قصب السبق ، فإن ما يوجد في الغرب اليوم من علوم وثقافات وفنون وصناعات كل ذلك مدين للإسلام وأهله ، ومما يقضي منه العجب أن أساس هذه العلوم قد أخذه الغرب من عواصم الثقافة الإسلامية ، واستفاد منها استفادةً كاملةً ، ثم خلط في ذلك فكرته المعوجة ونظرته المادية ، وأعان على ذلك مفكروه الملحدون ، فتشكلت ثقافة غربية مغايرة للثقافة الإسلامية ، كان فيها النفع العاجل ، وتجميل الظاهر ، وإن كان الباطن نجساً ، وإشباع الغرائز ، وتسلية النفوس والأرواح ولو على حساب الدين والخلق ، وقد تسرب هذا العنصر في التعليم ، فكان التعليم تجارةً وحرفةً ، رغم أنه كان من قبل شرفاً وعظمةً منقطع النظير ، ودخلت هذه الفكرة المادية في كسب العيش ، فسيطر التكا ثر في الأموال والأولاد ، فكان في الغرب حسن التنظيم والإدارة ، لكن ليس وراءه ابتغاء وجه الله تعالى ، بل كسب توجهات الناس والتفاتاتهم .
تحديات العصر وواجبنا نحوها :
هذه الثقافة الغربية دعت المرء إلى التحرر من قيود الحشمة والوقار ، ونادت بأعلى صوتها إلى الانضمام إلى ركب الحضارة ، ولو أضر ذلك بأنوثة النساء ، وقد جعلت المجتمع الإنساني مجتمعاً مادياً بحتاً ، فلا علاقة بين الأب والأم ، والوالد والولد ، والزوج والزوجة إلا على أساس المادة والمعدة ، وأثرت هذه الثقافة في أستاذية الأساتذة والمربين ، فأصبح العلم والفن يُباع ويُشترى ، وينظر إليهما الناس كسلعة في المتاجر والدكاكين ، أما العلاقة بين الرب والعبد في هذه الثقافة فهي كالشيئ المعدوم ، كأنها نشأت على الإلحاد والزندقة والكفر الإنكار لله تعالى ، لا توجد فيها أصول ثابتة تقوم عليها هذه الثقافة ، وظاهر أن كل شيئ لا أساس له ينهار ، ويصاب بالزوال والانحطاط .
وقد واجهت الثقافة الإسلامية من الثقافة الغربية تحديات كثيرة ، منها مشكلة الحداثة والتبعية ، وآفة المخدرات والتمييز العنصري ، ووسائل الغزو الفكري ، هذه التحديات كادت أن تقضي على الثقافة الإسلامية لولا بناؤها على أسس سليمة من الإيمان والتقوى ، فالثقافة الإسلامية إذا ظهرت في صورتها الأصيلة ذابت أمامها أشباح الثقافة الغربية ذوبان الشمعة ، لأنها تملك من التأثير والانفعال ما لا تملك الثقافة الغربية ، وأين فقاقيع الماء من القعر ؟ شتان بينهما ، وقد أحسن وأجاد الدكتور عليان : ” وخلاصة القول في هذا الموضوع أنه بالاستعداد الروحي والاستعداد الصناعي والحربي والاستقلال التعليمي ينهض العالم الإسلامي ، ويؤدي رسالته ، وينقذ العالم من الانهيار والدمار ” ( الثقافة الإسلامية وتحديات العصر : 520 ، طبع دار الرشيد ، الرياض 1981م ) .